نعلم جميعا أن مؤسسات وممارسات الطب التى نعرفها الآن هى مؤسسات حديثة فى تاريخ البشر، وقبل ظهورها كانت مهامالشفاء من الأمراض تتم وفق ممارسات علاجية ووقائية مختلفة، أو ما نطلق عليه الآن “الطب الشعبى أو التقليدى” لتمييزه عن الطب الرسمى الحديث. وبهذا المعنى فإن الطب الشعبى يعتبر أصل التداوى والعلاج فى المجتمعات القديمة والتقليدية. وعلى الرغم من التطور الهائل فى الميدان الطبى “الرسمى”، إلا أن الطب الشعبى لا يزال يحتفظ بمكانة فى المجتمعات الحديثة لأسباب متعددة، منها أن الثقافات والممارسات التقليدية لا تزال موجودة ومؤثرة بقوة فى بعض المجتمعات، أو بسبب أن الطب الشعبى هو البديل المتاح فى ظل ضعف أو غياب الخدمات الصحية فى الكثير من المجتمعات، كما أن رهانات الأمل فى الشفاء قد تدفع الكثير من البشر للجوء إلى العلاجات التقليدية عندما يفشل الطب الحديث، هذا إلى جانب الأوهام الملازمة لثقافات البشر وما يصاحبها من ممارسات نصب واحتيال باسم الشفاء والخلاص من الأمراض. ويبقى جانب آخر هام وهو أن الطب الشعبى لا يخلو من فائدة بالفعل باعتراف مؤسسات معنية بالصحة وفى مقدمتها منظمة الصحة العالمية.
والطب الشعبى، وفق موسوعة التراث الشعبى، مصطلح يعبر عن أساليب علاجية ووقائية منتشرة بين الناس، وذلك مقابل مصطلح الطب الرسمى الذى يعتمد على التجريب العلمى، ويرعى تقدمه المؤسسات الطبية التعليمية، ويمكن أيضا تسميته الطب التقليدى وهو البدايات الأولى للطب الحديث.. وتقوم فلسفة العلاج فى الطب الشعبى على الاعتقاد بأن لكل داء دواء، ومن ثم فإن كل مرض من الممكن شفاؤه، مالم تكن نهاية المريض مقدرة فى تلك اللحظة. وعادة ما يتم التمييز بين نوعين من الطب الشعبى، وهما: “الطب الشعبى الطبيعى” الذى يعتمد على الأعشاب والمواد الطبيعية، و”الطب الشعبى الغيبى” الذى يعتمد على الرقى والتعاويذ والأعمال السحرية. وإلى جانب ذلك عرف الطب الشعبى التركيبات الدوائية وكذلك إجراء تدخلات جراحية وعلاجية مثل الكى والحجامة إلخ. وتعددت ممارسات الطب الشعبى الذى كانت تمارسه العجائز والحلاقين والدجالين والعطارين.
ونظرا لأن الطب الشعبى مازال يحتل مساحة ليست بالقليلة فى ميدان الطب والعلاج، فثمة تناقضات وصراعات بينه وبين الطب الحديث. وعادة ما ننظر إلى العلاقة بين الطب الشعبى والطب الحديث من منظور الصراع. ولهذا الصراع جانبه الموضوعى وخاصة عندما يتعلق الأمر بالطب الشعبى الغيبى القائم على الشعوذة والخرافات. وفى مصر كان الصدام بين الطب الحديث وممارسات الطب الشعبى التقليدى أحد المظاهر الكبرى لعمليات التحديث. وكان هذا الصراع على أشده مع بدايات ظهور المؤسسات الطبية الحديثة. فقد احتدم الصراع فى عصر محمد على خلفية إدخال الطب الحديث كممارسات وسياسات فى مجتمع كان غارقا فى الممارسات التقليدية. تقول الدكتورة زينب البكرى فى كتابها “عامة القاهرة: تجربة التحديث فى عهد محمد على” أن علماء الحملة الفرنسية قالوا فى توصيفهم للوضع الصحى فى مصر: “أن الرقى والأدعيات الدينية، هى العلاج الناجع عند عامة الشعب، أما عيادات الطب الشعبى التى أنشئت فى المدن، فهى تغتال حياة من يسلم له نفسه طائعا مختارا من الأغنياء، وفى الوقت نفسه فإن الخرافة تعمل من تلقاء نفسها كعلاج ناجع غريب بهذا البلد، الذى تسير أموره المعتقدات المسبقة والجهل والتعصب”.
ومع التطورات الهائلة التى حدثت وتحدث فى ميدان الطب والتى من المفترض أن تقضى على أية ممارسات طبية تقليدية، فإنالطب الشعبى لا يزال يتمتع بمشروعة ثقافية ودينية، سواء فى العلن أو من وراء الكواليس. ولكن المسألة لا تتعلق فقط بشعوذة وخرافات، فالطب الشعبى، فى بعض جوانبه، لا يخلو من إيجابيات وخبرات إنسانية ذات نفع. ويتم النظر إلى هذا الجانب الإيجابى بوصفه نوعا من الطب التكميلى والذى يحظى باعتراف مؤسسى وثقافى. وهنا تجدر الإشارة إلى موقف منظمة الصحة العالمية من ممارسات الطب الشعبى، حيث تنص المنظمة فى استراتيجيتها العشرية (2014- 2023) على أن: “الطب التقليدي (الشعبي) والطب التكميلي جزء هام من الرعاية الصحية، غالباً ما يُستخف به ويُبخس قدره. كما أن الطب التقليدي (الشعبي) والتكميلي موجود في كل بلد من بلدان العامل تقريباً، بل ويتزايد الطلب على خدماته يوماً بعد يوم. والطب التقليدي (الشعبي) الذي ثبتت جودته ومأمونيته ونجاعته يسهم في تحقيق هدف ضامن حصول كافة البشر على الرعاية المطلوبة. ومما لا شك فيه أن صناعة الدواء قد استفادت وتستفيد بصورة هائلة من خبرات وتجارب الطب الشعبى الطبيعى، وتسعى الشركات الكبرى إلىاحتكار بعض الموارد الطبيعية ذات الصلة بصناعة الدواء باسم حقوق الملكية الفكرية. وهناك الكثير من المشافى والمنتجعات التى توظف بعض أنماط الطب الشعبى التقليدى فى سياق السياحة العلاجية.
وأتصور أن هذا يطرح سؤالا حول أهمية إدراج البعد الثقافى فى ميدان التعليم الطبى، فقد يكون من المفيد الارتقاء بمعلومات ومهارات الأطباء ليس فقط فى مجال المنجزات الطبية الحديثة، ولكن أيضا فى المجال الثقافى، ومن ذلك الطب الشعبى بوصفه ثقافة وتراثا إنسانيا. وليس الهدف أن يمارس الطبيب الأساليب التقليدية، ولكن من أجل امتلاك القدرة على التواصل الثقافى مع المرضى، وتقديم النصائح الطبية بوعى ودراية. فالطب يرتبط بالحكمة، والحكمة تقتضى إدراك الأبعاد الثقافية للصحة والمرض والداء والدواء.