التواصل الحقيقى الذى يصل بالإنسان إلى الوجود الدائم والمستمر مع الله لابد وأن يكون على أساس سليم لايتزعزع أمام أية معطلات أو عقبات، ولكى يتحقق هذا التواصل هناك أربعة أسس مهمة يُبنَى عليها:
1- الإعتراف بتجسد الله الكلمة ربنا يسوع المسيح فى ملء الزمان وقبول خلاصه المُقَدَّم لنا عطية مجانية وتحقيق هذا الخلاص عن طريق الموت والدفن فى المسيح والإتحاد به قائماً من بين الأموات والثبات فيه، وهذا كله يتحقق بالأسرار الكنسية التى يعمل فيها روح الله القدوس ويجعلنا أبناءاً حقيقيين على الصورة الأصلية التى خلقنا عليها الله بطبيعة جديدة وخلقة جديدة من خلال المعمودية والميرون والتوبة والإعتراف والإفخاريستيا” 15مَنِ اعْتَرَفَ أَنَّ يَسُوعَ هُوَ ابْنُ اللهِ، فَاللهُ يَثْبُتُ فِيهِ وَهُوَ فِي اللهِ (1 يو 4: 15)”.
قبول الخلاص بشكل سليم وعمل الروح القدس فينا يجعلنا أبناءاً حقيقيين لأبانا الذى فى السموات ويجعلنا ورثة للملكوت ويضع نهاية لإنفصالنا عن الله بسبب السقوط بعد أن كنا وارثين للخطية الجدية لأننا من صلب آدم وذريته.
2- الأساس الثانى لتحقيق هذا التواصل السليم مع الله هو إعلان هذا السر العميق الذى به أحبنا الله إلى المنتهى حتى بذل إبنه الوحيد على عود الصليب لأجل خلاصنا، إنه أساس الحب العادل الذى أعاد لنا الحياة النقية الى خُلِقنا على أساسها، فالله محبة ومحبته لكل نفس بشرية أتجاسر وأقول أنها كانت غالبة له من أجل أبديتنا وعودتنا إليه والوجود الدائم معه:
” 16وَنَحْنُ قَدْ عَرَفْنَا وَصَدَّقْنَا الْمَحَبَّةَ الَّتِي ِللهِ فِينَا. اَللهُ مَحَبَّةٌ، وَمَنْ يَثْبُتْ فِي الْمَحَبَّةِ، يَثْبُتْ فِي اللهِ وَاللهُ فِيهِ ( 1يو 4)”.
هذا الحب العادل الذى قدمه الله لنا لكى يعيد إلينا جسور التواصل مرة أخرى لابد وأن يقابله من جانبنا حباً آخر ينمو ويكمن فى هذا الحب الإلهى الغير محدود. لقد أحبنا الله وأعطانا حياة وكياناً ووجوداً من لاشئ من العدم، وبسبب إنفصالنا عنه لم يتركنا ولم يتخلَّ عنا بل أعد تدبير الخلاص من قبل خلق العالم، ورعى شعبه وخاطبنا أخيراً بتجسده لكى يفدينا ويخلصنا ويقدم لنا حياة جديدة بسكنى روحه القدوس فى داخلنا، وبررنا وأعطانا ميراثاً أبدياً وملكوتاً سماوياً لايضمحل. إنه حب غير محدود مهما حاولنا أن نرده لانستطيع ذلك ولن تكفى أيامنا على الأرض لكى نعوض ولو قطرة صغيرة من هذا الحب الإلهى القوى، لكن مانستطيع أن نقدمه هو أن نسعى أن يكون هذا الحب هو عنوان حياتنا والنور الذى يضئ قلبنا وعقلنا بإستمرار فنثبت فى الله بتواصل دائم لاينقطع وهو يثبت فينا بطبيعته المُحبِة المقدسة، وكل شئ فى تواصلنا مع الله لابد وأن يكون مبنياً على هذا الحب، صلاتنا وتسابيح قلوبنا وأفكارنا وهيكلنا كلها مؤسسة ومبنية على هذه المحبة الدائمة، ووجودنا واستعلان ملكوت الله فينا سواء فى حياتنا الداخلية أو إستعلانه للآخرين لابد وأن يكون مملوءاً بهذا الحب المقدس الذى يزيل كل بغضة فى القلوب ويجعل الإنسان دائماً فى نقاوة مستمرة وعطاء ومحبة للآخرين حتى الأعداء منهم، وبدون محبة لايكون التواصل مع الله حقيقياً لأن الله نفسه محبة بل تكون وقتها صنجاً يرن أو نحاساً يطن بلا حياة حقيقية كما قال معلمنا بولس الرسول: “1إِنْ كُنْتُ أَتَكَلَّمُ بِأَلْسِنَةِ النَّاسِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَلكِنْ لَيْسَ لِي مَحَبَّةٌ، فَقَدْ صِرْتُ نُحَاسًا يَطِنُّ أَوْ صَنْجًا يَرِنُّ (اكو 13)”.
3- الأساس الثالث فى التواصل الحقيقى مع الله هو إستمرارية فعالية الخلاص والثبات فى أصل الكرمة بشكل حقيقى يضمن لنا حياة أبدية تمتد فى أعماقنا وفى فكرنا وحياتنا إلى أن تثمر عن وجود حقيقى فى ملكوت السموات، هذا الأساس هو سر الإفخاريستيا الذى به يستمر إتحادنا وثباتنا فى المسيح بالتناول من جسد الرب ودمه الحقيقيين “56مَنْ يَأْكُلْ جسَدِي وَيَشْرَبْ دَمِي يَثْبُتْ فِيَّ وَأَنَا فِيهِ (يو 6)”. إنه غذاء الحياة المستمر فى حياتنا ويقدس كياننا ويجعلنا أعضاءاً فى جسد واحد ورأس هذا الجسد هو السيد المسيح نفسه.
هذا السر العظيم الذى أسسه السيد المسيح نفسه فى العشاء الربانى وأكد على أهميته مراراً فى إنجيل يوحنا “47اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: مَنْ يُؤْمِنُ بِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ. 48أَنَا هُوَ خُبْزُ الْحَيَاةِ. 49آبَاؤُكُمْ أَكَلُوا الْمَنَّ فِي الْبَرِّيَّةِ وَمَاتُوا. 50هذَا هُوَ الْخُبْزُ النَّازِلُ مِنَ السَّمَاءِ، لِكَيْ يَأْكُلَ مِنْهُ الإِنْسَانُ وَلاَ يَمُوتَ. 51أَنَا هُوَ الْخُبْزُ الْحَيُّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ. إِنْ أَكَلَ أَحَدٌ مِنْ هذَا الْخُبْزِ يَحْيَا إِلَى الأَبَدِ. وَالْخُبْزُ الَّذِي أَنَا أُعْطِي هُوَ جَسَدِي الَّذِي أَبْذِلُهُ مِنْ أَجْلِ حَيَاةِ الْعَالَمِ».52فَخَاصَمَ الْيَهُودُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا قَائِلِينَ:«كَيْفَ يَقْدِرُ هذَا أَنْ يُعْطِيَنَا جَسَدَهُ لِنَأْكُلَ؟» 53فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ:«الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَأْكُلُوا جَسَدَ ابْنِ الإِنْسَانِ وَتَشْرَبُوا دَمَهُ، فَلَيْسَ لَكُمْ حَيَاةٌ فِيكُمْ. 54مَنْ يَأْكُلُ جَسَدِي وَيَشْرَبُ دَمِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ، 55لأَنَّ جَسَدِي مَأْكَلٌ حَق÷ وَدَمِي مَشْرَبٌ حَق÷. 56مَنْ يَأْكُلْ جَسَدِي وَيَشْرَبْ دَمِي يَثْبُتْ فِيَّ وَأَنَا فِيهِ. 57كَمَا أَرْسَلَنِي الآبُ الْحَيُّ، وَأَنَا حَيٌّ بِالآبِ، فَمَنْ يَأْكُلْنِي فَهُوَ يَحْيَا بِي. 58هذَا هُوَ الْخُبْزُ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ. لَيْسَ كَمَا أَكَلَ آبَاؤُكُمُ الْمَنَّ وَمَاتُوا. مَنْ يَأْكُلْ هذَا الْخُبْزَ فَإِنَّهُ يَحْيَا إِلَى الأَبَدِ». 59قَالَ هذَا فِي الْمَجْمَعِ وَهُوَ يُعَلِّمُ فِي كَفْرِنَاحُومَ. (يو 6).
هو إكليل الأسرار وضمان ثبات التواصل فى المسيح فى حياة نقية مقدسة يسبقها التوبة والإعتراف.
4- الأساس الرابع للتواصل مع الله هو حفظ الوصايا”24 وَمَنْ يَحْفَظْ وَصَايَاهُ يَثْبُتْ فِيهِ وَهُوَ فِيهِ. وَبِهذَا نَعْرِفُ أَنَّهُ يَثْبُتُ فِينَا: مِنَ الرُّوحِ الَّذِي أَعْطَانَا (ا يو 3)”. وحفظ الوصايا هنا نابع عن حب حقيقى وعميق فى العلاقة مع الله والتواصل المستمر معه فى الصلاة والإفخاريستيا والحياة بكلمات الوحى فى الكتاب المقدس وكل الوسائط الروحية التى تقود إلى العمق فى هذا التواصل. وكما يقول القديس أغسطينوس: “حِب الله وإفعل ماشئت” ، فحفظ الوصايا هنا – أى العمل والحياة بها – كما يحق لإنجيل المسيح ليس هدفه نوال مكانة أو درجات للوصول إلى الله بل كما ذكرنا منبعه هو الحب، الحب الذى غمر به الله البشرية والحب الذى يكمن داخل كل قلب لايتحمل أن يجرح أباه السماوى أو يقابل حبه غير المحدود بجفاء وقسوة.
حفظ الوصايا النابع عن هذا الحب العميق يجعل السيد المسيح صورة حية ظاهرة فينا، تشرق بشمسها فى حياتنا وتصير نوراً يجذب نفوس أخرى بعيدة عن التواصل مع الله. وبروحه القدوس الساكن فينا ندرك ونعيش هذا التواصل بعمق لايُنطَق به، ولاتستطيع الكلمات أن تصف جماله ولذته، إنه طعم الحياة الحقيقية التى كثيراً ما نفتقدها بسبب أعمالنا وقساوة قلوبنا، فنغمض عيوننا ونصم آذاننا بإرادتنا لكى لانراه، فنفقد بذلك كنزاً ثميناً لاتعادله كنوز الأرض كلها.
هذه الأساسات الأربعة: الإعتراف بيسوع المسيح ابن الله والمحبة وسر الإفخاريستيا وحفظ الوصايا هى الركائز السليمة الذى يبدأ منها الطريق، طريق الحق الذى يقودنا إلى الهدف الحقيقى من التواصل وهو الوجود الدائم مع الله.
من هنا يبدأ الطريق الذى ينبغى علينا أن نسير فيه طريق الحياة الذى يحقق لنا الوصول إلى هدف هذا التواصل، السيد المسيح له المجد قال عن نفسه “أنا هو الطريق، فبداية الطريق هو المسيح نفسه وهو الذى يقودنا ويرشدنا فيه لكى نستحق أن يُعلَن ملكوته فينا.