الجوانية اسم أطلقه استاذنا الدكتور عثمان أمين من عامين علي فلسفة اهتدي إليها بعد إطالة النظر في أمور النفس ومتابعة التأمل في بطون الكتب مع مداومة التعرض لتجربة الوقائع, والمعاناة لشئون الناس..
وقد أصدرت دار القلم كتاب الجوانية في الآونة الأخيرة بقلم صاحبها ومؤسس دعائمها, وجاء الكتاب غاية في الوضوح الذي تميز به الأستاذ الدكتور عثمان أمين, والحقيقة أنني لا أعرف كاتبا أو فيلسوفا أو أستاذا أوضح عبارة, ولا أصرح قولا, مثل الدكتور عثمان أمين, وقد تعود الناس أن يقرأوا الفلسفة غامضة مبهمة مصاغة في عبارات معقدة غاية التعقيد, ومبثوثة في إشارات مبتورة, والعيب ليس في الفلسفة ولكن في أولئك الذين أرادوها غامضة لتغمض علي القارئ فيهلل ويكبر لهذا الفيلسوف الحق لأنه الفيلسوف الغامض فلم يفهمه وإن تظاهر بفهمه وليس عنده شيء يفهم, والفسلفة بريئة من هذا الفيلسوف ومن قارئه.. وعثمان أمين ليس من هؤلاء فإذا قدم فلسفة فهي واضحة لا ليس فيها ولا إبهام, لا تستعصي علي القارئ العادي فضلا عن القارئ المتمكن.
ويقدم الدكتور عثمان أمين فلسفته الجديدة ولا نقول مذهبه الجديد لأنه يأبي أن يحصر فكره أو تفكيره في قفص من ذهب حتي لو كان مذهبا فلسفيا يغري بوصفه بأنه من أصحاب المذاهب, نقول إن الدكتور عثمان أمين يقدم فلسفته الجوانية بأنها أصول عقيدة وفلسفة ثورة, فهي عقيدة وليست مذهبا مغلقا لأنه فكر مفتوح يأبي الركون إلي مذهب أو الوقوف عند واقع, ويتجه إلي المعني والقصد من وراء اللفظ والوضع, وتنحو إلي الفهم والتعاطف لا إلي الحفظ والتقرير وندعوا إلي العمل البناء مؤسسا علي النظر الواعي, وتلتفت إلي الإنسان في جوهره, وروحه, لا في مظهره وأعراضه, وتدرسه في حياته الداخلية لتنفذه إلي ما هو أصيل فيه.
وهي فلسفة ثورة لأنها نابعة من أعماق هذه الأمة الثائرة, لأنها محاولة أيديولوجية لتحقيق أمرين لابد منهما في مرحلة تطورنا التاريخي, الأول عودة إلي ماضينا ومراجعة له, والثاني اتجاه إلي مستقبلنا وإعداد له, وهي فلسفة ثورة أيضا لأنها تنشد المثل الأعلي في عليائه بلا مواناة في السعي إليه, ولأنها تؤمن بأن القوة المحركة للتاريخ هي قوة المبادئ وإرادة التغيير والطموح إلي تقويم للأشياء جديد.
وهذه الفلسفة ليست مستوردة من الخارج أي ليست برانية, وما أكثر ما نستورد من الخارج الأفكار والمذاهب, وإذا كنا قد قفلنا باب استيراد السلع من الخارج لأننا أصبحنا نصنع كل شيء, من الإبرة إلي الصاروخ, إلا أننا لا نزال نستورد الأفكار والمذاهب, وما نكاد نسمع عن مذهب جديد في الفلسفة أو الفن أو الأدب حتي يسارع منا من يسارع إلي اصطناع هذا المذهب عن فهم أو عن غير فهم…
وإذا كان الدكتور عثمان أمين يستمد أصول هذه الفلسفة من الأديان السماوية ومن طبيعة الأمة العربية ومن اللغة العربية نفسها لأنها لغة جوانية, فإنه ينفرد بصياغة هذه الفلسفة الصياغة الكاملة, ولم يقم عمله علي مجرد النقل والترديد. ويقول الدكتور عثمان أمين إني دعيت في مصباي لإلقاء خطبة في مناسبة من المناسبات, ولكنني أديت هذه المهمة بما يتفق مع طبيعتي, إذ قدمت وأخرت, وحذفت وأضفت إلي الخطبة المكتوبة أشياء كثيرة من عندي, ومن ذلك اليوم وأنا أشعر بأني لا أستطيع أن أكون مجرد ناقل أو مردد لآراء غيري, ولعل هذه أول تجربة لي في طريق الجوانية جعلتني أحرص دائما علي أن يكون اعتمادي علي الفهم فوق اعتمادي علي الحفظ وأن يكون لي موقف مستقل بإزاء الناس وبإزاء الاشياء..
فما هي الجوانية؟
الجوانية فلسفة تحاول أن تري الأشخاص والأشياء رؤية روحية, بمعني أن تنظر إلي المخبر ولا تقف عند المظهر , وأن تلتمس الباطن دون أن نقنع بالظاهر وأن نبحث عن الداخل بعد ملاحظة الخارج, وأن تلتفت دائما إلي المعني وإلي الكيف وإلي القيمة وإلي الماهية وإلي الروح من وراء اللفظ والكم والمشاهدة والعرض والعيان.
إن الحقيقة تجب أن تلتمس دائما وراء المظهر الخارجي وهذا الما وراء هو الذي تعنيه الجوانية, فهذه الفلسفة تقدم الذات علي الموضوع, والفكر علي الوجود والإنسان علي الأشياء, الروية علي المعانية, والتمييز بين الداخل والخارج, وبين الكيف والكم, وبين بصر العقل وبصر العين… والجوانية فلسفة تستند علي تزكية الوعي الإنساني, وممارسة الحرية النفسية, والسعي إلي تعميق فهمنا للمقاصد والمعاني والقيم, وإلي هذا المعني أشار مين دوبيران إذ قال: فرق بين أن نعرف الحقيقة بأذهاننا وبين أن نجعلها حاضرة علي الدوام في نفوسنا.
والجوانية فلسفة شاملة, فلسفة معرفة, وميتافيزيقا وفلسفة مجتمع وفلسفة أخلاق فالمعرفة عندها نوع من الكشف الباطني أو الوعي الداخلي وهذا الوعي علي أنحاء فيكون وعيا عقليا أو دينيا أو أخلاقيا.., وميتافيزيقا الجوانية في ميتافيزيقا الرواية الواعية, معرفة المبادئ من الداخل, والفكر الميتافيزيقي في صميمه رؤية وتأمل في العلاقات بين الروح والوجود, ومجاوزة المظهر إلي ما وراءه.
والجوانية فلسفة مجتمع لأنها فلسفة وعي شامل مستنير يتبعه عمل بناء خلاق, وأعلام هذه الفلسفة وممثلوها هم صناع التاريخ الإنساني ومشيدو دعائم البطولة, ولا غرو أن يكون هذا شإنها, مادامت فلسفة تشييد القيم الروحية, والمثل العليا, وتري أن لا حياة لفرد ولا لجماعة دونها.
وهي فلسفة ثورية إصلاحية معا, أما الثورة فتريد القضاء علي الفساد الطافي الناشئ من إهدار القيم العالية التي عاشت عليها الإنسانية الواعية زمانا قبل أن تجيء حضارتنا المادية إلي الوجود, أما الإصلاح فيبغي مواجهة الأزمة التي يعاني منها الجيل الحاضر, ومنشؤها فقدان الروح, وضياع الإيمان, وغربة الإنسان.
أما إنها فلسفة أخلاقية فلأنها التماس المعني الجواني للأقوال والأفعال, وربط الأعمال الظاهرة بالبواعث الباطنة, واشتراط حضور القلب, وصدق النية, وتمام الإخلاص في العبادات والمعاملات.
وفي الكتاب فصول نفيسة تدور حول الجوانية في مجالاتها المختلفة, قدم لها المؤلف باقتباسات من يومياته التي تكشف عن جوانية مبكرة قبل أن تكتمل فلسفة ناضجة ومن هذه الفصول ذات الموضوعات الجادة: الجوانية في فلسفة اللغة العربية, والجوانية في الأخلاق الإسلامية, والجوانية ورسالة الأمة العربية, والدين هو البعد الجواني للإنسان, والمثالية الجوانية دعامة كل ثورة واعية, والجواني والبراني في اللغة العربية, والجوانية الأخلاقية عند الغزولي, والجوانية في أدب العقاد, ويختتم المؤلف كتابه القيم بفصل عن الجوانية في نظرة العقاد إلي تعاليم المسيح. وفي هذا الفصل يحلل المؤلف كتاب العقاد عن عبقرية المسيح, وما في تعاليم المسيح من جوانية صادقة, ويقول المؤلف: وينفذ العقاد إلي جوهر العقيدة المسيحية فيصفها بأنها عقيدة قوامها أن الإنسان خاسر إذا ملك العالم بأسره وفقد نفسه, وأن ملكوت السماء في الضمير وليس في القصور والعروش, وأن المرء بما يضمره ويفكر فيه, وليس بما يأكله وما يشربه, وما يلبسه, وما يقيمه من صروح المعابد والمحاريب, فقد كان بلاء الناس أنهم خربوا باطنهم, وعمروا ظاهرهم فجاءهم الرجاء الذي يصلح لذلك البلاء, بشارة لا تبالي أن يخرب ظاهر الدنيا كله إذا سلم للإنسان باطن الضمير فرسالة المسيح صريحة في نقض شريعة الأشكال والظواهر, وإقامة شريعة الحب, الحب الذي هو عطاء بغير حساب, أو شريعة الضمير الذي يقوم به في دخيلة الإنسان مخترقا حجب الزمان والمكان, وكل ما هنالك أن تصبح الفضيلة وحي نفس وحساب ضمير, ولا يصبح قصاراها وحي القانون وحساب الصكوك والشروط, وأساليب الروغان من السطور والحروف, فدعوة السيد المسيح دعوة جوانية في ماهيتها ولبابها, فقد كان همه الشاغل صلاح النفوس, ولن يتم هذا الإصلاح بتغيير الأشكال الخارجية, وإنما يتم بتغييرات البواعث النفسية.