استكمالاً لما سبق سرده في المقال السابق الخاص بلحن تين ثينو “قوموا يابني النور لنسبح رب القوات”، لحن التسبحة الجميل، تعالوا معاً نغوص في موسيقية هذا اللحن الجميل ونعرف أسراره التى جعلته لحناً جميلاً، وكيف أن موسيقيته أظهرت روحانيته.
لحن “تين ثينو” كما ذكرنا سابقاً يبدأ من مقام “راست”. ولست أريدكم أن تندهشوا لا من كلمة راست ولا من كلمة مقام. فكلمة راست كما شرحناها سالفاً هي كلمة فارسية معناها “مستقيم”. وهذا المقام الراست يطلق عليه الموسيقيون “أبو المقامات”. فهو حقاً اسماً على مسمى، لأن من يقوم في نص الليل ويقاوم البرد والكسل ليستيقظ من عمق نومه الشديد ليسبح رب القوات، بالفعل يسير في طريق مستقيم. فداوود النبى كان عجيبا، سألت نفسي: كم مرة كنت تسبح اسم الله أيها النبي العظيم؟
فى الفجر : “يَا اَللهُ، إِلهِي أَنْتَ. إِلَيْكَ أُبَكِّرُ. عَطِشَتْ إِلَيْكَ نَفْسِي”
في وقت السحر: “سبقت عيناى وقت السحر لأتلو فى جميع اقوالك” ، “كنت أذكرك على فراشي، وفي أوقات الأسحار كنت أرتل لك”
فى النهار: “محبوب هو اسمك القدوس يا رب فهو طول النهار تلاوتي”، “سَبْعَ مَرَّاتٍ فِي النَّهَارِ سَبَّحْتُكَ عَلَى أَحْكَام عدلكِ”
فى منتصف الليل : “فِي مُنْتَصَفِ اللَّيْلِ أَقُومُ لأَحْمَدَكَ عَلَى أَحْكَامِ بِرِّكَ” ، “إِذَا ذَكَرْتُكَ عَلَى فِرَاشِي فِي السُّهْدِ أَلْهَجُ بِكَ”
ما هذا يا داوود انت تسبح طوال الليل النهار؟ فيقول داوود نعم فأنا أحبه “كَمْ أَحْبَبْتُ شَرِيعَتَكَ! الْيَوْمَ كُلَّهُ هِيَ لَهَجِي”. لأن من يشعر بالحب تجاه شخص لابد وأن يشغل فكره طول اليوم حتى أنه يفكر فيه حتى أثناء نومه، من يشتاق إلى الله، يقول له: “أما أنا فصلاة”، انا في الأصل صلاة، فى بيتى انا صلاه، أنا تسبيح، فى عملي، فى خدمتى ، انا ملكك يا رب انا كلي لك، حتى لو كنت في بطن الحوت أو فى جب الأسود، أو حتى و أنا تحت حد السيف وهم يذبحوني، سوف أصرخ لك من هذه الحمأة لأسبحك على أحكام عدلك. فأنا صلاه وأنا تسبيح، لإن تسبيحك حلو لذيذ، ولإنه لإلهنا يلذ التسبيح.
فهيا بنا نسبح بلحن “تين ثينو” يجب أن نحفظه عن ظهر قلب، أو نقرأه بالنوتة الموسيقية.
هو بالفعل لحن جميل من مقام راست. وإذا كانت كلمة راست كلمة فارسية تعني مستقيم، فماذا تعنى كلمة مقام؟ المقام هو سلم من النغمات يصعد وينزل عليه الملحن كي يؤلف لحنه. وإذا تغيرت نغمة واحدة أو أكثر في درجات السلم الموسيقي، فإن المقام الموسيقي يتغير إسمه وطابعه ولونه وأبعاده، فيعطي تلوينا جميلا وأبعاداً أخرى، ومذاقا جديداً للحن، فتجده تارة وقوراً وتارة مفرحاً وتارة أخرى حزيناً وهناك مقاماً تجده ناسكاً، ومقاماً آخر تجده محذراً.
فالمقامات مثل الألوان كل لون له طابع، اللون الأسود له طابع حزين، واللون الأبيض له طابع قدسي يعبر عن النقاء. وهنا يأتيالسؤال: هل يمكن أن يُصاغ اللحن بأكثر من مقام؟ أم كل لحن لابد أن يُؤلف من نفس المقام من بدايته حتى نهايته؟
إنه سؤال مماثل لهذا السؤال في الألوان في الفن التشكيلي: هل هناك ما يمنع ان يرسم الفنان لوحة بألوان مختلفة؟ أصفر و أخضر وأحمر و أزرق؟ أم يجب أن تكون من لون واحد؟
بالطبع ليس هناك مانع، بل على النقيض، يمكن لإختلاف الألوان أن تُخرج تابلوهاً جميلاً، متى تم توظيفها بفن وذكاء وحنكة وحبكة فنية.
والكنيسة القبطية مبدعة في الإنتقالات بين المقامات المختلفة في اللحن الواحد، لذا فالألحان القبطية ثرية غنية في موسيقاها التي تعتقت سنين عددها يقترب من ألفي سنة.
فهذا هو ما قام به الأب القديس الذي قام بصياغة لحن تين ثينو حيث استخدم أكثر من مقام في نفس اللحن، حتى يعطي أكثر من طابع. فالأب القديس الذي وضع لحن تين ثينو بدأ من مقام راست من أجل أن نغمة الـ مي السيكاه تكون دافئة داخل مقام الراست . وبهذا تستطيع الكنيسة أن توقظك في منتصف الليل برفق، ثم إستخدم مقام عشاق مصري بسبب نغمة الـ “مي بيكار” مع نغمة الـ “فا” لكي يُعطي احساساً بالتوسل، وكأنه يتوسل إلينا لكي نقوم من النوم لنسبح رب القوات. وإمعانا في التوسل، قام بتكرار الجملة مرة أخرى للتأكيد.
ثم إستخدم بعد ذلك مقام البياتي الذي يرتكز على درجة أعلي هي درجة الـ “ري”، وكأنه يريد ن يقول لنا بقوة: إين حياة التغصب . فحقاً لا يستطيع الانسان في بعض الأحيان أن يصوم ،
أو أن يصلي أو يسبح، هنا يأتي الجهاد و التغصب، وعدم الإستسلام لشيطان الكسل.
هذه الأحاسيس الثلاثة جسدتها الثلاثة مقامات المختلفة التي ظهرت في أول دقيقتين من مطلع اللحن.
عزيزي القارئ لا تنسى أن آلة البيانو مثلاً، لن تستطيع أن تعزف عليها هذا اللحن تين ثينو لأن كلٍ من مقام الراست والبياتي به نغمة ال “مي” سيكاه وهي ميكروتون ليست موجودة في الآلات الغربية مثل البيانو والجيتار والماريمبا والإكسليفون الخ. لكنها موجودة في بعض الآلات مثل العود والقانون والكمان والناي. وهناك بعض آلات من الأورج بها إمكانية ضبطها لتعزف الـ 3/4 تون او الميكروتون.
بركة لحن تين ثينو ونغماته العذبة تملأ حياتك بالفرح، وباليقظة الروحية.
رابط اللحن مرنماً بفرقة دافيد من برنامج ما وراء الألحان:
https://www.youtube.com/watch?v=4K1mgTNWd-E