بقلم: م. منير وصفي بطــرس
باحث في موسيقى الألحان القبطية
مـدرس مــــادة اللــــحن الكنــــسي
بمعــــهـــد الرعـــــاية والتـــــربيـة
تحتفل كنيستنا القبطية في هذا العام بعيد الميلاد في ليلة 29 كيهك، وهو اليوم الذي ولد فيه المخلص حسب تقدير علماء الكنيسة.
وعيد الميلاد المجيد هو مبدأ الأسرار الإلهية، والذي سماه الكتاب ملء الزمان حين أرسل الله ابنه مولودا من امرأة، وهي العذراء القديسة مريم ليفتدي الذين تحت الناموس لننال التبني (غل 4: 4, 5)، والكنيسة تصلي بالطقس الفرايحي بداية من عيد الميلاد وحتى عيد الختان 6 طوبه إحتفالا بميلاد المخلص، وموضوع هذا العيد بصورة عامة في قراءاته يتكلم عن سيادة ومجد المخلص وأنه فوق الجميع؛ ولذلك نجد توافق جميل بين هذا الفكر وبين كلمات هذا اللحن الرائع “جي أفميسي” أسبسمس أدام عيد الميلاد الذي سنتكلم عنه.
الفكر اللاهوتي في اللحن:
من أهم الأبعاد المتنوعة للحن القبطي هو البعد اللاهوتي أو العقيدي.. يقول المايسترو المهندس جورج كيرلس “لقد وضعت الكنيسة كل عقيدتها وإيمانها منذ عهدها الأول في الألحان، وأنا لدي عقيدة، وكلما رددت الألحان كلما زادت عقيدتي ثباتاً في القلبً ثم العقل”، فلحن الأسبسمس الآدام لعيد الميلاد يعتمد أساساً على فكرة لاهوت السيد المسيح ابن الله المتجسد، والكلمات الأساسية لهذا اللحن مأخوذة من نبوءة إشعياء (أش 9: 5-7)، ولغة اللحن هي اللغة القبطية ماعدا كلمة “أرشي” (رئاسة)، “إكسوسياستيس” (صاحب سلطان أو مهيمن)، “بي أنجيلوس” (ملاك أو رسول)، وهنا نقول ملاحظة أن الكنيسة القبطية في ألحانها تستعير بعض الألفاظ اليونانية حتى تعطي للكلمات معاني أوضح، وبهذه الصورة يصبح المعنى العام حسب الترجمة “لقد وُلد بيننا ولأجلنا غلام (صبي) وأُعطي لنا إبناً، ذاك الذي رئاسته دائما موضوعة على عنقه (كتفه) الإله القوي صاحب السلطان والهيمنة وملاك (رسول) المشورة ( الرأي) العظيم”.
وقال مفسروا الكتابن هذه الآية تؤكد لاهوت السيد المسيح وهذا مناسب لعيد الميلاد المجيد، فنحن حينما ننظر إلى يسوع الطفل الوديع المتواضع
والموضوع في المزود البسيط، لابد أن ندرك أيضا أنه الإله القادر على كل شيء، والمتسلط على كل الخليقة، الذي تجسد وصار بيننا.
وتقول النبؤة، إن زمن المسيح هو زمن السلام، أي أن إبليس لن تكون له السلطة على البشر بعد مجيء المخلص بل السلطة والهيمنة ستكون للمسيح، فالمسيح يُولد بيننا ولأجلنا: أي أن الابن يتأنس ويصير ابن الله ابن إنسان، ونُعطى ابناً: أي أن الكلمة سيصير جسدًا، وتكون الرئاسة على كتفه: فبحمله الصليب مَلَك على قلوب كل من آمنوا به، وهو عجيبا: فائق الإدراك في نزوله من السماء، وفي إتضاعه ومحبته للبشر، وفي كل أعماله الخلاصية وتعاليمه، رئيس السلام: فهو أعظم مثلاً لإعطاء السلام، فهو أحب أعداءه إلى المنتهى ولأجلهم صلب حتى يعطي السلام والهدوء للنفس،كما قال رب المجد: “سلاماً أترك لكم، سلامي أعطيكم، ليس كما يعطي العالم أعطيكم أنا، فلا تضطرب قلوبكم ولا ترتعب” (يو14: 27)، مشيرا: لأن المسيح حكمة الله هو اللوغوس أقنوم الحكمة في الثالوث القدوس، وكل الأشياء خُلقت بكلمته “هو صورة الله الذي لا يرى والبكر على كل ما قد خُلق إذ به خُلقت جميع الأشياء ما في السموات وما على الأرض ما يرى وما لا يرى أعروشا كانت أم سيادات أم رئاسات أم سلطات كل ما في الكون قد خُلق به ولأجله” (كو15: 16)، إلها قديرا: فهو واحد مع الآب في الجوهر هو الإله الحق من الإله الحق القادر وحده أن يجدد طبيعتنا بكونه الخالق والشفيع الذي يقدر وحده أن يكفر عن كل خطايا العالم، أبا أبديا: فالمسيح في ألوهيته أظهر أبوة الله،وأعطى الإنسان أن يرجع إلى أصله وإلى أبيه، وبالمسيح عرفنا محبة الآب وصرنا أبناء له، رسول المشورة العظيمة: يقول القديس يوحنا ذهبي الفم: “دُعي من الله هكذا من أجل الأمور التي علمها خاصة، وأنه أعلن للبشر عن الآب حيث يقول أظهرت اسمك للناس (يو17: 6)، أعلن اسمه بالكلمات والأعمال.
إن كنيستنا القبطية الأورثوذكسية العميقة في فكرها، والأصيلة في روحانيتها، والثابتة في إيمانها، استطاعت أن تُوَصلمفهومنا عن السيد المسيح خلال الأجيال المتعاقبة بإيمان سليم،وعقيدة ثابتة للمؤمنين، وتغرس بألحانها كل مفاهيم الكنيسة الإيمانية بسلاسة وعٌمق، من خلال ألحانها وتسابيحها الشجية على مدى مئات السنوات، وفي هذه المناسبة والفترة الروحية تُهدي كنيستنا كل مفاهيم السلام والمصالحة والمحبة لكل العالم باحتفالنا بإله المصالحة والسلام والحب للعالم كله.
للمقال بقية ان شاءالله