من مفارقات عصرنا الراهن أننا أصبحنا من ظاهرتين متناقضتين: العزلة والتواصل. ففي زمن التواصل والاتصال، أصبحنا نعيش حالة من التواصل شبه التام، ولا يتعلق الأمر بأننا طوال الوقت نتحدث مع آخرين عبر وسائل التواصل الاجتماعى، ولكن الأمر الأهم هو أننا أصبحنا فى حالة إتاحة دائمة، فقد يسأم الفرد كثافة التواصل، ولكن قد يرعبه ألا يكون متصلا disconnected، فوجودنا تواصل وعيشنا تواصل. ومع ذلك فإن كثافة التواصل لا تعنى بالضرورة أننا، اجتماعيا وإنسانيا، فى حالة تواصل، وربما يكون العكس هو الأصح حيث يزداد شعورنا بالعزلة، وهذا الأمر صار أحد مصادر القلق الكبرى فى حضارتنا المعاصرة. ويمكن القول أن ثمة معادلة جديدة بين العزلة والتواصل، فهما ليسا على النقيض، بل يمكن أن تكون العزلة أحد عناصر ومكونات هذا النمط الجديد من التواصل إن لم تكن أحد شروط تحققه. فالقرب هو ذلك الشئ الذي نسميه “عن بعد”،
وفي الحقيقة أن عزلتنا التواصلية، متعددة الأبعاد، ففيها انفصال وتواصل بالمعنى الجسدي والنفسي، فنحن على سبيل المثال نتفاعل بقوة مع أشياء أو أحداث أو أخبار، لكن ننفصل عنها في غضون ثوان معدودة: نتضامن بشكل عابر، نشارك الآخرين أحزانهم أو أفراحهم بدون فرح أو حزن، الإحساس والمشاعر هىأمور ليست منا أو لنا في معظم الأحيان، ولكنها تعبر أمامنا كأيقونات وصور سابقة التجهيز. لقد أصبحنا كائنات بلا ذاكرة، لم يعد هناك حد فاصل بين الذاكرة أو النسيان، فقط كل ما علينا أن نكون في حالة تواصل. والعزلة لا تعنى فقط عزلتنا جسديا أو نفسيا، فنحن نعبر عن أنفسنا بلغة أصابتها العزلة. إن الحركة السريعة لتداول الكلمات والعبارات والقدرة الهائلة على القطع والوصل تنزع الكلمات والعبارات من سياقاتها، فليس هناك سوى سياق الحركة والتداول والتعليق والحضور والغياب. كما أن الكلمات والعبارات تأخذ مشروعيتها المؤقتة من قدرتها على الدوران والتداول. وبمعنى آخر لا يوجد نص، ولا توجد قصة بل عبارات بلا نص، أو عبارات وجمل من نصوص تم تفكيكها وتوظيفها ضمن حالة عابرة، تظهر على السطح ثم تختفي من الذاكرة العابرة والسريعة للفضاء الافتراضي.
إن العلاقات القريبة والحميمية، شأنها شأن النصوص التقليدية، تختزن طاقتها في ذاتها، هذه الطاقة التي تعطي للعلاقات والنصوص مقومات الحياة والاستمرار. وهى طاقة لا يتم استهلاكها في حركة دائمة، وإنما في إشعاعها الداخلي والهادئ. أما في الفضاء الافتراضي، فإن العلاقات والعبارات متحركة وخاطفة، وهي المادة التي توفر الطاقة للحركة، ولا مجال للسكون، لأنه لا فرق بين البداية والنهاية، فعلامات الإعجاب أو الحب تعطى طاقتها وتفقدها بمجرد الضغط عليها، إنها طاقة عابرة لا تُختزن لا في العلاقات ولا في العبارات، وإنما فى حركة دائمة. فعملية تدوال الكلمات والعبارات والصور وتدويرها هي المادة اللازمة لإنتاج هذه الطاقة. وعلى الرغم من أن الكثير ممن يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي قد يصابون بالسأم أو الإجهاد الذهني أو النفسي وحتى الاحتراق، فيقرر البعضالخروج من دائرة الفضاء الافتراضي، إلا أن أعراض الإنسحاب ليست سهلة، وعادة ما يكون الخروج مؤقتا، والمسألة ليست مجرد اعتياد أو إدمان، ولكنها حياة تفرض شروطها، حياة لا تعرف السكون، حتى لو كانت حركتها بلا معنى.
إن طاقة الفضاء الإلكتروني لا تُختزن في مكان ما، إن ما يتم حفظه ليس الطاقة، وإنما المعلومات، تلك المادة/الرأسمال التي يتم حفظها في أرشيف لا نهائي نساهم في صنعه بمنتهى الدأب والحماس، وإذا كان هذا الأرشيف لمن يستثمره هو أرشيف ذاكرة، فإنه بالنسبة لمن يصنعه أرشيف نسيان.