قبل أن يولد لي أبناء، كنت أظن أن غرس القيم فيهم، وتنشئتهم بسلوكيات منضبطة مسألة بسيطة! لم أدرك آنذاك أن مهارات التربية تحتاج لمعرفة تؤهلنا كوالدين غير مختبرين أن نخوض هذه التجربة الجديدة بأقل كم من الصراع، وبأكبر قدر من التمتع بعطية الأبناء. كنت أسمع عمتي تقول: ”قال متربي.. قال من عند ربي!“ ومع كل الاحترام لخبرة جيل عمتي في التربية، لم نجد زوجتي وأنا الأمور بمثل هذه السهولة.. ففي البداية واجهنا الكثير من التحديات، وقرأنا الكثير من الكتب، وتعلمنا من أخطائنا، ولم نتوقف يومًا عن الصلاة لطلب الحكمة من الله لنعرف كيف نربي بحسب وصاياه. وقد استغرق الأمر بعض الوقت قبل أن نحرز تدريجيًا بعض التقدم في أسلوب تربيتنا.
من قصص العهد القديم التي تحكي عن أبوين كانا في حاجة لأن يعرفا كيف يربيان بحسب تعليمات الله، ما حدث مع أم شمشون وأبيه مَنوح قبل أن يولد.. فقد كانت أمه عاقرًا، وفي أحد الأيام تراءى لها ملاك وأخبرها أنها ستلد ابنًا، وأعطاها تعليمات خاصة بسلوكها في فترة الحمل، ثم تركها. فلما أخبرت زوجها بما حدث شعر بالمسؤولية؛ فصلى إلى الله، وقال: «أتوسل إليك ربي أن يعود رجل الله الذي أرسلته إلينا كي يعلمنا مانعمل بالصبي المولود.» واستجيبت صلاته، وجاء ملاك الله ليقابله ومعه زوجته، فسأله: «إذا تحقق قولك، فكيف نتصرف في أمر الصبي؟ وماذا نعمل به؟» فأخبرهما ماذا يفعلان (سفر القضاة ١٣).
أحد تحديات التربية التي احتاجت منا تركيزًا خاصًا كانت كيف نعلم ابنينا احترام القواعد واتباع الوصايا، ليس في البيت فقط لكن في المدرسة، والكنيسة، والنادي، وحيثما يكون هناك ضرورة لاحترام سلطة أو نظام ما. كان جديدًا علينا معرفة حقيقة أن أبناءً يولدون من نفس الأم والأب ولكل منهم طبيعة شخصية مختلفة عن الآخر.. فيتوافق واحد بطاعة تلقائية مع القواعد والتعليمات، بينما يسلك آخر وكأن “القواعد موجودة لأجل أن تُكسر”!
تحدي أن نغرس في ابنينا عادة احترام السلطة واتباع النظام كان أحد أهم المهام في رحلة تربيتهما حتى كبرا وصارا بالغين. لكن هذه المهمة لم يكن لها أن تنجز بإلقاء المحاضرات، وفرض قوائم الممنوعات والمسموحات.. لقد اجتهدنا أن نتحلى بالصبر بينما كنا نوجههما ونشجعهما على الاستمرار في النمو نحو النضج، وتطوير شخصيتيهما بشكل يحترم السلطة ويتبع النظام. ومن بين الخبرات التربوية التي صنعت فرقًا في هذا الجانب من شخصيتيهما، وما اتفقنا عليه كأب وأم، وطورناه ليصبح جزءًا من سلوكنا الأبوي اليومي في التعامل معهما، هو ما أحب أن أشارك ببعض منه هنا.
اغمر حياة أبنائك بالحب بلا توقف.. هذا أكثر ما ينجح في التعامل مع طفل قوي الإرادة عندما يرفض الانصياع لكلام والديه. تؤكد الأبحاث أن الأطفال الذين يحاطون بجو أسري مفعم بالحب والدعم الأبوي أقل عرضة لتطوير سلوك أو مشاعر غير مرغوب فيها.. الحب يغير عقل وفكر الصغير والكبير. بدلاً من التعامل مع أبنائنا بردود أفعال تركز على السلوك الذي يفتقد للاحترام، فنهبط عليهم بالعقاب، لنعطِ أولوية لقضاء وقت معهم فيه نمارس أنشطة بسيطة مثل الاشتراك في لعبة، أو قراءة قصة، وغير ذلك من أنشطة تتيح فرصة الحديث معك، وتقربهم منك جسديًا وعاطفيًا.
اغرس أساسيات السلوك مبكرًا.. كثيرًا ما يتجاهل الآباء تقويم سلوك لا ينم عن الاحترام، خاصة عندما يصدر عن الأطفال الصغار؛ ظنًا بأنه لا يمكنهم التمييز بين الأمور، أو أنهم سيتعلمون الاحترام عندما يكبرون. الأطفال لا يطورون تلقائيًا فضيلة الاحترام مع تقدمهم في السن؛ لذلك لابد أن ندربهم بشكل مباشر على إتقان قواعد السلوك الأساسية، ونشجعهم باستمرار على التعامل مع الكبير بأدب، واستخدام الكلمات الذهبية: “من فضلك”، و”شكرًا”. تعزيز مثل هذه الأساسيات وغيرها يساعد الأبناء على فهم أن الشخص المهذب يرفع من قدر نفسه في نظر الآخرين، وفي نفس الوقت يخلق فيهم الدافع للالتزام باحترام الأشخاص، والنظام الخاص في البيت والعام في المجتمع.. «هذِّب الطفل في أول طريقه، فمتى كبر لا يتركه» (أمثال ٢٢: ٦).
لاحظ الفرق بين الميل الطبيعي للاستقلاليةوالتمرد.. الأطفال، خاصة بعد دخولهم للمدرسة، من الطبيعي أن يطوروا رغبة في صنع بعض الاختيارات لأنفسهم، بعكس ما كانوا يفعلون قبل ذلك. ونرى هذا في إصرارهم على اختيار ملابس معينة، أو تفضيلهم لأنشطة دون الأخرى، أو تمسكهم بعدم مشاركة الآخرين بما لديهم، وغيرها. لا يجب أن نفسر هذا التحول في السلوك على أنه تمرد على سلطاننا، أو ننظر لكل تصرف مخالف لتوقعاتنا على أنه عدم احترام. من الجيد أن نقبل أغلب هذه التصرفات على أنها محاولة من الابن أو الابنة لتأكيد شخصيته. لكن هذا لا يمنع أن نتفق كوالدين على تصنيف المواقف التي تتطلب منهم الطاعة، وأي الاختيارات التي نسمح بها ليُعبروا عن ثقتهم بأنفسهم، والتي تساعدنا أيضًا على استكشاف ميولهم الطبيعية.
في عالم يقدم أمثلة سلبية عن التمرد وعدم الاحترام، ما نقدمه بنموذج حياتنا اليومية، والكيفية التي نُعبر بها عن آرائنا في الأشخاص أو الكيانات التي نعيش في دائرتها، يؤثر في شخصيات الأبناء أكثر من مليون “وعظة” أو “شخطة” لنحفزهم على السلوك باحترام.
المهمة شاقة، لكن النتيجة تستحق أن نقبلها، ونقوم بها عن طواعية وبسرور.