الأنبا بطرس الذي رقد، وودعته الكنيسة ظهر اليوم، لم يمت لأن الراهب الحقيقي لا يموت مرتين، فما دام راهبًا حقًا فقد مات ليقوم.
عرفتك “زكريا ناشد” منذ أن كنت تتردد على دير مارمينا العجائبي بمريوط، تأتي للتلمذة لأبونا مينا وتنتظره في المضيفة التي كنا نسميها بـ” العيادة الروحية” المقابلة لقلاية أبونا مينا، بجوار كنيسة الأنبا صموئيل المعترف.
وبحكم قربي لأبينا مينا، نلت الحظ في لقائه معك “أخ زكريا”، أنك مزمع في القريب العاجل الإتيان إلى الدير والانضمام لمجمع الرهبان، بعد أن عملت كمدرس لعلوم الفيزياء والكيمياء في مدرسة سان مارك بالإسكندرية . رأيتك ملائكي القلب والصورة بحق، وديعًا هادئًا محبًا مبتسمًا ساكنًا، مسكينًا بالروح صامتًا صوامًا، باكيًا خفيض الصوت وهين المشية، عشت طقس التائبين ودعوة الرهبنة قبل أن تأتي إلى برية مريوط.
وقد تدربت على أسرار الطريق وخبرت علو مقداره وخبرة أسراره، حتى أخذت التصريح بالالتحاق بالدير يوم ١٠ سبتمبر ١٩٧٧ لتعيش غربة البرية قريبا من مواضع كواكب ساكني جبال الله المقدسة، في رحاب مارمينا الأمين والقديس البابا كيرلس. تتطهر بزوفا الروح القدس وتلبس لباس لائق بالعرس .
هنا أتذكر الأيام التي سبقت طقس رهبنتك في ٢٤ يونيو ١٩٧٨، حيث كنت أقضي أوقاتا طويلة في أجازة الصيف بالدير بمعية وعند أقدام أبونا مينا أبا مينا منذ أن كان وكيلًا لبطريركية الإسكندرية، في الأيام السابقة لأسبوع الرسامة، كان أبونا مينا يستعد بالصلوات والاختلاء الطويل، وينقب على أسماء في كتب البيعة وينتقي منها، ليضع الأسماء ومعهم ستة من منطقة “أحزمة”، وقلنسوات الرهبان المعدين للسيامة الرهبانية، حيث صندوق انبوبة رفات مارمينا العجائبي صاحب الدير ، والتي كانت آنذاك موضوعة في كنيسة انبا صموئيل المعترف، حيث كنت أبيت في المضيفة الملاصقة لها، في ذلك المكان الذي كنا نسميه “بحري أو الجناح”.
وفي إحدى الليالي أتى أبونا القديس المتنيح الأنبا مكسيموس مطران القليوبية ومركز قديسنا (ملاك اتريب)، وهنا تأكدت التوقعات أن سيامة رهبانية ستتم في غضون أيام قليلة لسبب حضور مطران الرسامات في ظل هكذا أجواء.
وفي ليلة ٢٤ يونيو كانت رهبانية دفعة الستة رهبان ” الأستاذ زكريا أبونا بطرس، الأستاذ فخري أبونا نوفير، الأستاذ اميل أبونا أرشيليدس – الأنبا ديمتريوس، م. فكري الراهب الاسكيمي أبونا زوسبما، الأستاذ وليم أبونا أرسانيوس، الأستاذ عبدالمسيح أبونا مكسيموس”.
وبعد الصلوات والقداس صارت الأفراح ووزعنا شربات (قها) عند باب كنيسة العذراء الرئيسية في الدير، ذلك المشروب الذي صنعته بيدي ومعي أخي المحبوب وصديق الزمن الجميل “عادل رزق – المتنيح القمص أثناسيوس أبا مينا نيح الله نفسه”، فقد كانت سيامات الرهبان مناسبة لها خصوصيتها، حسب تقليد أول أسقف ورئيس للدير .
منذ اليوم الأول لرسامتك أبونا بطرس لبست أسلحة الحرب الروحية بإرادتك، ولم ترجع إلى الوراء وبقيت ولم تغادر موضع جهادك الرهباني لأكثر من ٣٠ سنة حتى يوم اختيارك لنعمة الأسقفية في ٧ يونيو ٢٠٠٩ .
أوكل إليك أبونا مينا مسؤولية تدبير بيت الخلوة كعنوان لعتبات الدير ، وأنت المعروف بنسكك ودلائل حبك وصومك وصمتك دليلًا للطريق. ساعيًا إلى التطهير بزوفا الروح القدس، وإعداد ثياب تليق بالعرس وبالسلوك في دعوتك المقدسة التي اخترتها وافتخرت بطقسها، ساهرًا مستعدًا وامامك الكنوز مفتوحة بلا ندامة .
صرت مرشدًا وحضنًا وحصنًا للشباب بمحبتك وقدوتك وأيقونة حياتك العملية، التي عشتها كحقيقة وواقع، فلم تكن تتفوه إلا بما عشته وعملته حسب عادة الآباء المفروزين للعبادة الحقة وللجهاد القانوني .
رأى فيك الشباب أن الحياة مع الله ليست صعبة ولا مستصعبة، عندما وجدوا عمق المسرة والفطنة الروحية منظورة بك قصرًا للحكمة ومسكنًا للفهم وخزينة للفضيلة، حيث تتلمذ عليك الآلاف من الشباب. وبقيت معلمًا للشباب وللرهبان الجدد، بتدريس الحياة الروحية، في أقوال وأعمال، غيورًا على التعليم الإلهي العملي، لم تفارق قلايتك ولا ديرك العامر، لتنسج ثيابك وتبيضها بالألوان والخيوط البعيدة عن الضوضاء وأباطيل صخب العالم حتى يوم رسامتك الأسقفية. وهو أيضًا ما اتبعته عند رعايتك لإيبارشية شبين القناطر، سالكًا نفس مسلكك بحيث ادخرت جهدك لخدمة شعبك من دون أن تتنقل في خدمات خارجها إلى يوم نياحتك .
إننا لم نسمع فقط عن القديسين، بل رأيناهم فيك أيها الشيخ الروحاني، يا من لم ترخ عينك من النظر لحلاوة العشرة والعشق الإلهي، تمسك بهدب ثوبه من غير اصطناعية ولا افتعال، لذلك يد الله كانت معك، وأذابت من نفسك جبال الهموم وجعلت المعوجات مستقيمة، وصنع بك الله قيامات النفوس، وستبقى سيرتك النيرة تعزي النفوس السائرة على الدرب الملوكي والسري، وها الزمان قد مال وبلغ نهايته، فاذكرني وسلم على الأحباء هناك، وسنبقى على تواصل، بالرغم من عدم الاستحقاق حتى لسرد قبس من حياتك، لأنك غني عن الذكرى لكنني أعلم أنك ستكمل ما قد بدأت.
والمجد للابن القدوس البكر الذي ضمك اليوم إلى كنيسة أبكاره العليا .