تنشر “وطنى” فى هذا العدد فى باب “الأسرة والمجتمع” مادة بعنوان “الكنيسة الأرثوذكسية تطلق ثلاث وثائق لحماية المرأة من العنف”… والمادة تعد مبادرة رائدة من الكنيسة نحو التفاعل مع مشاكل المجتمع المصرى مما يؤكد على الدور الوطنى الواعى الذى تقوم به والذى يتجاوز دورها كمؤسسة روحية ترعى الأقباط إلى إدراكها لهموم المجتمع وإسهامها فى التصدى لها وعلاجها.
وكما يتضح من المادة فإن الوثائق الثلاث التى أطلقتها الكنيسة تعنى بقضايا “حماية المرأة من العنف” و”حماية البنت من الختان” و”تنظيم الأسرة” وهى قضايا محورية ارتقت إلى مواقع الصدارة فى الخطط القومية للدولة، ولا غرابة إزاء ذلك أن تحظى مبادرة الكنيسة بمشاركة كل من المجلس القومى للمرأة، والمجلس القومى للأمومة والطفولة، ووفد الاتحاد الأوروبى فى مصر، وممثل صندوق الأمم المتحدة للسكان.
أترك للمادة المنشورة أن تستفيض فى تغطية مبادرة الكنيسة فى القضايا الثلاث المثارة… لكنى أظل مشغولاً ومهموماً بجذور المشكلة، وهى مشكلة البنت والفتاة والمرأة فى مجتمعنا وأوجه معاناتها منذ المهد إلى اللحد… معاناة سببها الوحيد أن الله أراد لها أن تكون أنثى وذلك يعنى أن ترث ميراثاً بغيضاً من شتى أوجه عدم المساواة بينها وبين الذكر تدفع بها إلى الصف الثانى دائماً وتحكم عليها بالتبعية دائماً وتغتال حقوقها المشروعة دائماً… وأصارحكم القول بالحقيقة الصادمة التى لا أحاول من خلالها تبرئة الذكور مما يحيق بالإناث: إن المتهم الرئيسى فى كل الغبن والجور الذى تعانى منه المرأة هو المرأة نفسها… ولا تصرخوا احتجاجاً، فالمرأة عندما تلبس ثوب الأم وتضطلع بدور التربية والتنشئة والتهذيب داخل الأسرة تتحمل مسئولية جسيمة فى أسلوب ونتاج تلك التربية وتغرس الجذور والأصول والقواعد التى ينشأ عليها كل من الذكر والأنثى ويحملانها معهما إلى المجتمع… وهنا يكون الضرر قد حاق فعلاً ولا تستطيع المدرسة أو الجامعة أو الكنيسة أو المسجد أو حتى القانون أن يمحو أثره… وإليكم بعض الصور الكارثية لهذا الواقع المؤلم الذى يتصف بعدم المساواة ويصرخ من أجل المساواة المطلقة المعاشة:
❊❊ المساواة فى التربية: الأم مسئولة عن غرس التفرقة بين الولد والبنت بدءًا بتفضيل الولد على البنت عياناً جهاراً فى الأسرة بحيث يرى ذلك كل من الولد والبنت فينشأ الولد على التميز وتنشأ البنت على الخنوع… ثم تتمادى الأم فى إطلاق حرية حركة الولد فى مقابل تحديد حرية حركة البنت… ثم تنحدر إلى مطالبة البنت بخدمة الولد والقيام بجميع الأعباء المنزلية الخاصة به بينما هو معفى من ذلك… والمصيبة أنه إذا كان هذا العبث التربوى يصلح أو يلتمس له العذر منذ أكثر من قرن من الزمان حين لم تكن البنت تتعلم ولا تعمل فكانت مملكتها داخل البيت بينما مملكة الولد خارجه، ماذا نقول الآن فى تلك السقطة من عدم المساواة فى زمن يطلب المجتمع ويحتاج أن تتعلم البنت وأن تعمل، بل يطلب الولد نفسه ذلك من البنت التى يقترن بها لتعاونه فى تحمل أعباء ومسئوليات الأسرة… وسأظل أنا فخوراً كلما تطرقت إلى هذه القضية بأن أسجل أننى نشأت فى أسرة لم تكن الأم فيها عاملة بل كانت متفرغة لمهام المنزل ومع ذلك كان المبدأ الدائم الذى تربينا عليه أنا الولد الوحيد وإخوتى البنات الثلاث أنه “لا فرق بين الولد والبنت”… مبدأ انسحب على أى شىء وعلى كل شىء… مبدأ فرضته أمى وباركه أبى… أتعرفون كيف باركه أبى؟… باركه بالنموذج المعاش الذى رسخه بمشاركته أمى فى جميع الأعباء المنزلية ومسئوليات الأولاد… فعل ذلك بكل روح طيبة وكان دائم الترديد: هذا ما تعلمناه فى “الكشافة” التى غرست فينا المعانى الحقيقية للرجولة.
❊❊ المساواة فى الإعداد للزواج: الأم مسئولة عن جريمة غرس مفاهيم كارثية فى ابنتها قبل الزواج وعلى مرأى ومسمع من ابنها… بدءًا من أن الزوجة الناجحة تكون خادمة أمينة لزوجها ومطيعة لكل طلباته واحتياجاته، مروراً بأنه “راجل البيت” وكلمته مطاعة، وصولاً إلى أنها فى الأسرة تابعة لزوجها تشغل المرتبة الثانية دائماً وهو السيد… هذا علاوة على الجريمة المسكوت عنها فى عمق هذا المجتمع وهى عندما لا تعد الأم ابنتها لحقائق الزواج والمعاشرة الزوجية بدعوى أن هذا عيب وأن من دواعى فخرها أن يكتشف زوج ابنتها أن ابنتها “خام” (!!!) وكلنا يعرف الجريمة الرهيبة التى تنتج عن ذلك… والحمدلله أن كنيستنا أدركت هذا منذ سنوات ورتبت “كورسات” إعداد المقبلين على الزواج التى تشتمل على كل ما يتصل بالحياة الزوجية والأسرة وأذكر هنا كيف أن كل من يسمع بهذه “الكورسات” من إخوتنا المسلمين يبدى إعجابه الجم بها ويتمنى أن يوجد مثيل لها لإعداد وحماية الشاب والفتاة المسلمين المقبلين على الزواج حرصاً على صالح الأسرة وحماية لها من الانهيار.
❊❊ المساواة فى العمل: ماتزال الأم تربى ابنتها على أنه إذا حصلت على التعليم ونزلت إلى سوق العمل فذلك ترف يلزم أن تتخلى عنه إذا طلب منها زوجها ذلك.. فإذا كان بمقدوره أن يتكفل بجميع احتياجات أسرته من حقه أن يرغم زوجته على ترك العمل (!!!)… وليذهب حق هذه الابنة فى تحقيق ذاتها إلى الجحيم… وليخسر المجتمع من جراء ذلك قيمة كبيرة كانت مضافة إلى أرصدة العمل والتميز والابداع لمجرد إرضاء غرور رجل تم إفساده بتربية بائسة صورت له أن ذلك حق من حقوقه!!
❊❊ المساواة فى المواريث: لن أخوض فى عدم المساواة فى “الأحوال الشخصية” حتى لا أتهم بالخوض فى ثوابت الدين، لكنى لن أترك جريمة تنشئة البنت على أن حقها فى الميراث مقيد بوصاية أخيها الذكر عليها وأنه الأمين على نصيبها فى الميراث لئلا يستولى عليه أغراب (!!!) وتكون النتيجة المهانة والذل اللذين تتعرض لهما الفتاة والمرأة عندما لا تحصل على شىء أصلاً… “يعنى ولا حصلت حتى على نص نصيب الذكر”!!!
❊❊❊ هذه بعض -وأكرر بعض- صور العنف ضد البنت فى معقل أسرتها وبتواطؤ أمها التى تغرس وتروى تلك الثقافة البالية… إن المطلوب يتجاوز جداً مبادرات الكنيسة ويمتد إلى أسس التربية التى تنتج فى كل لحظة “جانى اسمه الولد و”ضحية” اسمها البنت… وأختم باستدعاء مقولة الدكتور سعد الدين إبراهيم عندما تعرض لحقوق المرأة فى مجتمعنا فقال: حتى إذا اجتمع كل الرجال واتفقوا جميعاً على إعطاء المرأة كل حقوقها فسيظل ذلك هو أبلغ إهانة للمرأة، لأنه ليس للرجل أن يمنع أو يمنح حقوق المرأة إنما حقوقها مكتسبة ومكفولة ومصانة باعتبارها نصف المجتمع ويجب أن يحميها المجتمع فى ذلك… حقاً هذه قضية حقوق المرأة ومعضلة العنف ضد المرأة فى صورته الأعم الأشمل.