** فيما كان العام القاسي 2020 يلملم أوراقه ليرحل, قررت ذات ليلة أن أمسح من ذاكرتي كل الأخبار المؤلمة علي امتداد أيام عام كامل لم أسمع فيه إلا عن أحباء افترسهم الوباء, وأصدقاء عزلهم الفيروس, وأقارب هزمهم الخوف, وجيران كساهم الاكتئاب, وزملاء تباعدوا, وأحباء تفرقوا.. كنت أحاول أن أبحث عن موقف مفرح أو حادث سعيد من ذكريات عام كامل لأختزنه في ذاكرتي فلم أجد.. في النهاية قررت أن أغمض عيني علي صورة إلهي, أختبئ عنده, أرتمي في أحضانه, ألتمس الأمان, أطلب الراحة.. في الصباح استيقظت علي رنات التليفون.. دعوة لعيد ميلاد أقرب الأحباء إلي قلبي كيرلس.
** تملكتني فرحة كبيرة.. كيرلس سيطفئ 17 شمعة.. سنوات حلوة مضت سريعة صنعنا فيها خيرا كثيرا, احتضنا طفلا مختلفا, جاء إلي الحياة بإعاقة ذهنية, والأكثر بثقبين بالقلب وشرايين مفتوحة, وبعدما تمجد الرب ونجحت الجراحات ظهرت كل أشكال الإعاقة.. ارتخاء في العضلات, ضعف في الفقرات, تأخر في المشي, صعوبة في الكلام.. ومضت بنا السنوات ونحن مع كيرلس خطوة بخطوة ومن يوم إلي يوم.. جاءنا في لفافة محمولة علي ذراعي أمه, وهو الآن يمشي ويتحرك, ويحاول أن يتكلم, ويتعلم مناهج ذوي القدرات الخاصة بمدرسة أنقياء القلب بكنيسة العذراء وأبي سيفين بالمعصرة, والتي احتفلت يوم 8 ديسمبر الماضي بعيد ميلاده.. مر هذا الشريط أمام عيني.. كانت استجابة من الرب لأري شيئا مفرحا وسط أهوال 2020, ولأشهد أن الرب رغم كل الصعوبات والمآسي التي نحياها هو معنا يعطينا فرحا دائما.. من هنا رأيت أن أحكي لكم قصة كيرلس لتتذكروا دائما كم هو عظيم صنيع الرب معنا, وكم هي مباركة عطاياكم, ولتشكروه دائما.
** قصة كيرلس لم تكن في بدايتها مفرحة, بل علي العكس كانت قصة حزينة كل خيوطها مأساوية.. ومع الأيام كشف الرب عن مشاهد الفرح.. المشهد الأول مع كيرلس الذي عرفناه في 17 نوفمبر 2006 وكان عمره وقتئذ ثلاث سنوات.. يومها بدا لنا وكأن عمره أيام, تحمله أمه التي حط علي وجهها كل بؤس الدنيا.. من بين دموعها حكت لنا أصعب مأساة سمعناها فلم نكن وقتئذ عرفنا كورونا.. مع كورونا عرفنا الابن الذي مات ولم يودعه والده, لكننا مع كيرلس عرفنا الابن الذي ولد مريضا فتنكر له والده وتركه واختفي, ووجدت الأم نفسها بمفردها في بحر متلاطم الأمواج.
** منذ اليوم الأول لميلاده بدأت خيوط المأساة تتجمع.. دخل الحضانة 15 يوما وخرج بتقرير طبي أبسط تعبير قيل فيه: حالة نادرة.. الشيء الواضح وقتها ثقبان في القلب وانفصال في الشرايين.. صليب ثقيل وتجربة صعبة واجهتها الأم بشكر, والأب كخيال الظل لا يقدم ولا يؤخر.. وبمعجزة نجحت جراحة القلب التي أجريت بمستشفي أبوالريش وعمره سنة ونصف, لكن خيوط المأساة بدأت تتشابك لتنسج أصعب مأساة.. المشكلة لم تكن في القلب فقط.. انتظرت الأم أن يتحرك كيرلس أو يتكلم.. مجرد أن يحبو أن يناغ, أن تسمع له صوتا, أو تشاهد له إشارة.. لكن لا شيء.. كيرلس مصاب بإعاقة ذهنية داون سندريوم تعوقه عن الحركة والكلام, وكان قد بلغ من العمر ثلاث سنوات.. حملته الأم وجاءت به إلينا طفلا بريئا بلا ذنب أو جريرة إلا أنه ولد في مجتمع قاس لا يرحم المتخلف ولا يقبل المريض.. ومن يومها ونحن مع كيرلس وإلي جوار أمه.
** رحلة طويلة عمرها 14 سنة من بينها سنة مع كورونا ربما هي أصعب السنوات قلقا وخوفا عليه وعلي الأم اللذين يعيشان في ظروف اضطرارية بعيدة عن كثير من الإجراءات الاحترازية, لكن الرب الذي صنع لنا فرحة مع كل يوم قضيناه مع كيرلس مضي بنا فرحين في أصعب أيام الوباء, واستيقظت ذات صباح في زمن كورونا الحزين علي دعوة فرح لنطفئ مع كيرلس 17 شمعة, وليضيء له الرب شموعا كثيرة في حياة مثمرة بالبركات مغمورة بمحبتكم, وصلواتكم معنا.