استطاعت كوبا أن تبهر العالم في واحدة من أصعب المحن التي يواجهها سكان الأرض، ففي الوقت الذي تفشى فيه فيروس كورونا بشكل وبائي في جميع دول العالم واستشهد الكثير من الأطباء جراء العدوى، ووصل الأمر في إيطاليا إلى حرق جثث الموتى، يفاجأ العالم بوصول فريق من الأطباء الكوبيين إلى إيطاليا للمساهمة في علاج المرضى، في وقت كان بعض أهالي المصابين يرفضون زيارة ذويهم خوفًا من العدوى ! لكن الأمر لم يكن من قبيل الصدفة أو حدثًا عابرًا، فقد أرسلت كوبا أولادها ذوي الملابس البيضاء إلى 38 دولة لمكافحة وباء كورونا المستجد في أفريقيا وأوروبا وأمريكا اللاتينية ، هذه المبادرات الإنسانية لم تكن وليدة اليوم؛ فإن كوبا لها باع طويل في مبادرات البعثات الطبية لدول العالم.
كانت البداية عندما أرسلت كوبا بعثة طبية إلى الجزائر عام 1963 ، ومنذ ذلك الحين قدم ما يقرب من ربع مليون كوبي من الأطباء والممرضين تعاونهم مع دول كثيرة، فقد تم تقديم خدمات طبية لأكثر من 300 مليون شخص حول العالم ، وأجرى الأطباء الكوبيون أكثر من مليوني عملية جراحية، وتم تطعيم حوالي تسعة ملايين طفلًا.
ومن خلال برنامج ” المعجزة ” تم علاج أكثر من 600 ألف شخص كانوا يعانون من مشاكل في الرؤية من 30 دولة في أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي ومؤخرًا في أفريقيا بمعدات عالية التقنية .
والسؤال الآن كيف لدولة صغيرة مثل كوبا هي عبارة عن جزيرة صغيرة في البحر الكاريبي تستطيع أن تتفوق في العلوم الطبية على دول أكبر حجمًا وثقلًا سياسيًا واقتصاديًا في العالم، وتستطيع أن تمتلك هذا الكم الفائض من الأطباء الذين يذهبون إلى أبعد وأفقر بقاع الأرض، في أماكن مليئة بالأوبئة و محرومة من الخدمات فيكونوا هناك رسلا للسلام والإنسانية ؟ وما سر تفوق منظومة الطب الكوبي وهل يحصل الشعب الكوبي على حقوقه الصحية أولا أم أن هذه البعثات على حساب الشعب الكوبي ؟ وكيف تدار المنظومة التعليمية في كوبا ؟
كوبا تولد من جديد :
كوبا هي آخر بلدان القارة الأمريكية اللاتينية التي تحررت من الاستعمار الإسباني ، كانت الحكومة الإسبانية قد حشدت كما من القوات يقارب عدد القوات التي واجهت حروب استقلال أمريكا الجنوبية مجتمعة ( نصف مليون جندي ) ، بينما كان عدد كل سكان كوبا آنذاك بالكاد يتخطى المليون نسمة . كافح الكوبيون من أجل الاستقلال ثلاثين عامًا ، وبعد أن أنهكت كل قوى إسبانيا عسكريًا واقتصاديًا حاولت الولايات المتحدة الأمريكية الاستيلاء على كوبا لكنها فشلت ، مع أنها استطاعت الاستيلاء على بورتوريكو وجزر الفلبين وأسست حكومات عسكرية موالية لها في دول أخرى مثل نيكاراجوا وباراجواي ، فقامت الولايات المتحدة بتأسيس حكومة عسكرية في كوبا برئاسة فولجينيسيو باتيستا عام 1952 .
هنا ظهر الشاب الثائر فيدل أليخاندرو كاسترو الذي نظم أعمالا احتجاجية لا حصر لها ، قام بقيادة حوالي 1000 ثائر من العمال والشباب والموظفين والطلاب ، في يوم 26 يوليو قاد هجومًا على معسكر الثكنة مونكادا ، في سانتياجو دي كوبا ، ومعسكر الثكنة كارلوس مانويل دي سيبيدس في بايامو ، فحكم عليه بالسجن 15 عامًا ، وبسبب الضغط الشعبي تم إطلاق سراحه ونفيه إلى المكسيك ، فانطلق من هناك وتنقل بين عدة ولايات أمريكية ونظم حركة 26 يوليو التي كانت حربًا على مدى 25 شهرا ، وانتصر على قوات باتيستا ووصل إلى هافانا يوم 8 يناير 1959 .
الأمية والفقر والمرض :
عندما وصلت قيادة الثورة إلى السلطة وتولي كاسترو حكم كوبا وجد هناك 600 ألف عاطل بينما عدد سكانها يزيد قليلًا عن 6 مليون نسمة، وكان هناك 3 مليون شخص لا توجد في بيوتهم كهرباء ، كان يعيش ثلاثة ملايين ونصف شخص في خيام و أكواخ وغرف مصنوعة من التنك دون الحد الأدنى من المعيشة الآدمية .
37% من السكان كانوا أميين ، 2% من السكان كانوا مصابين بالسل أي 100 ألف نسمة ، نسبة الوفيات بين الأطفال كانت مرتفعة جدًا لإصابتهم بالطفيليات .
1.2 % من مجموع ملاك الأراضي كانوا يسيطرون على 46% من مجمل مساحة الأراضي في كوبا ، الخدمات العامة وشركات الكهرباء والهاتف كانت تخضع لاحتكارات أمريكية ، وكانت أهم الصناعات و مصافي النفط والمناجم والمصارف والتجارة الخارجية ملكا لشركات أمريكية .
عندما وصل باتيستا إلى الحكم كان حجم الاحتياطي النقدي في كوبا 500 مليون دولارا ، وعندما وصلت قيادة الثورة إلى السلطة لم تجد سوى 70 مليون دولارا !
أمام هذا الإرث الاستعماري والأوضاع المحزنة التي خلفها الحكم الفاسد ماذا فعلت حكومة كاسترو الثورية ؟
التعليم أولًا :
أجاب فيدل كاسترو على هذا السؤال في خطابه الذي ألقاه في مقر الأمم المتحدة في نيويورك بالولايات الأمريكية المتحدة .. يوم 26 سبتمبر عام 1961 .. قائلًا :
” قامت الثورة بتخفيض سعر إيجار الأراضي الذي كان يفرضه الملاك على الفلاحين ، وألغت حقوق الامتيازات التي كان حكومة فولجينيسيو قد منحتها لشركة الهاتف … وخلال سنة واحدة تم زراعة 50 مليون شجرة منتجة للأخشاب … ” .
وعن التعليم قال كاسترو :
” خلال 20 شهرا فقط فتحت الحكومة الثورية عشرة آلاف مدرسة ، وأصبحت أهم الحصون العسكرية مدارسالعشرات الآلاف من الطلاب، وخلال حوالي ثلاثة أعوام تم القضاء على الأمية”.
وفي خطابه في مهرجان الاحتفال بعيد العمال العالمي الذي أقيم في ساحة الثورة بهافانا في الأول من مايوعام 2003 ، قال فيدل كاسترو :
” في خضم حصار صارم وحرب اقتصادية دامت نحو نصف قرن أفلحت كوبا في القضاء على الأمية ووفرت التعليم المجاني من الروضة حتى الجامعة، وقد تضاعف عدد خريجي الجامعة 30 مرة.. و للمرة الأولى في العالمأصبحت الدراسة مع تلقي دخل اقتصادي فرصة لجميع الشبان من سن 17 – 30 عامًا ممن لم يتلقوا التعليم سابقا وليس لديهم وظائف”
مع نجاح منظومة التعليم بأكملها أصبحت كوبا اليوم صاحبة أعلى نسبة من الأطباء مقابل عدد السكان، ويتمتع جميع المواطنين بالعلاج المجاني من خلال نظام طبيب الأسرة، وتقلصت نسبة الوفيات بين الأطفال، وتم القضاء على أمراض معينة كشلل الأطفال والملاريا والتكزز عند حديثي الولادة (انقباض العضلات أو التشنج ) والخناق ( وهو عدوى بكتيرية تصيب الأنف والحلق ) والحصبة الألمانية والتهاب الغدد النكفية والسعال الديكي وحمى الضنك ، والتهاب الكبد الوبائي ” بي ” والجذام والتهاب السحايا وداء السل .
كلية من أجل العالم :
امتدادًا لتطوير المنظومة الطبية توسعت كوبا في إنشاء العديد من الجامعات والمعاهد الطبية في جميع التخصصات في عدة مدن، ومن أهم المنشآت التي أصبحت صرحًا علميًا وإنسانيًا هناك ” كلية الطب الأمريكية اللاتينية ” في هافانا التي افتتحت عام 1999 ، حيث يقع المبنى الرئيسي على الشاطيء الغربي لهافانا العاصمة، وقد جاءها الطلبة الأوائل من أمريكا الوسطى في فبرايرعام 1999 ، وتخرجوا بعد اتمام منهاج مدته 6 سنوات .. عام 2005.
تهدف كلية الطب الأمريكية اللاتينية إلى تعليم الأطباء في المقام الأول أداء الخدمات العامة في المجتمعات الريفية والحضرية المحرومة من الخدمات ، وفي مقابل تعهد غير ملزم بالممارسة في المناطق المحرومة يتلقى الطلبة منحة دراسية كاملة مع مرتب صغير ويتخرج دون ديون مستحقة .
تعطي الأولوية للمتقدمين ذوي الدخل المنخفض الذين لا يستطيعون تحمل أعباء دراسة الطب بدون هذه المنحة ، والنتيجة أن 75% من الطلبة يأتون من مجتمعات تحتاج أطباء، وفيهم تمثيل واسع للأقليات الاثنية والسكان الأصليين . جميع المسجلين فيها طلاب أجانب معظمهم من أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي، بالإضافة إلى أفريقيا وآسيا .
القمصان البيضاء و دواء الانترفيرون :
أكدت تانيا أجويرا فيرنانديز سفيرة كوبا في مصر، خلال حديث لموقع صدي البلد في أبريل الماضي، أن كوبا تعد من أفضل الدول من حيث عدد الأطباء بالنسبة إلى السكان، إذ يوجد طبيب لكل 112 مواطن أي أن كل ألف مواطن لهم 9 أطباء يقومون برعايتهم، ولا تزال كوبا معيارًا دوليًا لما يمكن تحقيقه في مجالي الصحة والتعليم، وأصبحت أخبار بعض الأدوية الجديدة التي اكتشفها علماؤنا تعرف في العالم كله ، وقالت إن الأطفال في كوبا يتم تطعيمهم ضد 13 مرضا وهو واحد من أعلى برامج التطعيم في العالم .
وأضافت فيرنانديز ” أن كوبا البلد الذي يقع على مقربة من مركز التوتر الجيوسياسي و عاني لسنوات طويلة من العقوبات الوحشية للرأسمالية الأمريكية إلا أن الآثار السلبية لهذه العقوبات لم تمنع هافانا من القيام بواجبها الإنساني تجاه العالم حتى في أحلك الظروف.
كما أنها بدبلوماسية القمصان البيضاء أصبحت شريك مسؤول وموثوق به في السياسة العالمية وتلعب دورًا هامًا في تعزيز الأمن العالمي واستعادة البشرية لإنسانيتها . ” .
ومن أهم تصريحات السفيرة الكوبية تانيا أجويرا فرنانديز ، أن كوبا طورت تكنولوجيا حيوية قوية وصناعة صيدلانية متقدمة لتحل محل الأدوية التي يمنعها الحصار الأمريكي من الوصول لكوبا . وأن كوبا نجحت في تطوير عقار لعلاج فيروس كورونا . ويؤكد هذه الحقيقة إعلان مركز التحضير الحيوي قدرته على إنتاج كميات من عقار ” انترفيرون ألفا 2 بي ” ، وهو يمكن أن يكون مفيدا لعلاج وباء كورونا في المراحل الأولى من العدوى مع أدوية أخرى.
و أشارت صحيفة ” آس ” الإسبانية، إلى أن الدواء حقق نتائج ايجابية في الجهاز المناعي للمرضى، ووفقا للسلطات الكوبية فان فان أكثر من 45 دولة طالبت بشراء هذا الدواء.
هذا وقد أوصت منظمة الصحة العالمية بالعقار الكوبي الذي ساهم في شفاء 1500 مريض بكورونا في الصين، وتم استخدامه في مستشفى فيرجن ديل روسيو في اشبيلية لعلاج حالات العدوى المسجلة بنجاح.
من أهم أقوال فيدل كاسترو عن أطباء كوبا : ” نحن نشعر بالفخر بأطبائنا ومراكز الأبحاث لدينا، بعشرات الآلاف من الأطباء الذين قدموا خدماتهم العالمية في الأماكن الأكثر تخلفًا و غير المجهزة بالأطباء، قلت يوما أننا لن نتمكن أبدا ولن نقوم بعدوان وقائي وفجائي ضد أية بقعة في هذا العالم، ولكن عوضًا عن ذلك يمكن لبلدنا إرسال الأطباء المطلوبين في بقاع الأرض المنسية. أطباء لا قنابل، أطباء لا أسلحة ذكية، لأنه في النهاية السلاح الذي يقتل غدرًا ليس سلاحًا ذكيًا.”