هذا الرجل مولود في 12 أكتوبر منذ مائة عام, ومن حقنا عليه أن نحتفل به بما يليق في زمن تتضاءل قيمة الثقافة الحقيقية, كان صاحب أهم مشروع ثقافي في مصر, ولايزال صورة مشرفة لواحد من أبناء بلادي المصريين, والعرب كما لم يفعل شخص آخر, ولم نسمع يوما أنه حصل علي تكريم كان يستحقه عن جدارة, ولم نسمع أن مؤسسة ثقافية واحدة دعت إلي تكريمه, أو قامت بتذكره, سواءفي ذكراه التي تمر سنة وراء أخري, ووصل الأمر أن البعض خلط بينه وبين صاحب اسم آخر تولي وزارة التربية والتعليم, ليس زمنه ببعيد, فقد رحل في العام الأول من هذا القرن.
حلمي مراد (12 أكتوبر 1920 ـ 9 ديسمبر 2001) مولود في الإسكندرية لأب كان يعمل محاميا, عاش طفولته في مدينة قنا وتخرج في كلية الحقوق بجامعة القاهرة عام 1940, واتجه لكتابة القصص التي نشرها في أغلب المجلات الثقافية, ونشر مجموعته القصصية عندما تحب امرأة عام 1951, ثم ترجم روايات عديدة لسلسلة روايات الهلال قبل أن يصدر العدد الأول من كتابي في مارس في العام التالي.
كان مؤسسة ثقافية بمفرده, قام بنشر اثنتين من كبريات السلاسل الشهرية علي نفقته الخاصة, أنه كتابي, ذلك الكتاب الشهري الأنيق جدا الذي يقوم محرره بعرض عشرة كتب, يقرأها لك بأسلوب جذاب, ويدعوك لقراءة الكتاب الأصلي بتفصيل أكبر, ليس فقط في الأدب والفكر والفن التشكيلي والتاريخ, بل أمتد الأمر إلي بقية المعارف الإنسانية, ومنها الاقتصاد والعلوم, وعليك أن تحسبها ببساطة, لقد صدر من سلسلة كتابي ما لا يقل عن مائة عدد, وعليه فإن الرجل قرأ ألف كتاب من أهم ما ألف البشر.
في السنوات الأولي من النشاط لم يكف عن ترجمة الروايات العالمية البالغة الأهمية في روايات الهلال, ومنها آنا كارنينا لدوستيوفسكي, ودافيد كوبرفيلد لتشارلز ديكنز, وأحدب نوترام, لفيكتور هيجو و أوجيني جرانديه لبلزاك, وغيرها, وفيما بعد تفرغ للكتابة والنشر, إلي جانب التأليف, اهتم بالسفر إلي كل بلاد العالم, وكان يكتب بابا شهريا في مطلع كل عدد باسم قرأت وسمعت ورأيت, وعندما نجح مشروعه الأول, قرر أن يقوم بتكملته, حين أصدر سلسلة مطبوعات كتابي, وهي سلسلة شهرية موازية تصدر رواية عالمية بترجمتها الكاملة, مثلما صدرت في بلادها, وكان الكتاب الأول هو قصة مدينتين ليكنز, كما أصدر مذكرات جان جاك روسو في خمسة أجزاء, وترجمات أخري كاملة في أجزاء لأشهر الكتب منها: الإلياذة ترجمة دريني خشبة, ومرتفعات ويذرنج تأليف إميلي برونتي, و الآلهة عطشي لآناتول فرانس, وغيرها وعندما أثير الجدل حول رواية دكتور زيفاجو الحاصلة علي جائزة نوبل, نشرها كاملة في جزءين من القطع الكبير, في طبعات فخمة, وفي متناول الشباب من ناحية الأسعار.
إنها ظاهرة لم نر مثيلا لها, وقد حكي الرجل أنه في بداية حياته, كان يعاني من قلة نشر قصصه, فقرر أن يقدم مشروعه الذي لم يعاونه فيه أحد, وحسب قوائم الكاتب فإنه في بداية حياته في أول الخمسينيات ترجم رواية ميشيل ستروجوف تأليف الفرنسي جول فيرن, تحت عنوان رسول القيصر, هي الرواية التي أدهشت أجيالا بأكملها, لكنها مأساة المترجم في مصر لا يكاد أحد يحس به, ولا يعترف باسمه, حيث ظلت روايات العلال لسنوات طويلة لا تذكر اسم المترجم في صفحات الكتاب, وعندما أصدر مطبوعات كتابي, استعان بأعظم من ترجموا من أعمال وكان يزهو بأسمائهم, ومنهم الدكتور طه حسين الذي ترجم أعمال أندريه جيد, كما استعان بالدكتور محمد مندور الذي ترجم روايةمدام بوفاري, وكان محمد بدر الدين خليل هو الأكثر تعاونا معه.
وقد ازدهر نشاط هذا المثقف الكبير في عقود الخمسينيات والستينيات في مصر, وفي هذه الفترة كان النشاط الثقافي في أوجه, وكانت المؤسسات تتنافس في مجال نشر التأليف والترجمة ومنها سلسلة الألف كتاب, وروايات عالمية, و روايات الهلال, وقد أختار مخاطبة الشباب في المقام الأول, والعمل علي تثقيفهم, وتعريفهم بكل الإبداع الإنساني المهم, ولم يتوقف عند القرن التاسع عشر, وبدايات القرن العشرين, بل سعي لترجمة الأعمال الأدبية الحديثة, ومنها روايات للكاتب الفنلندي ميكا فالتاراي صاحب رواية سنوحي المصري, وقدم رواية ضحكات في الظلام للكاتب فلادمير نابوكوف صاحب رواية لوليتا.
من بين الأبواب البارزة في كتابي رحلاته الثقافية حول العالم فقدم مشاهداته في المتاحف, والعروض المسرحية والموسيقية والسينمائية, وأذكر أنني حين قابلته في مهرجان الإسكندرية 1983, وأثناء مناقشة فيلم غاوي مشاكل لمحمد عبدالعزيز تحدث عن المصدر الأدبي الإنجليزي للفيلم, ما عكس أن ثقافته ليست للنقل بل للتفاعل, مع مرور الوقت وارتفاع أسعار الطباعة, لم يعد للإصدارات الثقافية الجادة أي جديد مدهش, وتقلص دور الترجمة عن المسرح العالمي, والرواية, ولم تعد لدينا مشاريع جديدة, ولذا فإن الرجل ظل يحافظ علي مستواه وتوقف لأسباب عديدة, وكم تمنيت أن يتحدث عن هذا في مقال, لكنه قرر في صمت إعطاء حق إعادة طباعة مطبوعات كتابي إلي المؤسسة العربية الحديثة التي كان أصحابها يصدرون روايات شبابية تنتمي إلي التجسس, وتمت طباعة السلسلة, المائة كتاب مرة واحدة, وما لبث صاحب هذه الدار أن رحل فتوقف دورها الثقافي, وصار علينا أن نترحم علي زمن الأستاذ حلمي مراد.