— الديانة المصرية وفلسفتَها الميتافيزيقية كانت أسبقَ من الفلسفة اليونانية في اكتشاف أهم المنجَزات التي اعتُبر اليونان بسببها أولَ المتفلسِفين فوضعَت أهم الأسس لأكبر نظريتَين في الوجود «نظرية الفيض.. ونظرية الخلق بالكلمة ”
— المواطنة مبدأ لا يقبل التجزئة أو الانتقاص أو الحصر.. لأنها ملك الجميع حيث الوطن وطن الجميع
— العلم يحتاج إلى تربة يُبذر فيها ويُروى لينمو بتدريب العقل على المنهج العلمي في التفكير
«لا شك أن إهدار التراث القديم دون بحثه، وبحث ظرفه الموضوعي، وإصدار أحكام قَبْلية عليه وعلى مَن مِنه مِن فلاسفتنا، ليس من العِلمية في شيء؛ ومِن ثَمَّ يمكننا القول: إنه بالتزام كل شروط العِلمية في البحث يمكن أن نعثر في القديم على كثير مما يفيد قِراءتنا لتراثنا وحاضرنا قراءةً صحيحة.»
هكذا جاءت رؤية المفكر الراحل الدكتور سيد القمنى لقراءة التراث والحاضر في كتابه “الأسطورة والتراث”، وواقع الأمر أن القمني شغلته قضية “كيف نقرأ التراث “فظل نقدِ التراثِ وغَرْبلتِه؛ يمثل مشروعه الفِكريُّ الأهم والذى أخلص له طوال حياته.
وسيد القمني واحدٌ من أكثرِ المفكِّرينَ إثارةً للجَدل؛ بسبب آرائه التي يرفضها البعض وموقفه من أعداء العقلانية والتنوير . . ويَظلُّ القمني — اتفقْنا أم اختلفْنا معَه — مفكِّرًا جَرِيئًا يطرحُ آراءَه دونَ مُوارَبة..وهو صاحب أفكار اتسمت بالجرأة في تصديه للفكر الذي تؤمن به جماعات الإسلام السياسي.
وُلِدَ سيد محمود القمني في مدينةِ الواسطى بمحافظةِ بني سويف عامَ ١٩٤٧ ، وظلَّ يدرسُ حتى حصَلَ على الدكتوراه من جامعةِ جنوب كاليفورنيا، تخصَّصَ القمني في الكتابةِ عن بواكيرِ التاريخِ الإسلامي. وأخيرًا وبعدَ جهدٍ طويلٍ جاءَ تقديرُ الدولةِ له بمنحِهِ جائزةَ الدولةِ التقديريةَ عامَ ٢٠٠٩ ، وقد صاحبَ ذلك الكثير من الرفض والاعتراض.
ومن أبرزِ مُؤلَّفاتِ القمني: (أوزيريس وعقيدة الخلود في مصر القديمة ” ، الحِزْب الهاشِمِي ،الأُسْطورة والتُّراث .الفاشيون والوطن ،اسرائيليات ، ” رب الزمان ” عام 1997 الذي تمت مصادرته حينها وأخضع كاتبه لاستجواب في نيابة أمن الدولة العليا، وفيه طرحَ القمنى مِنَ الأفكارِ والمواقفِ ما جعَلَه في مَرْمى النقدِ والمُصادَرة؛ إذ عُقِدَتْ لهُ المُحاكَماتُ الأدبيَّة، وطَرحَ المُفكِّرونَ ما جاءَ فيهِ على مائدةِ النقاش؛ فطالَبَ البعضُ بمنْعِه مِنَ النشرِ ومُحاكَمةِ صاحبِه، بينَما وقَفَ معَهُ آخَرونَ دِفاعًا عن حُريةِ التعبير. والكتابُ يتطرَّقُ إلى عددٍ مِنَ القضايا؛ منها ما يَتعلَّقُ بتاريخِ الإسرائيليِّينَ وعلاقتِهم بمِصْر، ويَبحثُ في أركيولوجيا اللغةِ لبعضِ الأسماءِ المُقدَّسة ، و” الأركيولوجيا “هى علم الآثار والفنون القديمة.
وعلى هذه الصفحة نقدم قراءة في بعض هذه المؤلفات
أوزيريس وعقيدة الخلود في مصر القديمة
——————————-
يأتى كتاب “رب الثورة: أوزيريس وعقيدة الخلود في مصر القديمة ” الصادر عن المركز المصري لبحوث الحضارة عام 1988من أهم مؤلفات القمني ونجده يقول «إنَّ الباحثَ لا يدَّعي قُدراتٍ ليستْ فيه، ولا يَصلُ به الظنُّ إلى حدِّ إمكانِ تجاوُزِ الاستحالة، ولا يَزعُمُ لنفسِه فَهمًا يَفوقُ أصحابَ المسألةِ المتخصِّصين، إنما هو يَزعمُ المحاولةَ فقط؛ لِدفعِ الموقفِ عبرَ الاستحالة، من خلالِ عملياتِ ترتيبٍ وتبويبٍ جديدةٍ تمامًا.»
فقد احتلَّتْ فكرةُ الحياةِ بعدَ الموتِ أو ما يُعرَفُ ﺑ «عقيدةِ الخلود» مكانًا كبيرًا في تفكيرِ المِصريِّ القديم؛ مما جعَلَ بعضَ الباحِثينَ يَرمونَ إلى أنها كانتِ النُّواةَ التي كوَّنَتْ بعدَ ذلك فِكرةَ الحياةِ الآخِرةِ في الدياناتِ الكُبرى، بعد أنْ مرَّتْ بمراحلَ تاريخيةٍ تطوُّرية. والدكتور «سيد القمني» في هذهِ الدراسةِ التي مِحورُها ربُّ الثورةِ «أوزيريس»، يَهدفُ إلى تنقيةِ عقيدةِ الخلودِ الفِرعَونيةِ مما عَلِقَ بها من مُعتقَداتٍ أخرى، ووضْعِ فواصلَ بينَها وبينَ بقيةِ العقائد؛ لِيَكشفَ لنا مَواطنَ السبْقِ أو التأثيرِ للديانةِ المِصريةِ على فلسفاتِ الأممِ التاليةِ وعقائدِها، عن طريقِ إعادةِ ترتيبِ النصوصِ التاريخيةِ والدينيةِ المِصريةِ القديمة؛ لإبرازِ مدى تأثُّرِها بالظروفِ الاجتماعيةِ والسياسيةِ المحيطةِ بها وقْتَها، مُعتبِرًا عقيدةَ الخلودِ وَقودًا حيًّا لثوراتِ المِصريِّينَ القدماءِ على مُلوكِهم.
في المقدمة يمكن التقرير مبدئيًّا، بأن طبيعة المشكلة موضوع هذا البحث، تجمع بين الفكر العقائدي والفكر الفلسفي، مرتبطَيْن بتطور زمني يجعل التاريخ عنصرًا ثالثًا وأساسيًّا في المشكلة إلى جانبهما؛ فهي مشكلة عقائدية؛ لأنها تتناول الإيمان دينيًّا عند المصري القديم في عالم آخر، يخالف عالمنا هذا في ماهيته ومواصفاته وطبيعته، مخالفة شبه تامة، وهذا الاعتقاد يشكِّل — بشكل خاص عند المصريين القدماء — الجزء الأكبر من معتقَداتهم الدينية، بحيث يستحيل فَهم فكرهم السياسي والاجتماعي والديني، وحتى العلمي والعَملي، بدون تأسيس هذا كله على عقيدتهم في الخلود.
وهنا تكمن الأهمية الكبرى والقصوى لهذه العقيدة عندهم، حتى أكد البعض أنه لا يمكن فهم أو تصور مصر القديمة بوضوح، دون تصور عالمها الآخر؛ لأن الاعتقاد في هذا العالم قد نفذ إلى كل فكرة وكل سلوك، وصبَغ كل شيء مصري قديم بصِبْغته، وما كان ليحدث تقدم أو تخلف اجتماعي، أو تغيرات سياسية أو اقتصادية، أو فكرية، أو حتى معمارية أو فنية، دون أخذ هذا المعتقد كعامل أول وأساسٍ مشترك، مؤثِّر ومتأثر بعلاقة جدَلية قائمة ومستمرةٍ بينه وبين هذه المتغيرات.
كما أن تصوراتِ المصريين القدماء عن هذا العالم، تُعطي انطباعًا واضحًا عن أسلوب تفكيرهم، وعن أخلاقياتهم ونُظمهم الاجتماعية، في تلك العصور السَّحيقة، بل إنه لولا اهتمامُ المصريين القدماء بعالَمِهم الآخر، ما وصل إلينا شيءٌ البتة عن تاريخهم؛ فهم لم يُدوِّنوا ما دوَّنوا، ولم يهتموا بتسجيل ما سجَّلوا؛ إلا بسببِ — ومن أجلِ — أملهم العظيم في الخلود.
ولعل الإصرارَ على رؤية العقلية المصرية، من خلال المنظار الفلسفي لطبيعة المشكلة، يعود في الأساس إلى طبيعة كلٍّ من الفلسفة والدين، وغنيٌّ عن الذكر أن العلاقة بينهما كانت مسألةَ المسائل، التي شَغلَت تفكيرَ كثير من الفلاسفة — أو على الأصح أغلَبهم — ويعتبر أشيعهم ذِكرًا في هذا الميدان، الفيلسوف الألماني «هيجل »، وهو من هَدَفَت فلسفتُه في معظمها «إلى بيان أن الدين ينتهي حتمًا إلى الفلسفة، وأن الفلسفة تؤدي بالضرورة إلى الدين»، بل والأهم أنه اعتبَر الدِّين فَيصلا بين الإنسان والحيوان، ومميِّزًا أولَ للإنسان عن الجنس الحيواني؛ «لأن الدين قائمٌ على الشعور، الشعور بالخلود، الشعور بالحرية، والشعورُ لا يوجد إلا عند الإنسان.»
وبذلك كانت فكرة الخلود وظهورها عند المصري القديم — إذا طالعناها بالمنظار الهيجلي — هي بدايةَ الإنسانية لإنسانيتها على الأرض، وبداية التفلسف أيضًا، كما أنه إذا كانت «الفلسفة تظهر حينما توجد الحياة السياسية» — في رأيه — فإن الفلسفة بهذا المعنى تكون أيضًا قد ظهرَت مع بداية أول حكومة منظَّمة في تاريخ العالم، أي: مع الأسرة الأولى في الدولة الفِرعونية القديمة.
وهنا يعِنُّ السؤال الأهم حول هذه الدراسة، وهو: لماذا البحث في عقيدة الخلود بالذات؟
يقول الكاتب الإسباني «ميجل دي أونامونو »:«كنت أتحدث إلى فلاح ذات يوم، واقترحتُ عليه وجودَ إله يحكم في الأرض وفي السماء، كما افترضتُ عليه أيضًا عدمَ وجود عالم آخر، وأنه لن يكون بعثٌ ولا نشور بالمعنى التقليديِّ المعروف، فأجابني الفلاح قائلا: وما فائدة وجود الله إذًا؟!»
وتوضح هذه الفقرة معانيَ عقائدية، لا تقتصر على المستوى البسيط لهذا الفلاح، بل تتجاوزه إلى أكبر العقول ثقافة، وإلى عمق الجذور التي تقوم عليها عقائدُ كثيرة، ولعل أهم هذه المعاني:
الارتباط المتكامل بين العقيدتين الإلهية والأخروية، ارتباطًا يصعب فَصمُه، مما يجعل البحثَ في إحداهما مستقلاعن الأخرى في ديانةٍ ما، مسألةً شائكة ومعقدة وصعبة إلى حد كبير.
إن الأولوية لدى العقائديِّين، لا زالت للعالم الآخر؛ لأنه يحمل معنى الخلود ولربما كان «لوثر» يقصد هذا عندما قال: إذا لم تعتقد في اليوم الآخر، ما ساوى إلهك عندي شيئًا
وهذا هو السبب الأول لاختيار عقيدة الخلود؛ لمعالجتها في هذا البحث.
كما أن العالم الآخر عالم غيبي، لا دليل عليه سِوى ما ورد عنه في بعض السطور في بعض الصَّحائف المقدسة، دون بعضها في دياناتٍ أخرى، فأصبح موضوعًا مختلِفًا عليه، وعلى ماهيته ومواصفاته، بل وعلى وجوده أصلا بين الغيبيِّين أنفسهم، مما يجعله موضوعَ تصديقٍ وتكذيب؛ ليستمر قلقًا بين الوجود والعدم. هذا رغم ارتباطه ارتباطًا وثيقًا، بالسلوك الخلقي والشخصي والاجتماعي للإنسان، حتى إن بعض الديانات الحية كالمسيحية والإسلام، ترى أن عدم الإيمان بالحياة الأخرى، معناه الانهيار الكامل للنظام الأخلاقي الدنيوي برُمَّته، بل وانهيار الإيمان بالله ذاته.
وغنيٌّ عن الذِّكر أن فريقًا كبيرًا من الفلاسفة يرى الرأي نفسه، ولعل أصدقَ من يمثلهم هنا، فيلسوف النقدية الألماني «عمانوئيل كانط ” الذي بنى دليله الوحيد على وجود الله والعالم الآخر معًا، على النظام الأخلاقي الدنيوي، وذهب إلى أنه لو لم تكن هناك حياةٌ أخرى يكتمل فيها تحقيق المثل الأخلاقية، لما أصبح للأخلاق في هذا العالم معنًى.
وقد كتب كانط مقالا صغيرًا عن «نهاية كل شيء»، أوضح فيه أن العالم كلَّه سينتهي إلى غايةٍ واحدة، هي نهايته، ولن يبقى سِوى الله وحده، بمعنى أنه يَقضي على الزمان لِيُثبت الخلود وفلسفته الدينية في مجملها، تفرق بين نوعَين من الإيمان بالله:
الإيمان أو اللاهوت الفيزيقي: الذي يعتمد على الغائيَّة في الطبيعة.
الإيمان أو اللاهوت الخلقي: الذي يَعتمد على الغائية الخَلقية للسلوكيَّات البشرية.
وينتهي كانط من دراسته للاهوت الخلقي، إلى إثبات وجود الله كعِلَّة خَلقية للعالم، وغايةٍ قُصوى تطابق القانون الخلقي، بحيث لا يمكن الاستغناءُ بالقانون الخلقي عن الله، لأنه هو الضامن للأخلاق أو الدالُّ عليها، ومن ثَم تكشف الإلزامات الخلقية عن الله. وباختصار وبساطة، يمكن القول: إن كانط لم يقل شيئًا أكثرَ مما قاله فلاح أونامونو. ونعتقد أن هذا الرابط بين الإيمان بالخلود، وبين النظام الخلقي الدنيوي، سبب آخرُ كافٍ لإعطاء موضوع الخلود أهميةً تَجعله جديرًا بالبحث.
والهدف من هذه الدراسة هو في حقيقته مجموعةٌ من الأهداف، هي:
أولا: تنقية عقيدة الخلود الفرعونية من عَلائقها بالمعتقَدات الأخرى التي تشابكَت معها؛ حتى يُمكِنَ دراستها مستقلة منذ مَناشئها البدائية الأولى.
ثانيًا: وضع فصول مستقلة لبيان هذه الارتباطات بين عقيدة الخلود وبين بقية العقائد؛ لإيضاح العلائق بينها متى وُجِدت، وبخاصة العقيدة الإلهية.
ثالثًا: محاولة اكتشاف مَلامح السبق أو التأثير للدِّيانة المصرية في فلسفات وعقائدِ الأمم التالية، دون إفاضةٍ تبعد البحثَ عن موضوعه الأساسي، بمعنى محاولة العثور على ما يُمكِن اعتبارُه أصولا أُولى، بدأَت ظهورَها عند المصريين؛ لِتَصب بعد ذلك في العقائد التي تلَتْها، اعتمادًا على أساسَيْن جوهريَّين:
الأساس الأول: العَراقة التي تميزَت بها ديانةُ مصر القديمة وقِدَمها التاريخي.
الأساس الثاني: أنه لا يمكن استبعاد هذا التأثير المصري فيما عاصرَه أو تلاه؛ إعمالا لمبدأ الاتصال الدائم والقائم باستمرارٍ للفكر البشري، فليس هناك ما يمنع مِن حدوث تبادُلٍ ثقافي بين مصر وجاراتها، وهذا ما يُرجَّح حدوثه في عصر الإمبراطورية المصرية التي امتدت من الجندل الرابع في العمق الأفريقي، وحتى الفرات الأسيوي شمالا وشرقًا، في عصر الدولة الحديثة.
رابعا: البحث عن الحقيقة الكامنة وراء آراء الباحثين المتضاربة حول الديانة المصرية القديمة؛ هل كانت هذه الديانة في جوهرها ساذَجةً فطرية كما اعتقد البعض؟ أم كانت فكرًا عميقًا قويًّا كما ذهب البعض الآخر؟
خامسا: إلقاء الضوء باستمرار حول كل نقطة تطوُّرية يمكن اكتشافها في السلسلة التطورية لهذه العقيدة، مع ربطها بأحداث عصرها ومُلابَساته
سادسا: ويؤدي هذا بنا إلى محاولة إعادة ترتيب النصوص التاريخية والدينية المصرية القديمة، وَفْق خُطة منهجية، تحاول اكتشاف الحقيقة وراء التضارب الظاهر؛ لإبراز أوجُه الاتفاق والاختلاف
سابعا: الانتهاء من هذا كلِّه إلى هدف يجمع كلَّ هذه الأهداف معًا، وهو الكشف عن طريقة وأسلوب العقل البشري، في حِقْبة قديمة من حِقَب التاريخ الإنساني، والقوانين التي حكَمَت تطورَه الفكري، وتصوراتِ المصري القديم للعالم الآخر، مكانًا وزمانًا ومواصفاتٍ وماهيةً. وتحقيقًا لكل هذه الأهداف، فقد وضعنا لها خطة ( كما يقول الباحث ) تسير عبر مساراتٍ ثلاث؛ لعلها كانت بوحي من عقيدة التثليث الفرعونية، فقُسمت هذه الدراسة الى ثلاثة ابواب (موجز تاريخ مصر القديمة فلسفة الديانة المصرية عقيدة الخلود المصرية عبر مراحلها التطورية )
ومما تجدر الإشارة إليه — انه بالإضافة الى مصادر هذه الدراسة ومراجعها، التي أوردها القمنى ، إلا أن المصادر المصرية القديمة ذاتها كانت هي المعتمَدَ الأساسي
لقد قسم الآثاريُّون هذه النصوص — والتي تجمعها كلَّها رابطةٌ واحدة هي أنها كانت جنازية تُكتَب في التوابيت والمقابر — إلى أنواع، أعطَوْا لكل منها اسمًا مستمَدًّا من هُويَّتها، وأهمها لهذا البحث كانت:
(١) متون الأهرام
وتُعَد هذه المدونات أقدمَ ما حُفِظ للإنسانية على الإطلاق من نصوص دينية مكتوبة وصلَت لنا، وهي نصوص مستفيضة تكشف عن كثير من عقائد المصريين وأفكارهم الدينية والسياسية والفلسفية، عمد إلى نقشها على جدران غرف الدفن وبعض الغرف الملحَقة بها داخل الأهرام، ملوك الأسر الحاكمة في الدولة القديمة، منذ بداية الأسرة الخامسة على وجه التقريب مع ملاحظة أن هناك آراءً أخرى تذهب إلى القول بأن هذه المدوَّنات قد بدأ تسجيلها في الأسرة الرابعة.
(٢) متون التوابيت
ويتألف منها أعظمُ وأكبر مجموعة من المصادر الدينية القديمة، وقد بدأ المصريون بتسجيل هذه المجموعة من الأدب الديني على الأوجُه الداخلية للتوابيت، مع بداية العصر المتوسط الأول بعد نهاية الدولة القديمة، وهي صيغ تُشابه متون الأهرام، وتتَّحِد معها في الغرض الذي ترمي إليه، غير أنها كانت أكثرَ مُلاءمة لحاجات غِمار الناس، رغم أن أغلبها عبارة عن مقتبَسات من الأهرام الملكية.
وعدا ذلك تُوجَد مصنفات أخرى نكتفي بالإشارة إليها دون اعتمادها، مثل كتاب الطريقين، وكتاب الموتى، وكتاب الموجودين في العالم السفلي، وكتاب البوابات
بالإضافة لهذه المتون هناك بعض ما ترَكه المصري القديم من نصوص أدبية، والتي يمكن من خلال دراستها الخروج بأهم سمات الحياة السياسية والاجتماعية لعصور أحداثها (تحذيرات وإنذارات الحكيم «إبيور» إيبو العجوز ،وصايا إلى «مري كارع» قصة الفلاح الفصيح ، توجعات «نفر رحو» وتنبؤاته ، أغنية العازف على الهارب ، مضافًا إلى كل هذا أساطير الآلهة المصرية، التي لا يُعلَم منها حتى الآن سوى القليل الذي جُمِع من النقوش والرسوم والمتون سالفةِ الذكر )
ولعل أهم ما يَعني الموضوع هنا أسطورة كبرى هي الأسطورة الأوزيرية؛ نسبةً للإله «أوزير»؛ لأنها كانت أكثرَ وضوحًا من غيرها، كما دخلَت عناصرُها في المتون الجنازية، ناهيك عن أنها شكَّلَت أساسَ العقيدة الشعبية وجوهرَها، حتى إن علماء المصريات القديمة يرون أنها «أثَّرَت على الحضارة المصرية تأثيرًا بينًا، بحيث أصبحنا لا نتصور هذه الديانة بدون قصة أوزيريس»، ونظرًا لهذه الأهمية البالغة؛ فقد وضَعنا لمناقشة العقيدة الأوزيرية فصلا كاملا هو الفصل الثالث من الباب الثاني. ومن المهم أن نذكر أنَّ نصوص الأهرام والتوابيت وبعض الأساطير وخاصة الأوزيرية، قد تمتعَت بمكانة كبرى عند المصري القديم، لا سيما وأن «الكتب التي تضم هذه الأساطير قد اعتُبِرت من القداسة بحيث لا يَجوز وضعُها في مزارات المقابر وقاعات المعابد عُرضةً لأنظار الناس.»
أما مصدر قُدسيَّتها في نظر المصريِّ القديم، فمرجعه إلى كونها «كلمات الله …» نعم؛ بل إن كتاب الموتى كان محلَّ اعتبار خاص، نتج عما أُشِيع حوله آنَذاك، بأنه «قد عُثِر عليه في عين شمس»، وأنه «كان بخط الإله نفسِه ”
وهكذا؛ يمكن القول إن أهم ثمار أو منجزات هذه الدراسة، إنما تتلخص في الاكتشافات التالية:
أن تطبيقُ المنهج الاجتماعي التاريخي التطوري ادى إلى بُطلان المزاعم القائلة بالتضارب في منتَجات العقل المصري القديم وإبداعاته، خاصة بعد ما تكشف لنا — بتطبيق هذا المنهج — من أن الديانة المصرية وفلسفتَها الميتافيزيقية، كانت أسبقَ من الفلسفة اليونانية في اكتشاف أهم المنجَزات التي اعتُبر اليونان بسببها أولَ المتفلسِفين، فوضعَت أهم الأسس لأكبر نظريتَين في الوجود؛ «نظرية الفيض، ونظرية الخلق بالكلمة»،
كما تكشَّف لنا أن تاريخ مصر القديمةِ لم يكن صنعةً ملَكية بقدر ما كان صنعة شعبية في المقام الأول، فقد ثبَت أن أهم دعائم الديانة المصرية القديمة كانت عقيدةَ الخلود، التي ارتبطَت في بداية عهدها بالسلطان الملكي، وأدَّت إلى قهر الشعب واستعبادِه، فكان أن أدَّت إلى قيام أول ثورة أيديولوجية في التاريخ ضد الملكية والإقطاع معًا، بل وضد الدين الرسمي أيضًا، على اعتبار أنه كان يُعبِّر فقط عن مصالح الطبَقة الحاكمة وحدها. وقد أدَّت هذه الثورة بالعقول الشعبية إلى البحث عن الخلاص الماديِّ والروحي حتى وجدَتْه في الإله أوزير؛ الذي ثبت لنا أنه كان إبداعًا شعبيًّا خالصًا، حقَّق الشعبُ تحت رايته أهمَّ انتصاراته التي بلغَت حدًّا دخل معه الشعب إلى العالم الخالد، بعد أن كان هذا العالم قاصرًا على الملوك فقط، وتحت رايته استطاع الشعب القضاء على النظام الأوتوقراطي الذي ظل سائدًا لخمسة قرون متواصلة، وتحت رايته قضَت الجماهيرُ الثائرة على الأرستقراطية الدينية، بعد أن فتح أوزير أبوابه للجميع دون تفرقة، بل وخص الطبقة الفقيرة بشكل خاص بكل عنايته قبل أية طبقة أخرى، مما يجعلنا نقول: إن عصر الثورة المصرية في نهاية الدولة القديمة، كان بلا جدال عصرَ سيادة البروليتاريا، إذا جاز التعبير.
وكانت نتيجة كل هذه الأحداث، أنْ تصاعد أوزير الإله الشعبي حتى أصبح هو ربَّ الخلود، وسارت عقيدة الخلود في ظله بخطوات تطورية حثيثة، حتى انتهت إلى القول بيوم بعث وحساب، وفقَ مقاييسَ خلقية رفيعة، كانت الأولى مِن نوعها في التاريخ، قبل أن يَكتشف اليونان ذلك في المبحث الفلسفي المسمَّى بعلم الأخلاق أو الإثيكس.
وفي النهاية استطاعت عقيدة الخلود المصرية مع طقوسها وعقائدها الفرعية أن تَخرج من مصر في ظل الإمبراطورية الرومانية، لِتَسود حوض المتوسط، بعد أن تحوَّل أوزير إلى سيرابيس؛ لتسود على العقل البشريِّ حتى انتهاء القرون الخمس الأولى لظهور الديانة المسيحية.
السؤال الآخر
————————
هذا الكتاب ” السؤال الآخر” الصادر عن مؤسسة روزاليوسف عام 1998يطرح تسأولات آن لها أن تطرح أيا كانت العواقب على شخص الكاتب، تساؤلات تصر وتكرر مطاليبها بين موضوع وآخر وهي المطاليب التي لن تتحقق إلا إذا سمحنا للسؤال الآخر بالمرور، واعتدنا سماع الرأي الجديد أو المخالف وبفتح النوافذ على العقل دون تقييد أو قمع، وأن تناقش الفكرة الأخرى ولا تطالب بمصادرتها او تكفيرها، أن نحقق العلمنة على مساحة الثقافي على الأقل وهو أدنى المطاليب، ساعتها يمكن القول أن هناك أملا في أننا سوف نكون ..
الفاشيون والوطن
——————————
في هذا الكتاب الذي صدرعن المركز المصرى لبحوث الحضارة عام 1999 نطالع العديد من الدراسات ومقالات الراى منها على سبيل المثال لا الحصر : ” فلسفة الهكسوس ، منهج التكفير ، منهج الطائفية وجائزة التسامح الواحدية والتعددية ، نقد منهج الدولة، معنى المواطنة ”
وتحت عنوان “منهج التكفير”كتب القمني فيما كتب : منطق القوة الغشوم هو بالضرورة منطق الكائنات التي منحتها الطبيعة القوة البدنية وسلبتها ملكة العقل والتفكير، وفي مملكة الأحياء يسير الارتقاء تطورًا نحو مزيد من العقل والمنطق يصاحبه انخفاض في مستوى القوى الجسدية، وذات الأمر ينطبق على النوع الواحد؛ فكلما قويت حجة الإنسان ورجح منطقه استغنى عن القوة في الصراع، كما أن ذات المنطق يؤكد أن الإنسان قد ارتقى من بين الكائنات جميعًا وحقق سيادته على كوكبه نتيجة لاستخدامه منطق العقل، فقد يلجأ إلى القوة والقتل والتدمير عندما تعجزه الحجة العقلية والبرهان في الصراع.
وفي السنوات الأخيرة شهدنا قليلا من المعارك الفكرية الراقية انسحبت بسرعة لتفسح المجال للونٍ آخر يعبِّر عن عجز بعض الأطراف عن خوض المعارك بأسلحةٍ نبيلة وشريفة فيلجئون إلى الأسلحة الرديئة، وعادةً ما تكون فاسدة ترتدُّ في وجوههم دون حاجة الخصم لأي تعليق. وتتعدد سبل وأدوات العجز عن المواجهة الشريفة، فيلجئون إلى كيل الاتهامات والتخوين والتكفير والشتائم والبذاءات والمؤامرات دون الوقوف العقلاني مع ما يُطرَح أمامهم من منطق.
ولأن مصر المحروسة هي شاغلنا وهمنا الأمس واليوم وغدًا، فلا مفرَّ من تسجيل حقيقةٍ واضحة بشأنها؛ فالدولة بمؤسساتها الدينية تُقدِّم كل إمكاناتها لإثبات حرصها على صحيح الدين من وجهة نظرها، بينما يُقدِّم تيار الإسلام السياسي وجهة نظر أخرى هي النقيض تمامًا، وكلٌّ منهما ينطلق من ذات النصوص، وكلٌّ منهما يعلم يقينًا أن هناك وجوهًا أغفلها للمقدس وسكت عنها وعتَّم عليها عن قصد لأنها لا تُوافِق خياراته السياسية.
وهنا بالتحديد يُحدِّد لنا الدكتور فؤاد زكريا ( الحديث مازال لسيد القمنى ) نقطة الضعف الأساسية في خلط المقدَّس الديني بما له من احترامٍ واجب بأوراق السياسة وألاعيبها، لكن ذلك الضعف يُشكِّل في مستوًى آخر خطورةً شديدة لأن خلط أوراق السياسة بنصوص الدين سيؤدي إلى خسائر على المستويين، فالسياسة لها دسائسها ومؤامراتها وتكتيكاتها واستراتيجيتها وتقلُّباتها التي لا تراعي سوى المصالح الدنيوية المباشرة، وتعمل بإخلاص وفق مبدأ الغاية تُبرِّر أي وسيلة، فإذا خلطنا الدين بالسياسة أسأنا إلى الدين وعاملناه بانتهازية واستثمرناه في مراحل ثم أعدنا استثماره في مراحلَ أخرى هي على النقيض من الأولى، وهبطنا به من قُدسه إلى منطقة ومنطق لا يليق بقداسته، ولو تعاملنا في السياسة بأخلاقيات الدين وروحانيته وزهده وورعه وتقواه فستكون الخسائر محقَّقة وماحقة وسط عالمٍ يتعامل في ميدان السياسة بمنطقٍ أبعدَ ما يكون عن منطق الدين.
ولنا هنا أن نتخيل حجم أنهار الدم التي ستجري في ديارنا، في زمن لم يَعُد فيه وقت للتجارب على الوطن وعباد الله، بعد أن خضنا ذات التجارب وعانينا منها طوال القرون الغوابر.
أما الرؤية العلمية والعقلانية فإنها تظهر هؤلاء بمظهر العجز الواضح والفصيح؛ فهم عَجَزة عن الأخذ بأسباب التقدم لأن التقدم يعني العلم والعنت والجهد والمشقة، كما يعني الحريات الكاملة للفرد، وهو الكفر الفصيح من وجهة نظرهم، والمعلوم أن العلم لا ينمو ولا يزدهر في مناخ القهر والاستبداد بقدر ما ينمو في مناخ الحريات.
نقد المنهج يبغي الخروج بالوطن من منطقة الأزمة سليمًا معافًى قويًّا مقتدرًا دون اعتبار أو حسبان لأهل التكفير والتنفير
منهج الطائفية وجائزة التسامح
——————————–
فى مقاله ” منهج الطائفية وجائزة التسامح ” المنشور فى كتابه ” الفاشيون والوطن ” يقول القمنى :في عُرسٍ دوليٍّ راقٍ تسلمت السيدة سوزان مبارك جائزة التسامح التي حفظت لها حقها التاريخي عن جدارة واستحقاق، وفي كلمتها المتوازية الدقيقة المفصِحة عن وجهٍ حضاريٍّ حقيقي ، أكدت هذه السيدة الجليلة أن جائزة التسامح هي لمصر جميعًا، وهو ترميزٌ واضح لأصحاب العقول يُشير إلى طريق الخروج من منطقة الأزمة عبر المعاني التي تحملها الجائزة. ورغم ذلك فإن المطالع لجهود هذه السيدة مقارنًا ببقية واقعنا ونغماته السائدة، لن يجد بُدًّا من نقد هذا الواقع قياسًا على رموز جائزة التسامح ومعانيها نقدًا واضحًا حتى لا تظل وحدها مع نفر يُعدُّ على الأصابع من دعاة الدولة المدنية ينادون في بيداء ويصرخون في برية.
ولا شك أن الاستعمار بكل ألوانه، والسيطرة على الآخر والتدخل في شئونه الداخلية، وفرض إرادة القوي على الضعيف سمة من سمات التدني الحضاري التي لم تتخلَّص منها الإنسانية بعدُ، ونحن بالطبع ألدُّ أعداء الاستعمار، وضد كل ألوانه وأشكاله؛ لأننا كنا الجانب الأضعف منذ أغلقنا النوافذ على عقولنا وتقوقعنا داخل الشخصية الثقافية الثابتة الواحدة، بينما ننعاها كل يوم على بني صهيون. ( فى مؤلفات سيد قطب دعوة صريحة للتدخل في شئون الشعوب والأمم الأخرى )
ويستطرد : نستأنس بفقرة للأستاذ نجيب محفوظ أوردها في كتاب أصدرته الهيئة العامة للكتاب ضمن سلسلة كتب مواجهة الإرهاب يقول فيها: «هناك ملاحظات على تعامل الدولة مع المواطنين وما يشوبه من تحيُّز وتفرقة. والإعلام كثيرًا ما يذيع على أوسع نطاق ما يعدُّ استهانة أو تحقيرًا أو إنكارًا لعقائد الآخرين، دون مراعاة لما قد يُسبِّبه ذلك من هزَّات في تماسك المجتمع.»
وقد سبق وقلنا وزدنا إن لمصر ثلاث ثقافات لا ينبغي أن تعلو واحدة منها فوق الأخريات، وتلك الثقافات هي الثقافة المصرية القديمة الأصيلة، ثم الثقافة القبطية وهي ثقافةٌ مصريةٌ مكتوبة بالحروف اليونانية، ثم الثقافة العربية الإسلامية الوافدة، وإن تسييد الثقافة العربية وحدها فوق الثقافات الوطنية الأخرى يطعن في صدق مبدأ المواطنة المصرية
والملاحظ أن أدعياء الثقافة العربية وحدها يتجاهلون دور المسيحيين المصريين والعرب في صياغة المنظومة الثقافية المصرية والعربية؛ مما يؤدي إلى قلقهم على مصيرهم وشعورهم بالغربة في وطنهم؛ لحصرهم في خانة الطائفة وليس في مفهوم الوطن الأرحب، والكلام عن تسامح المسلم مع المسيحي لا يُغيِّر واقعًا؛ لأنه في مفهوم المواطنة لا يُفترَض وجود طائفة تسود وتتسامح أو لا تتسامح، بل يُفترض مبدأ المساواة لا مبدأ التسامح مع أهل الذمة، وقد أقرَّ الدستور المصري مبدأ المساواة بصرف النظر عن العقيدة، كما وقعت مصر على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي يقول في مادته الثانية: «لكل إنسان حق التمتع بكافة الحقوق والحريات الواردة في هذا الإعلان دون تمييز بسبب العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسي أو أي شيء آخر.» ودرس السودان ماثلٌ أمامنا منذ فجَّرته الطائفية.
وتكون الكارثة أعمق عندما تعتقد الطائفة السائدة أنها تمثل الخير كله بحسبانها حزب الله، لأن هذا يعني أن من يخالفها مخالف للحق؛ لذلك لا بد من تدمير المخالف وإزالته، وهنا تُفرِخ الممارسات الإرهابية وتبيض، ومن هنا نلحُّ على أن علاج ظاهرة الإرهاب ليس فقط بالمواجهات الأمنية، إنما بتفعيل المنهج المدني على كل المستويات
وفى نهاية المقال يتساءل : ألا ترون أننا بحاجة إلى تغييرٍ عظيم وجهدٍ أعظم حتى نستحق كرم السيدة سوزان مبارك بإهدائنا جائزتها، جائزة التسامح؟!
نقد منهج الدولة
—————————
فى هذا المقال قرر القمنى اننا لا زلنا نحاول العثور على مناطق الضعف في مناهجنا، التي أدَّت بنا إلى تراجعٍ حضاريٍّ كامل، وتخلُّفٍ فارق بيننا وبين دول العالم المتقدم، وانتهت بنا إلى متتاليةٍ كبرى من الهزائم والتراجعات، مع استمرار احتلال أراضٍ عربية من عدو جاءها شتاتًا من أنحاء العالمين، فانتهى قوةً كبرى تخطب دول العالم ودَّه، وذلك بفضل مناهجنا في التفكير على كل المستويات.
ومرةً أخرى نقوم بتبيان خريطة تَصوُّرنا لموقفنا الذهني المنهجي إزاء الأحداث التي جرت في منطقتنا، للتنقيب وراء أسباب الضعف لتجاوزها إذا أردنا مكانًا بين الأمم، حيث تم تكييف ما نُقدِّمه من نقدٍ ذاتي لمناهجنا بحسبانه تهجُّمًا على الأمة وثوابتها، وتوصيفه بأنه يصبُّ في النهاية في خانة العداء لها، وهو التفسير الذي يؤكد كل ما قلناه؛ فنحن قوم لا نقبل نقدًا، ويضيق صدرنا بالحق، ونحب مدح الذات حبًّا جمًّا إلى حد المبالغة بل والنرجسية المرضية، وتركبنا عصبية العنتريات إذا كشف لنا أحد عن عيوبنا وخروقنا، وتصبح محاولات الإصلاح في نظرنا تحالفًا مع أعداء الأمة الذين يتربصون بها الدوائر، غير مدركين أن مواجهة الاحتلال الإسرائيلي للأرض، لا يمكن أن تنجح بالمواجهة العسكرية وحدها، إنما أولا بالعلم والثقافة والتحضُّر.
إن الخطوة الأولى في علاج السقم والعلل أن يعترف المريض أنه مريض وأنه بحاجة للعلاج، يجب أن نعترف بأننا شعوبٌ مهزومة ومتخلفة تستشري فيها الأمية المعمَّمة والأمية الثقافية، ويجب أن يأتي هذا الاعتراف عن قناعة وببساطة، ولا ندفن رءوسنا في أوهام تضخُّم الذات المرضي، حتى نجد لِعلَلِنا علاجًا ولحالنا صلاحًا، وبذات الهدوء والبساطة يجب أن نعترف أننا نعاني من تخلفٍ حضاريٍّ كامل، حتى بات نصيبنا صفرًا كبيرًا فيما تُقدِّمه شعوب العالم يوميًّا من ألوف الاكتشافات والاختراعات التي تعمِّق الهوة بيننا وبين المتقدمين كل ليلة، بل كل ساعة دون مجازٍ أو مبالغة، لأن التقدم لن يكون بغير العلم الذي يصوغه العقل البشري ويبدعه الإنسان بالمنهج العلمي وحده.
والعلم يحتاج إلى تربة يُبذر فيها ويُروى لينمو بتدريب العقل على المنهج العلمي في التفكير، وليس منهج الانتظار البليد لحدوث المعجزات وعودة الأساطير الحفرية، وبذرة العلم هي منهجه، أما تربته التي ينمو فيها فهي مناخ الحريات الكامل، الذي لا يعرف الوقوف في أحكامه بين الحلال والحرام وبين الإيمان والكفر، قدر ما يقف بين الصواب والخطأ العقلي على مستوى التفكير والمنهج العلمي، وبين المصالح والمنافع المرجوَّة على مستوى الفعل والسلوك، حيث أصبح من غير الممكن اليوم لعقل جاهل ومتخلف وعدواني أن يعارك معارك هذا الزمن، بعد أن انتهى عهد السيف والخيل بل والدبابة والمدرعة والمدفع والكثرة العددية، وأصبحت الحرب تُدار الآن من داخل الغرف المكيفة الهواء، كما لا يمكن لإنسان قد انتُقصت حريته ومواطنته أن يُحرِّر أرضًا أو يبني وطنًا.
والحريات الكاملة تعني ديمقراطيةً كاملة غير منقوصة، لتغييب المناهج الفاشية في التفكير، التي لن تغيب إلا بالاعتراف بالتعددية المؤدية إلى التكامل، وهو التكامل الذي لا ينفي التعارض بقدر ما يعني أن الرؤى المتعارضة لا تنفي بعضها، أو أن أحدها صحيح مطلقًا والآخر باطل، لأنها جميعًا في النهاية رؤًى بشرية، ومن ثم تصبح ممارسة الاعتقاد السياسي أو الديني عملا حرًّا إراديًّا طوعيًا، تفرزه قناعة الناس وليس الإكراه أو غسيل الأمخاخ المبرمج، وهذا يعني عدم وقوف مؤسسات الدولة إلى جوار عقيدة دون أخرى؛ وفي الوقت ذاته، وحتى تكون هناك ديمقراطيةٌ حقيقية، يجب على مؤسسات الدولة أن تقف ضد كل ألوان الشمولية التي تزعم الطهارة المطلقة والوطنية المطلقة والحق المطلق، حيث الديمقراطية نصابٌ سياسي يقوم على مبدأ المواطنة لا الأيديولوجيا ولا العنصر ولا الجنس ولا الدين، والمواطنة مبدأ لا يقبل التجزئة أو الانتقاص أو الحصر، لأنها ملك الجميع حيث الوطن وطن الجميع.
ويستطرد القمنى : ومع تفاقم مشكلة الإرهاب ركزت أجهزة السلطة مواجهتها على المستوى الأمني وحده؛ مما أدى إلى تفاقم متتالٍ يخبو مرة ويطلُّ برأسه مرة في مجازر مفاجئة أحيانًا، بينما يستمر منهج مؤسسات السلطة في إفراز المزيد من الفاشيست المتعصِّبين عبر أجهزة تثقيفها العامة، هذا رغم تطوع كثير من المفكرين غير المسيَّسين طوال زمن المواجهات الأمنية بإسداء النصح وتأكيد أن المعركة مع الفاشية هي معركةٌ ثقافية في المقام الأول وليست فقط مواجهاتٍ أمنية، حيث مسئولية وزارة الداخلية هي حفظ الأمن ومنع الجريمة والحفاظ على النظام العام، أما مواجهة الفاشية فهي مسئولية الفكر المدني الذي غيَّبته ساحة الإعلام والتعليم من ساحتها تمامًا، وسمحت للفكر الأحادي بالمساحة كاملة.
ثم يتطرق ايضا الى التعليم وما تحمله المناهج الدراسية فى مراحلها الثلاث من تمييز
إن ما يحدث لا يفصح أبدًا عن موقفٍ صادق من قضايا الحريات والليبرالية، ناهيك عن استثمار الدول الكبرى اليوم لمبادئ حقوق الإنسان وخاصةً حريات الرأي والاعتقاد والمساواة من أجل التدخل في شئون الدول الأخرى، وعلى مائدة الكونجرس هذه الأيام مشروع قد يسمح بالتدخل المباشر في الدول الأخرى التي تخالف تلك المبادئ، فهلا حرصنا على وطننا ومواطنينا وقمنا بترتيب بيتنا من الداخل حبًّا فيه وليس خوفًا من آخر، من أجل وطنٍ متماسك وقوي وحر.. وداعًا المفكر الدكتور سيد القمني.