عندما أمسكت بالقلم لأكتب هذه الكلمات تنازعتنى الأفكار والأحداث والمواقف التى جمعتنى بالزميلة القديرة والصديقة الغالية جورجيت صادق التى عبرت الى العالم الآخر منذ أيام تاركة إرثا من المهنية العالية والانسانية التى نلمس بصمتها عن قرب لدى كل من عرفها.
ويأتى تميز جورجيت فى بلاط صاحبة الجلالة – ليس لكونها تخصصت فى دراستها الإعلام فحسب – بل لأنها تمرست منذ البدايات على جميع ألوان العمل الصحفى،حيث نتخلى نحن المحررون عن العمل فى المكاتب للإلتحام بقضايا المجتمع على تعددها وأهميتها بداية من كتابة الخبر الذى يحتاج إلى الصدق والحنكة مرورا بالتحقيق الصحفى وعرض وجهات النظر المختلفة ، إضافة إلى تميزها فى فن الحوار الصحفى ، وفى كل هذه الكتابات نجد الصحفية الحقيقية التى تمتلك ناصية اللغة ويحسب لها التدقيق فى المعلومة والاجتهاد فى اختيار العناوين التى تنم عن الموضوعية ، وهى أيضا الصحفية التى تقف على بعد واحد من كل المصادر وتضع القارئ نصب عينيها فهو الهدف الحقيقى والأهم من العملية الإعلامية ..
ومنذ تخرجها من كلية الإعلام – جامعة القاهرة – عام 1985 وحتى الأمس القريب انغمست الصحفية جورجيت صادق فى العمل الصحفى ،حيث عملت مع الرعيل الأول فى جريدتنا الحبيبة وطنى فتتلمذت على يد الراحل الكبير الأستاذ أنطون سيدهم مؤسس وطنى ، والأساتذة الراحلين : الدكتور سامى عزيز وصبحى شكرى وفريد عبد السيد وصفوت عبد الحليم وغيرهم ، كتبت فى باب ” العالم والعلم ” برفقة المترجم والكاتب العلمى الكبير ” ميشيل تكلا ” أيضا مع الأستاذ نبيل عدلى وباب ” طب وعلاج ” مع الاستاذ احمد حياتى – أمد الله فى حياتهما ، وتناولت فى باب “اهتمامات مصرية ” قضايا وموضوعات الشارع المصرى وفى مقدمتها ملف وزارة الصحة ومنظمة الصحة العالمية ( أفردت مساحة خاصة لتداعيات فيروس كورونا المستجد ) و الصحة النفسيه للمراهقين ، كما قامت بجولات متعددة فى معارض المنتجات المصرية المختلفة ، وجولات أخرى متعددة فى متاحفنا القومية وأهم الحدائق في مصر، وتغطية معرض الزهور الذى يقام فى حديقة الأورمان بالجيزة فى مارس كل عام ، وتابعت لقاء مثلث الرحمات قداسة البابا شنودة الثالث فى معرض القاهرة الدولى للكتاب لعدة سنوات .. وهنا لابد أن أذكر موقفا خاصا عندما قدمتنى فى المعرض للزملاء الآخرين من المؤسسات الصحفية الأخرى على أننى زميلة واعدة ( علما بأننى كنت فى بداية حياتى المهنية منذ مايزيد عن ثلاثين عاما )
جانب آخر متميز فى المسيرة المهنية لجورجيت صادق – ألا وهو العمل الصحفى الالكترونى الذى غدا مسيطرا بدرجة كبيرة على مستوى الانقرائية وذلك بالمقارنة بالصحافة المكتوبة ، ذلك أنها استجابت لهذا التقدم التكنولوجى سواء فى اجتياز الدورات التدريبية منذ البدايات ،أوالانهماك فى الصحافة الالكترونية منذ تأسيس بوابة وطنى الالكترونية ، علما بأنها ظلت أيضا تلتزم بحضور الفعاليات الصحفية المختلفة ( الندوات ، المؤتمرات ، المعارض ، لتغطية الوقائع والأحداث على أرض الواقع )، دون أن تكتفى بهذه التغطيات المرسلة من المصادر المتنوعة الى الصحفيين عبر الشبكة العنكبوتية ” الانترنيت ”
وجورجيت صادق – التى لم يقدر لها أن تكون أما بحسب الجسد – نجدها تحتضن أجيالا مختلفة من الصحفيين ممن صاروا اليوم من الزملاء الواعدين ، فهى لم تبخل على أحد بالمعلومات أو الخبرة الصحفية .. أيضا تتمتع بين الزملاء فى الوسط الصحفى العام بسيرة طيبة واسم صحفى جدير بالاحترام ..
أما على الصعيد الانسانى ..فهاهى جورجيت الانسانة البسيطة الحنونة صاحبة الوجه المتفائل والنفس الراضية ،وتملك من كرم الأخلاق واليد الكثير ، فما من زميلة أو زميل الا وقدمت له جورجيت هدية فى المناسبات وغير المناسبات ، وعملا بوصية الكتاب المقدس “فَرَحًا مَعَ الْفَرِحِينَ وَبُكَاءً مَعَ الْبَاكِينَ.” (رو 12: 15). نجدها تقوم بالمشاركة فى الأحداث المبهجة والمحزنة على السواء ..
من هذه المشاركات ماحدث مع كاتبة هذه السطور عندما دعمتنى أسرة وطنى من الصغير الى الكبير فى رحيل أبى وأمى ، وقد حضرت الراحلة الجميلة جورجيت الى منزلى برفقة مجموعة من الزميلات والصديقات ( نادية برسوم ومارسيل نصر وسلوى ستيفن ، وكانت الزميلة سلوى رفعت قد سبقتهم ) لتعزيتى وهى تحمل الهدايا ووقفنا جميعا فى صلاة حارة – حقا موقف لن ينسى ..
ومما يزيد من قيمة هذه المشاعر والمشاركات الايجابية أنها كانت تنبع من ذات طالما تألمت وعانت تجارب قاسية كان آخرها وأشدها الصراع مع مرض السرطان لعدة سنوات .. لازلت أذكر قلبها المطمئن وروحها الفرحة عندما قمنا بزيارتها بالمنزل وهى تتجرع تجربة المرض الرهيب الذى يؤدى حتما الى الموت الجسدى عاجلا أو آجلا .. ولم أكن أعلم أنه لقاء الوداع ..
لقد ظلت تعمل حتى النفس الأخير ، حيث نشرت فى بوابة وطنى الالكترونية خبرا صباح السادس من أكتوبر يتعلق بآخرتطورات فيروس كورونا المستجد .. وفى المساء جاء المضى للحياة الأبدية ..
الإيمان ..الرجاء .المحبة ..هكذا جاءت رحلة الحبيبة جورجيت على أرض الشقاء ..فهى لم تتذمر أو تشكو أو تتكلم رديا عن أحد ..لقد صدقت المواعيد الالهية حتى اذا ماتعاظمت الآلام الجسدية جدا ضمتها الأحضان الأبوية واسترد الرب وديعته الغالية ..
جورجيت .. أعتقد كيف تشعرين بنا بعد ان خلعت ثوب الجسد واحتضنتك يدا الآب ، أراك هادئة مبتهجة تصلين لكل منا أن يعطينا الله سلاما وتعزية فى انتقالك عنا ، ولدينا رجاء فى كلمات الوحى الالهى : وَسَيَمْسَحُ اللهُ كُلَّ دَمْعَةٍ مِنْ عُيُونِهِمْ، وَالْمَوْتُ لاَ يَكُونُ فِي مَا بَعْدُ، وَلاَ يَكُونُ حُزْنٌ وَلاَ صُرَاخٌ وَلاَ وَجَعٌ فِي مَا بَعْدُ، لأَنَّ الأُمُورَ الأُولَى قَدْ مَضَتْ». رؤيا 21: 4
وحتى نلتقى حبيبتى أذكرينا أمام عرش النعمة ، أما نحن فإنك دائما ملء القلب والعين وإن عدنا لن نراك بالجسد..