رغم انتهاء عصر “الفتوة” في مصر منتصف القرن العشرين، إلّا أنّ قصصه ما زالت حية حتى الآن يتناقلها المصريون من جيلٍ إلى آخر لاستحضار مواقف الشجاعة والشهامة، حتّى أنّها فرضت نفسها بقوة على عالمي الأدب والدراما، الذين يزخران بالكثير من الأعمال التي تُسلّط الضوء على ذاك العصر، وكان آخرها مسلسل “الفتوة” الذي عُرض في رمضان الماضي ولاقى استحساناً من الجمهور العربي والمصري.
فقد انتشرت ظاهرة الفتوة في مصر على مدار القرنين؛ الثامن عشر والتاسع عشر، وكان لقب الفتوة يُطلق على القائد الشعبي في كل حي الذي يتمتع بصفات مثل؛ الشهامة والجرأة ونصرة الضعيف والدفاع عن الحق، إلى القوة الجسدية وبنيان قوي متين يعينه على واجبه هذا، ويشتهر بحمله “النبوت”، وهو عبارة عن عصا طويلة غليظة يذود بها عن أهل حارته ويدافع عن حق المظلومين.
– السينما سبقت الأدب في رسم صورة الفتوة:
وفي محاولة للبحث عن البدايات التي طرحت فيها شخصية الفتوة في النتاج الإبداعي المصري، تذهب بنا ناهد صلاح في كتابها “الفتوة في السينما المصرية” إلى أن السينما المصرية قد خرجت منها شخصية الفتوة، ومنها انتقلت إلى عالم الأدب، بمعنى أن البداية كانت في السينما، ولمّا نجح هذا النموذج فتحت الرواية أبوابها له ودخلها منتصرا، واعتبرت فيلم “فتوات الحسينية” عام 1954، إشارة انطلاق الفتوة في روايات نجيب محفوظ الذي تربع على عرش السينما بكثرة رواياته عن الفتوة، فكان هذا الفيلم بمثابة بروفة في الكتابة عن هذا العالم قبل ظهور روايته “الحرافيش” التي تعد الأبرز في تناول السيرة الشعبية لفتوات الحارة المصرية وتاريخهم في منتصف ستينيات القرن الماضي، وتدور مجملها حول شخصيات تسعى لتأسيس قيم العدل. ومن بعدها صارت أفلام الفتوات جزءًا أصيلًا من واقعها وتاريخها، وقد استطاع نجيب محفوظ أن ينقل لنا صورة حية عن شخصية “الفتوة” من خلال حياته الأولى التي عاشها في الحارة القاهرية، فضلًا عن سماعه لحكايات هذا العالم من كبار السن.
كما استطاعت الأفلام المصرية تقديم مشاهد حية من داخل المجتمع المصري، وصورت الحارة الشعبية بكل تفاصيلها، وعكست الصراع الدائم بين الخير والشر والعدل والظلم والأمل واليأس.
ومن أشهر من جسد شخصية الفتوة في السينما عدد من نجوم مصر: منهم صلاح قابيل، أحمد زكي، محمود مرسي، عزت العلايلي، حمدي غيث، نور الشريف، عادل أدهم، محمود عبدالعزيز، محمود ياسين، واخيرا فريد شوقي، الذي نال لقب الأكثر مشاركة في الأفلام التي تناولت عصر الفتونة قديماً في مصر.
وعن أشهر الأفلام التي تناولت شخصية الفتوة ويقف خلفها الروائي نجيب محفوظ وهي:
– “فتوات الحسينية”، تأليف نجيب محفوظ ونيازي مصطفى، وبطولة فريد شوقي الذي جسد شخصية “فتوة” داخل أحد أحياء القاهرة القديمة، وتبدأ أحداث الفيلم عندما يستلم الابن عصا الفتوة من أبيه، ويتعلم منه القتال بالنبوت، ثم ينشب صراع بين الشاب وفتوة ذلك الوقت الشرير، الذي ينافسه على حب نفس الفتاة التي يحبها، فيدبر “الطاغية” مؤامرة للشاب ويدخله السجن لعدة سنوات، وعقب خروج “الفتوة الشاب” تنشب مشاجرة فاصلة بين المتصارعين على الفتونة، ويتغلب على الطاغية ويدخله السجن، ويصبح فتوة عادلاً في الحسينية.
– وعام 1981 عرض فيلم “الشيطان يعظ” تأليف نجيب محفوظ، وبطولة نور الشريف وفريد شوقي وعادل أدهم، ليجسد عالم الفتوات في الحواري المصرية القديمة، وتدور أحداث الفيلم حول “الديناري” فتوة المنطقة الذى يضم “الحاجري” لأعوانه ويطلب منه البحث عن أجمل فتاة فى المنطقة ليتزوجها، ولكن “الديناري” يقع في حب “وداد” خطيبة “الحاجري”، ويحاول بشتى الطرق التقرب منها، فيلجأ “الحاجري” إلى فتوة الحي المجاور لإنقاذه من بطش “الديناري”.
– اما عن “المطارد” للبطل نور الشريف وتحية كاريوكا وسهير رمزي وأبوبكر عزت ومجدي وهبة، وللمؤلف نجيب محفوظ والمخرج سمير سيف. تدور أحداثه حول الحرافيش في زمن سماحة الناجي الذي يفاجئه الفتوة القللي برغبته الزواج من حبيبته “مهلبية”. الناجي يحاول الهرب مع “مهلبية” ليتزوجها لكن رجال القللي يقتلونها وتلصق التهمة بسماحة الذي يهرب بعيداً إلى الصعيد، ويتزوج من محاسن بعد أن يتخفى في شخصية شيخ ويفتح محلاً للعطارة، وبعد مدة يقرر العودة لمنطقته القديمة وينتصر على الفتوة الظالم الذي اعترف بأنه القاتل الحقيقي لمهلبية.
– والأكثر شهرة في تاريخ السينما المصرية وهو فيلم “الحرافيش” بطولة محمود ياسين، ليلى علوي، صفية العمري، ممدوح عبدالعليم، صلاح قابيل، قصة وسيناريو وحوار نجيب محفوظ، وإخراج حسام الدين مصطفى، وتبدأ القصة عندما يشب حريق ببيت سليمان الناجي فتوة الغلابة بسبب “رضوانة” زوجة ابنه البكري “بكر” التي تقع في غرام شقيقه “خضر”، وعندما يكتشف “بكر” ذلك يحاول قتل شقيقه ويتهمه بخيانته، لكن “خضر” البريء يرفض الاتهام ويهرب ليترك العائلة تعيش بسلام، لكن العائلة تبدأ في الانهيار ويصاب الناجي بالشلل بعد أن يتم رهن وكالته، وبعد أن يسحب المعلم عتريس راية الفتونة منه، لكن خضر يعود مرة أخرى لينقذ وكالة والده، وراية الفتونة التي تحملها عائلة الناجي من جديد.
– كذلك فيلم “التوت والنبوت”، بطولة عزت العلايلي، وحمدي غيث، وسمير صبري، وأمينة رزق، من رواية الحرافيش لنجيب محفوظ وإخراج نيازي مصطفى، وتدور قصة هذا الفيلم عن عاشور الناجي، الذي يبذل محاولات لجمع الحرافيش حوله لاستعادة مكانة أولاد الناجي في الحارة، بعد استيلاء المعلم حسونة على منصب الفتوة، وأصبح يكيل لأهل الحارة ويطالبهم بدفع إتاوات كبيرة، وتتوالى الأحداث.
“وأخيرا فيلم “الجوع” بطولة سعاد حسني، محمود عبدالعزيز، يسرا وعبدالعزيز مخيون، وقصة نجيب محفوظ من إخراج علي بدرخان. وتدور الأحداث عن حكاية جديدة من ملحمة الحرافيش، حيث يتولى أمور الحارة فتوة ظالم يسجن أخيه ظلمًا لإطعامه الفقراء دون إذنه، فيقبض عليه ويعذبه ثم يسجنه، وبينما هو في السجن تقوم زوجته بالتحضير لثورة يقوم بها الفقراء لهدم هذا النظام الفاسد وإزالة آثار الطغيان عن الحارة.
ورغم ما شهدته فترة الثمانينات من زخماً سينمائياً في تناول سيرة الفتوات، إلا أن هذا الزخم تغير وتحول تدريجي حتى وصل للنقيض، فقد تحولت السينما من محاولة رسم صورة الفتوة إلى مرحلة البلطجة ومحاولة إبراز دور البلطجي بصورة بطولية، مثلما قدم أحمد السقا دور البلطجي في فيلم «إبراهيم الأبيض» للمخرج مروان حامد، عام 2009، ولاقى هجوماً كبيراً في ذلك الوقت، ومن ثم تضاعفت تلك النوعية من الأفلام حتى وصلت إلى ذروتها الآن.
إلا أن الدراما المصرية استطاعت مؤخرا أن تعيد عصر الفتوات لأذهان المصريين من خلال الفنان ياسر جلال، بمسلسه الرمضاني “الفتوة”، وشاركه البطولة عدد من النجوم، أبرزهم مي عمر، وأحمد صلاح حسني، ونجلاء بدر، وسيناريو وحوار هاني سرحان، وإخراج حسين المنباوي. ويقدم هذا المسلسل، وفقاً لتصريحات بطله، نموذجاً مشرفاً للحارة المصرية التي لم تتغير كثيراً مع تتابع الأزمان، لكنها تفتقد لبعض العادات والتقاليد والعلاقات الإنسانية التي يتطلب وجودها حالياً.