لا تصافح أحد..لا تقبل أحد..أبتعد عن الناس .. أحرص أن يكون بينك وبين أصحابك مسافة آمنة..لا يصلح أن نذهب إلى جدتك كما أعتدنا في العطلة الأسبوعية.. لا يصلح أن نستقبل أحد في بيتنا الآن..قد يتسبب عدم إلتزامك بهذه التعليمات في قتل أحد المقربين إليك.
هذه الكلمات التي يرددها الكثير من الآباء والأمهات والمعلمين على مسامع الأطفال ليلاً نهاراً منذ حوالي عام، هل هي الحل الأمثل لحمايتهم وحماية ذويهم؟ ، أما قد ترسب هذه الأمور في نفوس الصغار أشياء لا يستطيع الزمن أن يمحوها مهما مر الوقت.
تحذيرات واجبة أم ترويع
في البداية روت مني مكرم، طبيبة صيدلانية، أنها منذ ظهور الفيروس، وهي تعيش حالة من الرعب والخوف على أطفالها، خصوصاً أن لديهم مرض مناعي، كما تخشى على والدها ووالدتها لأنهم من أصحاب الأمراض المزمنة، مما يدفعها طوال الوقت من تحذير أطفالها من انتقال العدوى لهم وبالتالي انتقالها لوالديها مما جعل الأطفال يخشون الاقتراب من أي أحد ويرفضون مصافحة أحد ولا يطالبون بالخروج من المنزل للتنزه كما كانوا يفعلون من قبل….مما جعلها تخشى عليهم من حدوث عقدة لهم .
كما أكد بيتر ماهر، مدرس لغة إنجليزية للمرحلة الابتدائية، أنه كان دائماً يشدد على تلاميذه بأخذ جميع الإجراءات الاحترازية من تباعد وعدم لمس الأسطح أو وجوههم وتعقيم يديهم بستمرار خصوصاً قبل الأكل والحرص على ارتداء الكمامة طوال تواجدهم في الفصل، ولكنه كان يشعر بعدم مبالاة البعض منهم لعدم استيعابهم الموقف، بينما أشار إلى أن الرعب كان يبدوا على الآخرين لخوفهم على أنفسهم وعلى ذويهم من الفيروس الذي يسمعون أنه يودى بحياة الآلاف كل يوم حول العالم .
النفس تتألم والجسد يعبر
تحدثنا مع الدكتور أمجد خيرى كامل، استشاري الطب النفسي وأستاذ العلوم السلوكية بالجامعة الأمريكية، حيث أشار أنه من المتوقع أن يحدث للناس نوع من القلق والتوتر والخوف من المرض عموماً، فهناك مرض مشهور في الطب النفسي يدعى التوهم المرضي Hypochondriasis، مضيفا أن القلق عند الأطفال قد يظهر في صورة اضطراب سلوكي مثل العصبية أو العدوانية ضد الآخرين أو التبول اللا إرادي أو حدوث مغص في البطن أو غصه في الحلق أو صعوبة في البلع، موضحا أن القلق عادة يظهر في شكل أعراض جسمانية، بما يعرف في الطب النفسي بالأعراض النفسجسمانية Psychosomatic Disorder أي أن النفس تتألم والجسد يعبر.
رغبة في الانعزال
شبه ” خيري” ما يشعر به الأطفال في هذه الفترة بسبب “كورونا” بما شعر به الأطفال خلال ثورة يناير ٢٠١١، عندما كان هناك حالات خطف وسرقة بالإكراه بسبب الإنفلات الأمني، حيث كانت الأسر دائما تخيف أولادها من الناس المحيطة بهم، ومع تكرار تحذير الأطفال بهذه الطريقة، أصاب بعض الأطفال نوع من الشك في نوايا الآخرين عموماً، وهذا ما جعل نسبة من الأطفال والمراهقين عندما كبروا أصبح لديهم خوف من التعامل حتى مع زملاء الدراسة و الجيران، ففي البداية كان خوف من الغرباء وتتطور إلى الخوف من الجميع والرغبة في الانعزال داخل الأسرة حيث الأمن والأمان.
عالم طفولي وإدراك محدود
وعلى الجانب الآخر ترى الدكتورة سامية قدري، أستاذ علم الاجتماع جامعة عين شمس، أن الأطفال الصغار ليس لديهم الوعي الكامل بما يحدث فهم لهم عالمهم الخاص وليس لديهم تصور بطبيعة الفيروس لأن إدراكهم لم ينمو بعد، سواء إدراكهم النفسي أو العقلي، فلا تعتقد “قدري” أن هذه المرحلة العمرية تستطيع أن تنتقل لها الأفكار السوداء، التي يشعر بها البعض مثل اعتقاد البعض أن ما يحدث قد يكون نهاية العالم، لأنهم يعيشون في عالمهم الطفولي دون حساب لأي شئ مثلما يفعل الكبار، فدائماً الكبار هم المتوجسين الخائفين.
ولا تعتقد “قدري”، أن الأطفال ما بعد الكورونا سيصبحون أكثر ميلا للعزلة، بل على العكس تمام، لأن الأطفال بطبيعة تكوينهم أكثر قدرة على الإختلاط مع الناس والجري واللعب، فالأهالي هم الذين يجبرون أطفالهم على العزلة خوفا من نقل العدوى .
عقدة ذنب
وعن الآباء الذين يشعرون أطفالهم بشكل دائم أنهم من الممكن أن يكونوا سبب نقل الفيروس للكبار مثل الجد والجدة مما قد يتسبب في موتهم، أكدت “قدري” أن هذا ضرب من ضروب قلة النضج، حيث قد يؤدي ذلك إلى حدوث عقدة ذنب لدى الصغار، مؤكدة أن الأمر يحتاج إلى طريقة إيجابية في نقل المعلومة، مشددة على ضرورة توعية الأطفال بطريقة متزنة هادئة بدون تسريب مشاعر الرعب والخوف حتى لا يتسبب الأمر في حدوث فوبيا لهم، فهناك فرق بين تنمية الوعي الذي يقوم به الآباء والأمهات ذوي المستوى المرتفع من الوعي، وبين الترهيب الذي يحدث من قبل بعض الأهالي لصغارهم، خصوصاً أن الأطفال ليس لديهم تصور حول طبيعة الفيروس. مؤكدة على ضرورة أن يكون الأهالي أكثر حرصاً ودقة عند نقل المعلومة، فعليهم شرح الأمر لهم ببساطة وأن الفيروس لا يرى بالعين المجردة لذلك يجب إتباع بعض الاحتياطات .
أعراض خطيرة
من جانبها تؤكد الدكتورة فيفيان مجدي، أخصائية سلوكيات الأطفال والإرشاد الأسري والتربوي، أن تفشي فيروس كورونا بالطبع شكل ضغوطات كثيرة على كافة المستويات ولكنه أثر بكل قوة وقسوة على نفسية الأطفال بشكل خاص، حيث سيطرت مشاعر القلق والخوف الذي تحول إلى هلع لدى أكثر من ٩٠ % من الأطفال، وذلك بسبب كثرة التحذيرات والإجراءات التي يتحدث عنها الكثير من الآباء والأمهات والمعلمين أمام الأطفال، ظناً منهم أن ذلك يحميهم، ولكن في حقيقة الأمر ذلك يدمرهم نفسياً. لأن الطفل مستقبل جيد بمجرد التحذير من أي شيء مرة واحدة يستوعب، ولكن للأسف أعتاد الكثير من الأهالي والمعلمين التكرار، ظناً منهم أن في ذلك حماية للطفل.
وأضافت “مجدي” أن هذا القلق أدى إلى ظهور أعراض أعمق وأخطر لدى الأطفال مثل؛ نقص “الانتباه” بسبب توقف الحياة الطبيعية المعتاد عليها، وبعض التغيرات السلوكية الواضحة مثل أن يصبح “عدواني” أو “عنيد” أو “عنيف” لدرجة “عدم الإستيعاب”، كما أصبح أغلب الأطفال كثيري العصبية على أقل الأسباب لدرجة أن الأهل أنفسهم يتعجبون من هذا التحول، ونوهت “مجدي” إلى كثرة شكوى الأهالي في الآونة الأخيرة من كثرة بكاء الأطفال وتعرضهم لما يسمى بـ هستيريا البكاء لأي سبب سواء كان واقعي أو غير واقعي، كما يعاني الكثير من الأطفال أيضاً من اضطرابات شديدة في النوم بسبب تغيير نمط الحياة المعتاد عليها، وكثرة الجدال، وانخفاض الرغبة في اللعب أو الحركة، كما يلجأ الكثير منهم للتكنولوجيا، مما يؤثر على خلايا المخ بالسلب الشديد، كما يؤدي القلق إلى قضم الأظافر والارتباط الزائد بالأهل.
الدعم النفسي
وعن الطريقة المثلى لدعم الأطفال نفسياً في ظل أزمة كورونا، قدمت “مجدي” بعض النصائح حتى نعبر بهم إلى بر الأمان، مؤكدة على ضرورة عدم النظر أسفل الأرجل والتحدث عن الحاضر فقط بل التحدث عن الحاضر والمستقبل القريب والبعيد. ووجهت “مجدي” حديثها لكل أب وأم حيث قالت لكلا منهما: “لا تبالغ أمام أبنائك مهما كان لديك من قلق، وحاول أن تزرع مشاعر الطمأنينة لدى أطفالك بقصص يصدقونها، ولا تهول الأمور أمامهم بل بالعكس ينبغي مهما كانت الأمور صعبة أن تجعلها صغيرة أمام أعينهم، مع الحرص على ممارسة الأنشطة المختلفة مثل الرسم والتلوين وألعاب تنمية المهارات وعدم استسهال التكنولوجيا.
كما أشارت “مجدي” أيضا إلى أهمية لعب الآباء والأمهات مع الأطفال وضرورة النزول لمستوى فكرهم وعقلهم، وأكدت على إمكانية استغلال هذه الفرصة في تعليم الأطفال ألحان وترانيم، موضحة الدور الفعال الذي يفعله خلق الجو المبهج في البيت للأبناء، وتركهم ينطلقوا دون إنزعاج من شقاوتهم أو طاقتهم لأنها خيراً لهم وفي مصلحتهم، ونوهت إلى عدم وجود مانع لممارسة الطفل الرياضة المفضلة له في المنزل إذا كان الطفل معتادا على ممارستها في النادي، وإذا كانت التدريبات قائمة في النادي لابد من رجوعه لها .
وعن تحية الناس والخوف منها قالت “مجدي”، يجب على الأب والأم أن يبادروا هم بتحية الناس والسلام عليهم بالطريقة الصحيحة كي يحاكي الطفل سلوكهم ويبدء في استعادة اطمئنانه، مما يزرع لديه عدم الخوف من الناس لأنهم يراقبون تصرفات الكبار في صمت ويعملوا محاكاة وتقليد لها، مؤكدة أنه مع الوقت عندما يرى كل طفل أن حياة والديه قد عادت طبيعية مع أخذ بعض الاحتياطات، ستعود لهم ثقتهم ثانية في كل شيء، وفي أنفسهم، وفي المجتمع، لأن الكبار هم من يخبرون الصغار عن أي شئ في العالم بشكل واقعي وعملي.
تواصل “عن بعد” بحساب
فيما يخص استخدام الأطفال وسائل التواصل التكنولوجية “مثل زووم” للاتصال بالناس، فضلت “مجدي” استخدامها في حدود لأن هناك بعض الأهالي يستسهلون ذلك ويجعلونه نظام حياة، خصوصاً أن هناك أطفال في كثير من المدارس يتلقون مناهجهم التعليمية “عن بعد”، مما يجعلهم يجلسون أمام الأجهزة لساعات طويلة يومياً، لذلك يجب ألا يستخدم الأطفال هذه الوسائل للتواصل مع الأصحاب أو الأقارب أكثر من مرة واحدة في اليوم لوقت ليس بطويل.