نظم مركز “بى لمباس” للدرسات القبطية بكنيسة السيدة العذراء مريم بمهمشة، برئاسة وحضور نيافة الحبر الجليل الأنبا مارتيروس أسقف عام منطقة شرق السكة الحديد، اللقاء الشهري المعتاد، حيث استضاف المركز الدكتور سعيد حكيم يعقوب أستاذ علم الآباء بالكليه الاكليريكية اللاهوتية القبطية الارثوذكسية بالكاتدرائية المرقسية بالعباسية ، دكتوراة في العلوم اللاهوتية من جامعة تسألونيكي باليونان والباحث المتخصص في كتابات الآباء بمركز دراسات الاباء.
والذي ألقى محاضرته الهامة، تحت عنوان “البشرية والمجتمع في حياة الأنبا شنودة رئيس المتوحدين”، وذلك بحضور الباحثين والدكاترة والمهتمين بالتراث والفنون القبطية والعديد من الآباء الكهنة والخدام.
بدء اللقاء بصلاة افتتاحية قادها نيافة الأنبا مارتيروس، ثم رحب بالحضور الكريم وايضا بالدكتور سعيد حكيم والذي قدم فى بداية كلمته لمحة سريعة عن تاريخ الرهبنة المصرية فقال : إن تاريخ الرهبنة المصرية كان ولا يزال ساحة واسعة للبحث والدراسة اللاهوتية فى العالم كله. فلقد شكَّل مجتمع الصحراء مجالاً لهذا البحث، ورأى الباحثين فى حياة هؤلاء الرهبان المتجردين عن كل شئ صورة حقيقية لإنكار الذات ومحبة حقيقية تعكس التعاليم الكتابية، فقاموا بدراسة الدوافع والأسباب التى دفعت لظهور الرهبنة، ومراحلها وأهدافها، وعلاقتها بالكنيسة والمجتمع و البرية، كما بحثوا نُظم وقوانين الرهبنة وأفكار مؤسسيها فيما يخص طبيعة الحياة الرهبانية وطرق معيشتها، أيضًا بحثوا رؤية آباء البرية الرهبان لمفهوم القداسة ومكانة التقليد الكتابى فى الحياة الرهبانية، ثم بحثوا قالبعد الاجتماعى للحياة الرهبانية.
لقد سلك آباء البرية طريقًا قاد إلى مجتمع جديد يستند فى قوانينه إلى الحياة الروحية الحقيقية كما يعلمها التقليد الكتابى. إن حياة هذا المجتمع المسيحى المثالى تتطلب تجاوز الزمن والدخول فى الأبدية
“Rol. Walls وكما يقول الكاتب”
” تمامًا مثل يوحنا المعمدان الذى عاش منعزلاً بعيدًا عن عادات الناس لكى يُهيئ لمملكة، لم تكن امتدادًا أو تكميلاً لأى مملكة أخرى للناس، لكنها كانت تعنى انفصالاً جذريًا عن النظام والسلطة الزمنية. هكذا فإن الراهب هو شاهد لهذا الاختلاف الأساسى لملكوت الله عن الممالك الأخرى”، ويؤكد القديس غريغوريوس اللاهوتى على أن الرحيل إلى الصحراء هو امتداد طبيعى لتلك الرغبة القوية للهدوء والاختلاء إن الرغبة الصادقة والملحة فى طلب الكمال والاشتياق لسكنى المحبة فى نفوس الناس ومحاولة صنع جسور بين الحياة السمائية والحياة الأرضية، دفعت هؤلاء الرهبان للرحيل للصحراء و البرية وتأسيس مجتمع البرية الجديد الذي يسوده الحب وإنكار الذات.
وبخصوص الأنبا شنودة وثقافة عصرة أوضح الدكتور سعيد حكيم ان الأنبا شنودة كان من بين هؤلاء النساك الذين سعوا إلى تأصيل هذه المفاهيم الروحية العميقة فى نفوس رهبانه، ولم يكن الأنبا شنودة ناسكًا في البرية مدققًا ومجاهدًا روحيًا عظيمًا، ومعلمًا واعيًا وراعيًا أمينًا لأبنائه فقط، بل كان أيضًا وبنفس القدر الأب الواعي بقضايا كنيسته وقضايا وطنه.
فلقد تثقف بثقافة عصره بطريقة عميقة، وكان قارئًا مدققًا للفلسفة بما له من دراية كاملة باللغة اليونانية وقواعدها وأصولها، كما سنرى لاحقًا، مما مكنه من قراءة كثير من كتب الفلاسفة والشعراء اليونانيين، ونقد منها ما استحق النقد وأثنى على ما استحق الثناء . فنجده يرفض نظرية أفلاطون عن النفس حيث يقول أفلاطون إن النفس سقطت وعندما سقطت حُبست فى الجسد، وصاغ رفضه فى النقاط التالية:
1ـ أين أخطأت النفوس قبل أن تُحبس فى الجسد؟
2ـ من أى جزء دخلت النفوس إلى الأجساد؟
3ـ هل الأجساد وجدت بدون نفوس والنفوس بدون أجساد؟
4ـ هل من المقبول والمعقول أن تخطأ الأجساد بدون نفوس والنفوس بدون أجساد؟
5ـ الإنسان الكامل هل هو نفس بلا خطية؟
6ـ كيف يمكن أن تخطئ النفوس قبل أن تأتى داخل الجسد؟
7ـ كيف يمكن للنفوس أن تتجنب الخطية قبل أن تدخل فى الجسد؟
8ـ لو أن الإنسان من وقت ميلاده وحتى وفاته هو خاطئ (بسبب أن نفسه حُبست فى الجسد)، فكيف يحدث أن البعض هم أشرار والبعض أبرار؟
9ـ لو أن النفوس أخطأت فى مكان ما، كيف يمكن أن تصير نقية فى العالم المملوء بالشرور؟
ولهذا فقد استطاع برؤيته اللاهوتية المتميزة أن يستخدم بعضًا من الفكر الفلسفى لكى يكشف عمق الحقيقة، فنجده فى وصفه للنفس ـ بالرأى والمعرفة ـ يقترب من الرؤية الأفلاطونية فى وصف النفس بذات التعبير ـ الرأى والمعرفة ـ وهو فى هذا لم يبتعد عن خط آباء الكنيسة فى وصف النفس.
وأكد الدكتور سعيد حكيم على ان الأنبا شنودة يُعتبر هو الوحيد من آباء الكنيسة الذى أضاف إلى وصف النفس بالمعرفة تعبير “الرأى” وهو الوصف الذى أعطى للنفس أيضًا من قبل الفلسفة الأفلاطونية وهكذا يؤكد اطلاعه الواسع على الفلسفة اليونانية وقد أكد “هربرت طومسون” أن الأنبا شنودة كان يعرف اليونانية مُشيرًا إلى الرسالة التى وجهها البابا ديوسقورس بطريرك الأسكندرية آنذاك إلى الأنبا شنودة ـ لأن لغة الرسالة كانت باليونانية ـ وكما يبين محتوى الرسالة أنها تُرجمت منه هو نفسه أو من شخص آخر تحت إشرافه المباشر.
وايضا يقول” أدولف إيرمان ” عالم المصريات فى مقاله ” شنودة وأريستوفانيس” إن الأنبا شنودة كان لديه معرفة كبيرة باللغة اليونانية وهذا واضح من النقد الذى وجهه إلى أريستوفانيس عن روايته “الطيور” ـ معتبرًا أن استخدام لغة الطيور يشكلان أسوأ نموذج للأدب اليونانى، فقد وصف الأنبا شنودة “ Leipoldt” ، أما العالم الألمانى بأنه أكثر ثقافة من كثيرين من أبناء وطنه ولا أعرف إن كان قد درس فى مدرسة يونانية أم لا، لكنه من وقت لآخر يُظهر لنا ويوضح الأسلوب اليونانى الشيق ومواطن الجمال فى معنى الكلمات بأسلوب لا يقل عن أسلوب يوسابيوس القيصرى وباسيليوس الكبير
H. F. Weiss: ويقول
يجب أن نقبل أن شنودة قد عرف الثقافة اليونانية واللغة اليونانية جيدًا، ولهذا فقد توفر لديه القواعد الأساسية التى تمكنه من أن يكون مطلعًا على المشكلات اللاهوتية لعصره.
ومع كل هذه المعرفة للغة اليونانية ودرايته الكاملة بها فقد رفض استخدامها فى أديرته وتبنى استخدام اللغة القبطية كلغة حديث ولغة كتابة، وكان لهذا الحدث بُعد قومى أيضًا لأن اللغة تمثل أسلوب تواصل بين الناس. إذ أن رفض استخدام اللغة الأوسع انتشارًا فى هذا العصر كان يعنى وبشكل مباشر رفض التواصل مع العنصر الأجبنى المحتل لوطنه والذى مارس كثيرًا من المظالم ضد أبناء هذا الوطن. فنشاطه الاجتماعى كان له بُعد قومى. وتوجهه القومى كان له نتائج اجتماعية متعددة. كان الأنبا شنودة ينتمى إلى عائلة لها علاقة وثيقة بالرهبنة، فقد كان خاله الأنبا بيجول هو مؤسس دير أتريب وعندما وصل عدد رهبانه إلى ثلاثين راهبًا حدد لهم أعمالاً ووضع لهم قوانينًا، وإن كانت أكثر شدة من القوانين الخاصة بجماعات رهبانية تعيش بنظام الشركة التى كانت توجد فى نفس المنطقة.
وعن انضمام الأنبا شنودة للرهبنة ورئاسته للدير الابيض اكد الدكتور سعيد حكيم انه فى سن تسع سنوات انضم إلى دير خاله وهناك تعلّم المبادئ الصحيحة للإيمان المسيحى. ولقد ساعدت إقامته الطويلة بالدير وعلاقته المباشرة بحياة الرهبان اليومية والتزامه بحفظ قوانين الدير على أن ينمو ويتقدم فى الحياة النُسكية.
غير أنه لا توجد لدينا معلومات كثيرة عن والديه، ربما تكون والدته قد تنيحت فى سن مبكرة، وبعدها انضم والده إلى أحد الأديرة الخاضعة لإشراف الأنبا شنودة حيث صار إيغومينوس
وهنا تجدر الإشارة إلى أن والدىّ الأنبا شنودة كانا مصريين أصليين وهذا واضح من أسمائهما، فاسم والده ” أبجوش ” ويعنى بالمصرى القديم ” الراعى “، واسم والدته ” داروبة ” وتعنى ” آلهة الحصاد “.
قد ظل الأنبا شنودة ـ لفترة طويلة ـ تلميذًا لخاله الأنبا بيجول، تعلم خلالها الكثير عن الحياة النُسكية، ثم بعد ذلك شارك بفاعلية فى إدارة الدير الأبيض اعتبارًا من سنة 383ـ385 ، كما يتضح من الرسائل المتبادلة مع بابا الأسكندرية آنذاك (البابا تيموثاوس)، وظل فى رئاسته للدير في البرية حتى تنيح سنة 451 عن عمر يناهز 118 عام وساهم خلال هذه الفترة فى إذكاء روح جديدة فى الحياة الرهبانية، إذ رأى أن الدير له دور اجتماعي هام ولهذا عمل على ازدياد نشاط الدير الاجتماعي والروحي من أجل خدمة المظلومين والفقراء والمحرومين ومقاومة الهرطقات والوثنية.
ولهذا فقد ارتفع عدد رهبان الدير إلى 2200 راهبًا و1800 راهبة. وبطبيعة الحال كل هذا تطلب جهاد طويل على المستوى الروحى والاجتماعى والقومى، الأمر الذى جعل المؤرخون ينظرون إلى القديس الأنبا شنودة، كأول من ساهم فى تحرير وطنه من التواجد الأجنبى.
لقد كان الأنبا شنودة رئيس المتوحدين نموذجًا لكاهن الله المتنوع المواهب ـ أب روحى مختبر يقود بحكمة روحية جموع المؤمنين وراعٍ يقدم خدماته للمجتمع الذى ينتمى إليه. ولم يكن اهتمام الأنبا شنودة منصبًا على الاهتمامات الروحية لأبنائه داخل الأديرة وخارجها فقط، بل إنه اهتم أيضًا بقضايا وطنه وكذلك بقضايا كنيسته العقائدية، وكانت له كتابات لاهوتية عميقة ساهم بها مع آباء كنيستنا العظام فى مواجهة الهرطقات التى هددت حياة الكنيسة وسلام المؤمنين، مثل.
ـ أزلية الله الكلمة.
ـ سر تأنس كلمة الله من العذراء.
ـ دقة مصطلح والدة الإله (ضد نسطور).
ـ حقيقة تحول الخبز والخمر (ضد الأوريجانيون).
ولقد اعتمد فى كتابة موضوعاته هذه على نصوص الكتاب المقدس مفسرًا إياها تفسيرًا صحيحًا، وأيضًا على كتابات آباء الكنيسة وخاصة كتابات القديس أثناسيوس والقديس كيرلس الكبير فى الترجمة الى العربية LEFORT ويقول: قد كشفت هذه الموضوعات عن جانب هام للأنبا شنودة
كمفسر دقيق للكتاب المقدس من خلال اختياره للنصوص بعناية وبشكل أساسى من خلال الربط الدقيق بين مقدمة إنجيل يوحنا والإصحاحات الأولى من سفر التكوين. وفى هذا يكون سابقًا للشراح المعاصرين الذين يرون فى مقدمة إنجيل يوحنا شرح لهذا الجزء من سفر LEFORT ويؤكد
أن هذه الكتابات تُكذّب تلك المقولة التى تَدّعى أن الأنبا شنودة ـ فى اهتمامه بالحياة العملية والاجتماعية ـ لم يهتم بالتفاصيل اللاهوتية التى تخص الموضوعات الخريستولوجية.
وبسبب العلاقات الوثيقة بين الأنبا شنودة والقديس كيرلس الكبير، فقد استعان ببعض ردود القديس كيرلس على نسطور، وهذا واضح من استخدامه لنفس المصادر التى استخدمها القديس كيرلس فيما يتعلق بموضوع أزلية الابن.
ولقد احتل اهتمامه باستقامة الإيمان ونقاوة العقيدة، مكانة أساسية فى عظاته، وكان يؤكد باستمرار على أن هؤلاء الذين يفكرون بأسلوب غير مستقيم، هم أشر من أولئك الذين يجهلون الله.
وكما اشرنا تُظهر كتاباته أيضًا اهتمامه الكبير بمشاكل المجتمع وارتبط جهاده فى الدفاع عن حقوق الفقراء بشكل مباشر بجهاده ضد الوثنيين، لأنه فى ذلك الوقت كانت الطبقات اليونانية والرومانية الغنية فى مصر هى السند القوى للديانات القديمة. وبسبب ممارسات القهر والعنف من قِبل الحكام الأجانب فقد رفض استقبال غير المصريين فى أديرته وهو الأمر الذى يشرح غياب المعلومات الخاصة بالمراكز الرهبانية للقديس أنبا شنودة من المصادر اليونانية، ولذلك ظلت أعماله مجهولة لفترة طويلة فى العالمين اليونانى والرومانى.
وكان للأنبا شنودة اهتمام كبير بقضايا مجتمعة اسردها الدكتور سعيد حكيم على النحو التالى: خلال القرنين الرابع والخامس تزايد التواجد العسكرى للإمبراطورية الرومانية فى منطقة جنوب مصر، ولذا انحصر الإنتاج الزراعى وزادت الضرائب، مما أدى إلى زيادة الأعباء على جموع المواطنين الفقراء. هذا الوضع، مع انتشار العبادات الوثنية وظهور الهرطقات كان سببًا فى إثارة حالة من القلق والتشكيك بين المؤمنين. فى هذا المناخ كانت أديرة الأنبا شنودة تمثل الرجاء لتغيير اجتماعى، وهذا التغيير كان تغييرًا نوعيًا للمجتمع كله، إذ كان من ثمار خدمة الرهبان الروحية للمجتمع بكل طبقاته. هذا البعد الاجتماعى للرهبنة، خلق آمالاً جديدة لحياة أفضل ليس فقط فى الدهر الآتى ولكن أيضًا فى الحياة الحاضرة.
فمن البداية وبسبب عوامل أثرت فى بنية المجتمع مثل الاضطهادات والهرطقات والعبادات الوثنية وفرض الضرائب وازدياد حالة الفقر، أدرك الأنبا شنودة ضرورة خروج الرهبنة إلى المجتمع لتشاركه مشكلاته وتساهم فى تقديم حلول لها. لأن الديانات القديمة حتى ذلك الحين إما أنها كانت تبرر عدم المساواة، إما أنها كانت لا تبالى بعدم المساواة. لذلك كانت نشاطات وخدمات أديرة الأنبا شنودة هامة جدًا، حيث لم تكن مشاكل المجتمع فقط سببًا فى إضعاف المناخ الروحى والأخلاقى للمجتمع بل أيضًا وضعت حياة الناس أنفسهم فى خطر. لهذا فإن القديس الأنبا شنودة أعطى للدير بُعدًا آخر تجاوز ما وضعه من نظم تهدف لتتميم القوانين الروحية الخاصة بالرهبان.
فلقد أحس بالدور الاجتماعى للأديرة واهتم برعاية الفقراء والمحرومين والأيتام ورأى فى الدير ملجأ لكل هؤلاء، ويخبرنا تاريخ الرهبنة المصرية أن آباء البرية لم يهملوا قط رعاية الفقراء والاهتمام بهم وكانوا باستمرار يرسلون قمح وملابس لفقراء الأسكندرية، فقد كان أمرًا نادرًا أن نرى فقير يعيش بجوار الأديرة، وهذا يعكس المستوى الروحى والإنسانى، ويظهر الدور الذى لعبته الرهبنة فى هذا المجال.
ويؤكد المؤرخون على أن مؤسسات الخدمة الإنسانية للعالم المسيحى كانت لفترات طويلة موجودة داخل الأديرة. لقد كانت خدمة المجتمع من قِبل الأنبا شنودة تنبع من إيمانه العميق ورغبته الأكيدة لتتميم الوصية الإنجيلية نحو محبة القريب.
واشار “تيم فيفيان” باحث أمريكي فى المسيحية المبكرة الى ان الحياة الروحية للرهبنة أدركت أن التأمل والعمل هو ثوب واحد ينسجه الراهب من حياته الخاصة. وإن الهدوء الروحى لم يكن حلاً بديلاً عن العمل والخدمة، لكنه كان أفضل سند للخدمة والعمل، بمعنى خدمة الآخرين وتغطية احتياجاتهم. وهكذا استطاع الدير الأبيض أن يحقق هذا الحضور المتوازن بين الحياة الروحية والحياة الاجتماعية. فتح أبوابه لإطعام الشعب وتسديد احتياجاته ، وكانت لديه الإمكانية لرعاية 20 ألف شخص، وصار ملجأً لكل المظلومين والضعفاء وللذين هم بلا مورد.
من هذا الدور الاجتماعى لأديرة الأنبا شنودة يستطيع المرء أن يستنتج أن القديس الأنبا شنودة سعى نحو حضور اجتماعى فعّال ومنتج، حتى يستطيع مواجهة التأثيرات اليونانية والرومانية على سكان المنطقة، وأيضًا مواجهة المشكلات التى خلقها النظام الإدارى الرومانى بسبب سياسة التمييز العنصرى بين طبقات الشعب. وفى نفس الوقت فقد مارس نشاطه الروحى لتأمين الشعب من خطر التعاليم المُضلة، حيث إن هذه المنطقة كانت مركزًا للعبادات الوثنية القديمة، وكانت المعابد الوثنية منتشرة فى كل مكان، وممارسة هذه العبادة كانت علانية مما كان له تأثير على الإنسان المسيحى غير الحَذِر والبسيط فى إيمانه مما جعلت حياته الروحية فى خطر، وبسبب عدم النضج اللاهوتى لدى الشعب وجد آباء الأديرة لزامًا عليهم تكثيف الخدمة الروحية لحماية المؤمنين البسطاء من هذه الأخطار.
وهكذا تنوع النشاط الروحى للأنبا شنودة فاهتم بأمور الكنيسة وأمور الرهبان والراهبات، وكتب رسائل روحية، منها رسالة للبابا تيموثاوس ورسالة للإمبراطور ثيؤدوسيوس والبعض الآخر لعلمانيين والبعض لإكليروس . مجموعة كبيرة من عظاته كانت ضد الوثنيين ، عظات أخرى كانت فى مجال العقيدة والإيمان والأخلاق. اهتم أن ينقى اللغة القبطية والأدب الدينى من التأثيرات اليونانية. ونمت اللغة القبطية والأدب القبطى فى عصره، ورغم هذا فإننا لا نستطيع أن نتحدث بنفس القدر عن نمو الشعور القومى ولكن نستطيع أن نؤكد على بداية استعلان الضمير القومى. ولهذا فإن الأنبا شنودة لم يكن فقط الأب الروحى الساهر على رعاية أبنائه ولكنه أيضًا كان وطنيًا صميمًا، هاجم كل أشكال الظلم التى كانت تقع على أبناء وطنه.
واشار الدكتور سعيد حكيم لاهتمام الانبا شنودة بالراهبات ودورهن فى الخدمة، فبقدر اهتمامه بأديرة الرهبان اهتم أيضًا بأديرة الراهبات وخدمتهن الروحية والاجتماعية.
إن إحساس الراهبات بأن الحياة الرهبانية تتطلب تكريس كامل لله، قاد كثيرات منهن نحو هذه الحياة الصعبة . وبحثهن عن الكمال الروحى والرغبة فى النُسك لم يقف عند حدود القرى لكن تمامًا ـ مثلما فعل الرهبان فقد ذهبوا إلى عمق الصحراء دون خوف من قسوة الطبيعة أو هجمات للإنسان أو الشيطان
لقد قالت الأم سارة لبعض الرهبان” أنا امرأة بحسب الجسد وليس بحسب الفكر “، وبصفة عامة يتحدث القديس غريغوريوس النيسى عن طبيعة المرأة وجهادها الروحى مشيرًا إلى حياة “ماكرينا البارة” فقال: “لا أعرف إن كانت طبيعتها تعطينا الحق أن ندعوها امرأة تلك التى هزمت طبيعتها الخاصة”.
واضاف الدكتور سعيد حكيم من المبادئ الأساسية عند القديس الأنبا شنودة هى مبدأ، المساواة بين الرجال والنساء وهذا واضح من أن كثير من الأمور الخاصة بالجماعات الرهبانية النسائية لم تختلف عن تلك الخاصة بأديرة الرهبان. ولذلك كانت القوانين المُطبقة فى أديرة الرجال هى ذاتها المُطبقة فى أديرة النساء، وكانت فترة الاختبار واحدة للرجال والنساء. وعندما تكتمل فترة الاختبار كان يجب على طالبى الرهبنة أن يتمموا مطلبين آخرين لكى يصيروا بشكل رسمى مقبولين بالدير
1ـ هجرة ثرواتهم وتقديم قَسم الطاعة أمام المائدة المقدسة معلنين بهذا الخضوع للقوانين التى وضعها الأنبا شنودة لكل الأديرة التى تحت قيادته ورعايته.
ـ أن يحفظوا أجسادهم عفيفة وأن يتجنبوا السرقات والكذب.2
وقد أعطى الأنبا شنودة دورًا أساسيًا لرئيسة الدير فى توجيه أمور الدير، وكان يطلب منها أن تزورـ بشكل منتظم ـ التجمعات الرهبانية النسائية لتعرف احتياجاتها، كما كانت منوطة أيضًا بحفظ النظام فى هذه التجمعات بالاشتراك مع الأب المعيّن من قِبل الأنبا شنودة لرعاية هذه التجمعات الرهبانية روحيًا. وأكد مرارًا فى عظاته على مساواة الرجل والمرأة فيما يتعلق بخلاص النفس والتمتع بخيرات ملكوت الله. وأيضًا أن وراثة الملكوت ليس امتيازًا فقط، ولكنه ثمار جهاد روحى طويل يستطيع الجميع أن يخرجوا منه منتصرين رجالاً ونساءً وأولادًا.
والقى الدكتور سعيد حكيم الضوء على طريقة ادارة الأنبا شنودة لاديرتة فى البرية، فبعض الباحثين قد أشاروا إلى أن الأنبا شنودة كان يتسم بالشدة فى معاملة رهبانه وراهباته وأن قوانينه كانت تشبه قوانين العقوبات. وفى الواقع هذا الرأى ينافى الحقيقة، لأنه كان مُحبًا للجميع وراعيًا أمينًا لكل أبنائه، وكان يسعى باستمرار لتسديد احتياجات الكل. وفى نفس الوقت كان يتسم بالجدية ـ لأنه كان يريد أن يحفظ النظام فى أديرته التى كانت تضم هذا العدد الكبير من الرهبان والراهبات (2200 راهب و1800 راهبة)، هذا الكم يتطلب رعاية خاصة ونظام خاص من أجل قيادة روحية أفضل، وأن يُؤّمن معاملة متساوية تجاه الجميع ، رهبانًا وراهبات.
وجدير بالذكر أن كثير من آباء الكنيسة وآباء البرية الرهبان وضعوا قوانين شديدة ، لا بهدف عقاب الجسد ولكن لخلاص النفس. وهكذا نجد القانون رقم 18 من قوانين القديس باسيليوس يشير إلى أنه (يعاقب أى نقض لنذر العذراوية من قِبل أى راهبة، وذلك لأنها تعتبر إناء قد كُرّس للرب )، والقانون رقم 19 يؤكد على أنة يُفضل أخذ الوعد واضحًا من هؤلاء الذين ينذرون حياتهم لله، فلو أنهم عادوا لحب الجسد وحياة الشهوة يوقع عليهم عقوبة الزنا.
هكذا أيضًا وضع الأنبا شنودة قوانينه لتنظيم الحياة الرهبانية وتأمين مسيرتها من أى انحراف، ومن أجل قيادة روحية منضبطة وصحيحة. ولهذا كان قاسٍ فيما يتعلق بالخطايا الروحية مثل عدم الطاعة والكذب والمجد الباطل أكثر من قسوته فيما يخص الخطايا الجسدية ولقد أكَّد الأب أفلوجيوس على هذا البعد قائلاً: “إن لم تُنقوا أولاً داخلكم لن تستطيعوا أن تقتربوا من نعمة الله” . وهناك إشارة لمثل هذه المخالفات وهى عدم الطاعة من قبل رئيسة إحدى التجمعات الرهبانية وتدعى الأم تاخوم والتى تجاهلت وجود الأب الشيخ الذى كان يقيم هناك لرعاية شئون الراهبات واحتياجاتهم وقيادتهم الروحية وممارسة الأسرار. وقد أرسل لها الأنبا شنودة الرسالة رقم 7 والتى قال فيها عندما لا تُظهر الايغومانى (الأم الرئيسة) طاعة للأب الشيخ المنوط به أعمال كثيرة هناك ستوجد راهبات ليس لديهم نية الخضوع والطاعة لكِ، وكان للكتاب المقدس مكانة أساسية فى الحياة الروحية لرهبنة الأنبا شنودة تمامًا مثل بقية الأنظمة الرهبانية، لأن قوانين الرهبنة كانت تُلزم كل من يريد أن يدخل الحياة البرية الرهبانية أن يعرف القراءة وإن لم يعرفها كان عليه أن يتعلمها.
واوضح الدكتور سعيد حكيم انة كان على الراهب أن يحفظ ويردد أجزاء مختلفة من الكتاب المقدس، وكان على الراهب الجديد أن يحفظ 20 مزمورًا ورسالتين من العهد الجديد. إن اهتمام آباء البرية بأهمية ومكانة الكتاب المقدس فى الحياة اليومية للرهبان والتأثير الذى يمكن أن يمارسه النص المكتوب على حياتهم الروحية، قاد إلى ظهور ما يسمى “مختصرات الكتاب المقدس” التى كانت تحوى أجزاء مختلفة من الكتاب المقدس. وهذه المختصرات قد ساهمت بشكل فعال فى دراسة وفهم الكتاب المقدس، وبسبب صغر حجمها (15×11سم ، 7×5سم) كان لها انتشارًا واسعًا بين الرهبان، وكان يسهل حملها معهم سواء فى الكنيسة أو القلاية أو فى العمل، لقد كان الكتاب المقدس بالنسبة للأنبا شنودة هو المصدر الدائم الذى استقى منه تعاليمه.
واستخدام الأنبا شنودة للكتاب المقدس وطرق تفسيره، يرجع إلى تفضيله نمطًا للتعليم له علاقة مباشرة بالحياة اليومية للإنسان داخل أو خارج الدير ولقد اختبر آباء البرية ما نسميه اليوم بالإنجيل المُعاش، إذ لدينا شهادة من القرن الخامس يقول فيها القديس مرقس الناسك “إن أهمية الكتاب المقدس توجد فى التطبيق العملى لمحتواه.
ووفقًا لذلك نجد الأنبا باخوميوس، على الرغم من أنه كان الأب الروحى لمؤسسة رهبانية كبيرة، نجده ينتقل إلى أسقفية دندرة ويتجاوب مع رغبة أسقفها لبناء كنيسة لأبناء هذه المنطقة، ويذهب إلى هناك كل سبت وأحد ويخدم كقارئ بسيط للإنجيل حتى يتم رسامة كاهن لها. فعندما تقدم بعض الرهبان إلى الأنبا أنطونيوس وقالوا له: ” قل لنا كيف نخلص”، أجابهم ” ا سمعوا الكتاب المقدس وهذا يكفيكم”.
D. Tsamhj ولهذا يقول البروفيسور
ان أعمال وأقوال آباء البرية تبين أن كلمة الله يمكن أن يُعبر عنها، وأن تُعاش داخل مشاكل وتفصيلات الحياة اليومية. وهكذا يُستعلن ملكوت الله ليس بشكل مجرد ونظرى، ولكن داخل مكان وزمان محدد. وهكذا استطاع الأنبا شنودة أن يحقق التوازن بين العمل الروحى وتتميم القوانين الرهبانية، وبين العمل الاجتماعى والاهتمام بقضايا الوطن.
لقد كانت حياة آباء البرية صدى لتعاليم المسيحية الحقيقية التى تحمل روح الرغبة فى التغيير من أجل حياة أفضل، والبرية كانت ساحة لهذا الروح الذى لم يخبو نوره حتى الآن. إن الحاجة ماسة لهذه القلوب الطيبة الوديعة والثائرة على الظلم والقهر الاجتماعى ومصادرة حق الإنسان فى الحياة . هذه الخبرات هى أفضل ما يُقدم اليوم على موائد الأحداث الأسرية والاجتماعية والعملية والعلمية هى الرائحة الطيبة والنغم المريح لكل الناس.
واختتم اللقاء ببعض المداخلات الهامة من الباحثين والسادة الحضور، كما استمع وأجاب الدكتور سعيد حكيم على العديد من الأسئلة والتعليقات والاستفسارات والمداخلات من الحضور، في جو من الحب والود ثم قدم نيافة الأنبا مارتيروس الشكر للحضور الكريم وللدكتور سعيد حكيم على هذا اللقاء.
وبعد انتهاء المحاضرة استمع الحضور لكورال ثيؤطوكوس التابع لكنيسة العذراء مريم بمنطقة مهمشة بقيادة الشاعر كمال سمير ، حيث قدم بعض الترانيم التراثية والتي حازت على اعجاب الحضور.
ومن المعروف أن مركز (بي لمباس) يختص بدراسة أنشطة التراث القبطي والرحلات العلمية وورش عمل، وتبنى أبحاث علمية جديدة لتدريب صغار الباحثين على الدراسة والبحث في مجال القبطيات، بالإضافة إلى كورسات خاصة بدراسة اللغة اليونانية ويحاضر بة نخبة من السادة الأساتذة المتخصصين في التراث القبطي ، كالتاريخ والفن والآثار ، والأدب القبطي ، والموسيقي القبطية، وتاريخ الرهبنة، والمخطوطات ويقيم المركز محاضرة شهرية تقام في الساعة السادسة والنصف من الجمعة الأولي من كل شهر.