يا بطل روح اتعالج وأخواتك هيأخدو حقك
“سألونى أصحابي قالوا لي أبطال أكتوبر فين .. قولت لهم دول نجوم وفى السماء منورين، يا رب ترحم الشهداء والراحلين .. وطول عمر أبطالنا اللى لسه موجودين ” ..كلمات شعرية تفوه بها أحد أبطال أكتوبر ليعبر عن مقدار ما قدمه هؤلاء لتحقيق النصر هو البطل نبيل فتحي ميخائيل جندي مشاه إشارة الفرقة 21 أهم الفرق التي كبدت العدو الإسرائيلي خسائر فادحة، وقف صامدا أمام قذائف العدو و شظايا الانفجارات تنهمر عليه والرمل يتناثر كالنار ليسكن في أجزاء جسمه، مشهد رهيب أمام عينه زملائه من أحياء الى أموات أحدهم فى وضع السجود والآخر ملقى الظهر وعيناه الى السماء ، زحف على ركبتيه حتى وصل لمنطقة أمان ، لم يرتاح قلبه حتى جاء النداء من قائده “يا نبيل أخواتك هيأخدوا حقك” وتحقق النصر …
المقاتل نبيل فتحى ميخائيل من مواليد 1951 محافظة الإسكندرية، بعد تخرجه من كلية التجارة التحق بالخدمة العسكرية فى 28 فبراير عام 1973 سلاح مشاة ميكانيكي تخصص إشارة، بعد أن تلقى التدريبات بمعسكر الهايكستب انضم للفرقة 21 مدرع المسئولة عن حماية المعابر، أصيب في يوم 21 اكتوبر 1973 يوم وقف إطلاق النار.
بفخر واعتزاز حدثنا عن سلاح الإشارة قائلا: سلاح الإشارة بمثابة أذن ولسان الجيش بدونه يحدث فجوة، فهو عصب الجيش ولولاه ما كان نصر أكتوبر .. نحمل سلاح شخصى كالبندقية أو الرشاش، ولكننا كأفراد إشارة لنا دور محدد لا غنى عنه فى الجيش.
حدثنا عن التدريبات التي تلقاها .. شعار الجيش الدائم هو الاستعداد وكان يقال لنا “أن لم تصيب الهدف سوف يصيبك الهدف”، فكان لابد أن تكون التدريبات شاقة ولم يكن أحد يعلم أننا سنحارب، بعد ان انتهيت من فترة التدريب داخل معسكر الهايكستب التحقت بالفرقة 21 وتنقلنا بين عدة وحدات وكان التدريب يتم بشكل يومي، كنا نقوم بعمل مشاريع للحرب فمثلا الساتر الترابى كان الجيش الإسرائيلى لديه وهم عن استحالة تحطيمه، لكن الله أعطى للإنسان عقل يفكر به فظهرت العبقرية المصرية فكان الاقتراح بعمل طلمبات مياه وكان لابد من عمل بروفات عليها فى الجبل لمعرفة مدى استطاعة المياه إزالة هذا الجبل من الركام .. وحتى أخر وقت كان الكل يعتقد أن الحرب مجرد مشروع كبير على مستوى الجيش كله ، وهذا نتاج ميزة السرية مع الحرب،
وعن كواليس فرقته قبل الهجوم ، وخطة التمويه .. قال: لم يكن لدى توقع بالعبور ألا قبل الحرب بثلاثة أيام ، عندما قال لى قائد الإشارة : “يا نبيل أنت وزميلك محمد خدوا المظروف ده وافتحوه و اعملولى محطات الإشارة لتغطي مستوى الجيش كله” ، وقتها عرفنا أنها حرب وليست مشروع، كنا نسابق الزمن، هناك نقطة مهمة تحسب للقيادة وهي عملية الإخفاء والتمويه، الكل كان يتعامل عادى اللى يعوم واللي يلعب كرة واللى يغني، لدرجة أننا كنا نتبادل الذهاب لمعسكر الراحة فى فايد لمدة ثلاثة أيام فكانت الحياة تسير بشكل طبيعى مما جعل الإسرائيليين يقولون أن المصريين عمرهم ما هيحاربوا .. حتى حدثت خطة الهجوم ..
كان الإسرائيليون قريبين منا بشكل كبير كانوا بيتفرجوا علينا ونحن نلعب ونعوم، البعض منهم كان يتحدث العربية ، بعض المجموعات وليست مجموعتى تعرضت للألفاظ الجارحة والشتائم من قبل العدو وبالطبع المصريون دمهم حر كانوا يردون أيضا عليهم ..
وعن دور الشفرة النوبية فى تأمين الاتصالات العسكرية…. قال البطل نبيل: كانت الشفرة المستخدمة فى الجيش بسيطة للغاية سهل فكها من قبل الإسرائيليين، لذا كانت التعليمات بضرورة تغيير الشفرة وكان الاقتراح من أحمد أدريس أحد أفراد سلاح الحدود بإستخدام اللغة النوبية كشفرة يصعب اكتشافها ، فهى لهجة للحديث لكنها لا تُكتب ولا تُقرأ، وتم الاتفاق على استخدامها كشفرة، وتولت المجموعة النوبية من سلاح الحدود مسئولية الأجهزة الأساسية للجيش وترجمة الإشارة الى اللغة النوبية ، فكان الدور الأساسى للإشارة تحويل المكالمات من العربية الى النوبية، وحولناها باللغة النوبية مما جعل الإسرائيليين يقولون عنها أنها لغة الشيطان وهذا لعب دور مهم فى تأمين الاتصال لأن إشارتنا كانت بسيطة من السهل التعارف عليها واكتشافها من قبل العدو ، فكان هذا الاقتراح مفيد جدا جعل العدو الاسرائيلى لا يستطيع أن يلتقط أي إشارات أو رسائل لقادة الجيش المصري.
فى وصفه لحظة الحرب .. يقول: كنا شمال مطار فايد بثلاثة كيلو الساعة الثانية وخمسة دقائق كان الطيران المصري يحلق فى السماء فوقنا، كان المشهد رهيب لا يمكن وصفه حيث تعالت التهليلات والتكبيرات، فالكل على اشتياق أننا نعبر القناة وكنا ننتظر هذه الساعة لاسترداد هذا الجزء الغالى من أرضنا، لن تهتز ثقتنا لحظة واحدة فالجيش المصرى بجنوده معروف أنه أفضل جيوش العالم، فهو أولا ليس جيش مرتزقة إنما جيش ولاد البلد ، ثانيا أن الجيش يحارب عن عقيدة ليس جيش احتلال، لذا بعض الثقافات تقول عن مصر أن اسمها رهب أى ترهب وترجع العدو ثم تعود مكانها فهى محط أنظار الكل ..
وعن تطوير الهجوم للعمق .. قال: كفرقة 21 لن نعبر فى أول موجة من الحرب بل عبرنا فى الموجة الثانية، عندما قال الرئيس السادات” علينا تطوير الهجوم للعمق” هذا يعنى أن الجيش يشن هجوم على قوات الجيش الإسرائيلى ويكبده خسائر فادحة، و كان لابد أن تقوم بهذه المهمة الفرقة 21 باعتبارها من الفرق الكبيرة التى تحوى تخصصات كثيرة جدا، وبالفعل تحركت الفرقة الى العمق بعد خمسة أيام من بداية الحرب، وفعلا دخلنا وكبدنا العدو خسائر كبيرة، وكان دورنا كأفراد إشارة تأمين توصيل التعليمات من القيادة الى الوحدات الصغيرة ..
عن إصابته حدثنا: أصيبت فى 21 أكتوبر يوم وقف إطلاق النار ، ففى هذا اليوم من المفترض على الطرفين المصرى والاسرائيلى عدم إطلاق رصاصة واحدة، لكن الطرف الاسرائيلى لم يحترم أو يلتزم بأية مواعيد أو عهود، ففى هذا اليوم فوجئنا بوابل من القذائف كالمطر من العدو الاسرائيلى ، كانت قوة الانفجارات شديدة للغاية جعلت ملابسى تتمزق ، كانت الشظايا ترتفع الى فوق بطول النخلة لتدميرها، كان الرمل يتناثر كالنار وانغمس فى جسمى لدرجة أنه مازال موجود الى الآن ، الدماء تسيل من جميع أجزاء جسمي، فضلا عن حروق متفرقة فى جسمى كله ، أثار هذه الإصابة مازالت إلى الآن حيث اعانى من ثقوب فى أذنى، وفى قصبة قدمى بلى من القنابل التى كانت تعرف باسم الجوافة بداخلها كمية هائلة من البلى حينما تنفجر تكون أشد شراسة،
كان معى اثنان من زملائى أحدهم زميلى من سلاح الإشارة، مات وهو فى وضع السجود وكأنه يصلي، والثانى من سلاح المدفعية مات فى الحال ملقى على ظهره وعيناه مغربة ، أذكر أيضا كان معنا قائد المندال الضابط أنطوان وهو قمة الوطنية فقد تطوع فى الجيش المصرى وترك وظيفته كمدرس لغة انجليزية فى السودان ، وكان يحمل الجنسية السودانية، بمجرد علمه بالحرب تطوع كضابط احتياط، هذا الرجل أصيب بشاذيا قطعت قدمه من عند الفخد، ومات على الفور.. المشهد أمامى كله ..
وذكرت الإذاعة الإسرائيلية أننى من ضمن الاسرى وهذا عكس الحقيقة ، كنت فى الجيش حتى يوم إصابتى …
ومن المفارقات الغريبة أنني نزلت فى حفرة غويطة وقت الإصابة ، ومر على عسكرى إسرائيلى بالرشاش ولم يتمكن من رؤيتى فى الحفرة ، كنت ازحف على ركبتى طيلة الليل الاصابة شديدة و المسافة كبيرة حتى وصلت لمنطقة أسلاك شائكة تتبع قواتنا ، أخدتنا سيارة للمعابر ونحن فى طريقنا مررت على القيادة و كان رئيس العمليات وقائد الكتيبة مقدم من الإسكندرية اسمه محمد سيد رجب نظر الى وقال لى : “انت نبيل” قلت نعم فقال لى ” ألف سلامة عليك يا بطل روح اتعالج وأخواتك هيأخدو حقك” شعرت وقتها بيد طبطبت على، وفعلا اخواتى اخدوا حقى وتحقق النصر …
كنا نحرص على العلاقات الإنسانية، كنا سويا نمارس الرياضة وكافة الأنشطة داخل الجيش، كنا نحرص على الصيام طوال شهر رمضان الكريم مسلم ومسيحى، وهكذا تعودت حتى فى عملى مع بداية شهر رمضان براد الشاي وسبرتاية القهوة اخدهم على البيت، كانت مشاعر طيبة تجمعنا وخلال فترة الأجازات كنا نتشارك الأفراح والأحزان، اعتدنا عمل تكريم للدفعة التى أنهت خدمتها بالجيش كلافتة طيبة، فنجمع مال من كل واحد على قدر استطاعته ونشترى هدية رمزية، اتذكر يوم تكريمي بعد إنهاء خدمتي بالجيش قدم لى زملائى هدية إنجيل فى علبة قطيفة ولا فرق بين مسلم ومسيحي، كنت أتمنى أن أتواصل مع من كانوا فى وحدتى العسكرية ولكن لا أعرف أماكنهم فهم من مختلف محافظات مصر ..