يعد كتاب المفكر الفلسطيني الراحل هشام شرابي “النظام الأبوى وإشكالية تخلف المجتمع العربي” عملاً أساسيا ورائدا في تحليل المجتمع العربي من منظور البنى والعلاقات الأبوية. وقد أصبح هذا الكتاب مصدراً رئيسيا للباحثين والباحثات في المنطقة العربية. ويعالج هشام شرابي نمطا معينا من الأبوية أطلق عليه “الأبوية المستحدثة” ليقدم قراءة عن طبيعة النظام الأبوى في “المجتمع” العربي. ويتفق تعريف شرابي مع الاتجاهات العامة لتعريف الأبوية، أى بوصفها نسق من البني والعلاقات يقوم على السيطرة واستبعاد النساء. وبالتالي فإن العلاقة بين الرجال والنساء محدد رئيسي. ولكن إلى جانب ذلك يضع شرابي المفهوم في سياقه العربى، فيؤسس مفهومه إنطلاقا من محددات أخرىارتبطت بمسارات التحديث في البلدان العربية، وهي: ثنائية التقليد والحداثة، وثنائية الأسرة والقبيلة، وثنائية القومي والقطري، والعلماني والديني. ولكن، ومن وجهة نظري، أن تحليل شرابي ينطوى على تعميمات، أشير إليها في هذا المقال كتساؤل.
تأتي علاقات النوع الاجتماعي Gender في تحليل شرابي للنظام الأبوي كوصف عام لطبيعة هذا النظام، فهذه العلاقة اللامتوازنة التي تقوم على السيطرة واستبعاد النساء هي التي تعطي للنظام شكله، فيقول: “يقوم حجر الزاوية في النظام الأبوي (والأبوى المستحدث) على استبعاد المرأة، من هنا كان العداء العميق والمستمر في هذا المجتمع للمرأة ونفى وجودها الاجتماعي كإنسان والوقوف بوجه كل محاولة لتحريرها، حتى عندما رفع شعار تحرير المرأة..”. ويضيف “إنه مجتمع ذكوري لا وظيفة فيه للأنوثة إلا تأكيد تفوق الذكر وتثبيت هيمنته. من هنا كانت العقبة المركزية في وجه التغيير الديمقراطي الصحيح في هذا المجتمع. ففي غياب المساواة بين الرجل والمرأة يغيب مبدأ المساواة في المجتمع ككل”.
بهذا الوصف لطبيعة العلاقة بين الرجال والنساء يبدأ شرابي حديث عن المجتمع الأبوي. فهو مجتمع ذكوري لا مساواتي وبالتالي يفتقر إلى الديمقراطية بمعناها الحديث. ونلاحظ إن شرابي يستخدم لغة تتسم بالرديكالية والتعميم. فمن ناحية أولى يرى شرابى أن النساء في هذا المجتمع مهمشات بصورة كاملة، حيث “لا وظيفة للأنوثة إلا تأكيد تفوق الذكر وتثبيت هيمنته”. وربما يلتقي شرابي في هذا مع بعض الاتجاهات النسوية وخاصة الراديكالية. أما التعميم الثاني، فهو يتعلق باستخدام تعبير “المجتمع العربي”، وهو تعبير كثر استخدامه وبدا طبيعيا في الخطاب القومي العربي، على اعتبار وجود كيان قومي موحد اسمه “المجتمع العربي”.
بخصوص التعميم الأول، أى السيطرة الكاملة للرجال والهامشية الكاملة للنساء، أزعم أن هذه النظرة تتجاهل حقائق تاريخية تتمثل في التحول في العلاقات بين الجنسين، بما يعنيه ذلك من تحقيق مكاسب للنساء والتي غالباً ما تكون غير منظورة عندما ينحو الخطاب المناصر لحقوق النساء إلى التعميم، ومن ثم تراجع سيطرة الرجال في بعض المواقع. وعلى ما يبدو أن الذكورة كشرت عن أنيابها ليس بسبب قدرتها على فرض سطوتها الكاملة، ولكن ربما بسبب عدم قدرتها على السيطرة بسبب المكاسب التى تحققت لقطاعات من النساء في العصر الحديث. وهذه القضية بدأت تتكشف مؤخرا من خلال بعض الدراسات التى بدأت تلفت الأنظار لأزمة الذكورة. وفى هذا الصدد فقد يكون من المناسب طرح السؤال التالى: هل الأبوية فى شكلها المعاصر تعبير عن أزمة أم تعبير عن قدرة على السيطرة؟ وأين الخط الفاصل بين أزمة الأبوية وتراجعها من ناحية وبين قدرتها وهيمنتها من ناحية أخرى؟ أتصور أننا بصدد علاقة دينامية متغيرة لا يصح معها التعميم.
وبخصوص التعميم الثاني، أي فكرة “المجتمع العربي” أقول أن استخدامه بهذه الطريقة غالباً ما يشكل عائقاً أمام فهم الاختلافات والتنوع داخل وبين المجتمعات العربية سواء بالمعنى الطبقي أو العمري أو الثقافي أو الإثنى. فعلى الرغم من وجود مشتركات ثقافية واجتماعية بين البلدان العربية، إلا ان أوضاع ومكانة النساء تعكس كذلك التباينات والاختلافات بين هذه البلدان وداخلها. وهنا أيضا يظهر بشكل واضح أن التعميم الذي تعبر عنها مصطلحات مثل “العالم العربي” أو “العالم الإسلامي” تخفي أكثر مما تكشف.
أطرح هذه الملاحظات، أو بالأحرى التساؤلات، تواصلا مع فكر هشام شرابى والذى كان، كغيره من الرواد، سباقا في طرح قضايا حيوية وهامة. وعندما ننظر الآن إلى تزايد الاهتمام بدراسات النوع الاجتماعى، لا يسعنا إلا أن نقدر هذا الجيل من الرواد الذى فتح آفاقا جديدة لفهم ظواهر الاجتماعية لم تكن آنذاك محل اهتمام كبير في مجتمعاتنا.