خلق ليكون فنانا استعراضيا صاحب بطولة مطلقة ومبهرة بكل ما تعني الكلمة، تعلق قلبه بفن الرقص وكان الأمر جادا وملحا ومصيريا بالنسبة له ، فطرق كل الأبواب التي تؤهله لاتقان هذا الفن من خلال التدريبات الرياضية الشاقة والاشتراك في فرق رقص الهواة والمحترفين ولكن لم تطل مدة اشتراكه كعضو راقص في فرقة أو أكثر ، فقد قرر الانسحاب بكل ثقة ليكون فرقته الخاصة . كانت هذه هي لحظة النضوج والطموح والانطلاق لخلق كيان مبهج مصري جديد، أنه الفنان الراحل نجم الفنون الشعبية محمود رضا مؤسس فرقة رضا عام 1959.
علي رضا :
تأثر محمود بأخيه الأكبر علي رضا الذي كان يشارك في المسابقات التي تقام في حديقة جروبي في وسط البلد ، كان علي رضا في الثامنة عشر من عمره بينما محمود رضا كان في الثانية عشر ، وكانت هذه بذرة التناغم والشراكة بينهما الي آخر العمر ، فمع انضمام فريدة فهمي التي أصبحت زوجة علي اليهما.
وتعاون زوجة محمود رضا الثانية ( اليوغوسلافية ) في تصميم وتنفيذ الملابس أصبحت الفرقة ترتكز علي هذا الفريق المتعاون .
“هليوليدو” و” الاريا “
لكي يحافظ على رشاقته وقوته البدنية داوم علي ممارسة أنواع كثيرة من الرياضة مثل السباحة والجمباز ، وقد كانت السينما هي المعلم الأول الذي لجأ اليه كل من محمود وأخيه لملاحظة الأفلام الاستعراضية الأمريكية ، و قد ذهب محمود رضا الي مدرسة باليه أطفال ليتعلم مباديء رقص الباليه ولم يخجل من وجوده وسط الأطفال .
كان لاشتراك محمود في نادي ” هليوليدو” الذي كان يضم العديد من الجنسيات سببا في تكوينه فرقة استعراضية تضم خمس فتيات وخمس فتيان من أعضاء النادي . الفنان أسامة عباس كان من بين أعضاء تلك الفرقة .
في عام 1954 انضم إلى فرقة ” الاريا ” الأرجنتينية بقيادة ألفريدو ، وشارك في عروضها في القاهرة والاسكندرية وروما وباريس ، وحقق نجاحا باهرا في أوبريت ” يا عين يا ليل ” من اخراج زكي طليمات .
شيكابوم :
قررمحمود الانسحاب من الفرقة الأرجنتينية ليكون فرقته الخاصة ، وكان يؤرقه اختيار اسم مناسب للفرقة يكسب احترام الناس وتقديرهم ، فالرقص كان لايزال في تلك الفترة مرتبطا في أذهان الناس باثارة الغرائز ، ولم تكن الدولة ولا المجتمع تعطي الراقص حقه من الاحترام ، يقول محمود رضا في كتابه ” معبد الرقص ” : ” كانت أكبر عقبة تعترض تكوين فرقة للفنون الشعبية هي كلمة رقص ، فقد حوت هذه الكلمة من المعاني ما يكفي لفشل أي مشروع لتكوين فرقة راقصة تضم شبانا وشابات من أسر طيبة …أما يقال انه لاتقبل شهادة طبال أو زمار أو رقاص ؟ أليست النوادي الليلية والكباريهات هي المكان الوحيد الذي يقدم الرقص الي جمهور لا ينشد الا المتعة واللهو الرخيص ؟ … هل يمكن لأي عضو بفرقة راقصة أن يستخرج بطاقة شخصية ويكتب أمام الوظيفة كلمة راقص ؟ وهل يقبل شاب من أسرة محترمة أن يتقدم للزواج من راقصة ؟ ”
ذات يوم سال الفنان محمود رضا سائق تاكسي كيف سيكون رد فعله اذا أرادت ابنته أن تنضم لفرقة رقص ؟ فقال له السائق بكل ثقة : ” أدبحها طبعا ” ، مرة أخري سأل شخص يشغل منصبا كبيرا في الدولة عن عمل محمود رضا فقيل له أنه تخرج في كلية التجارة بجامعة القاهرة وشغل وظيفة حسابية في شركة شل ، لكنه ترك كل هذا ليكون فرقة راقصة ، فقال السائل : ” آه فهمت يعني بيشتغل شيكابوم . ” . من هذا المنطلق .. و بعد المشاورة والنقاش تم اختيار اسم ” فرقة رضا للفنون الشعبية ” .
أكبر دليل علي النجاح :
بدأت الفرقة بتقديم أول برنامج لها علي مسرح 26 يوليو المكشوف بحديقة الأزبكية بعد اكتمال عناصر الفرقة من راقصين وموسيقيين وأغان وملابس و ديكور . وبعد تدريبات استمرت عدة أشهر علي لوحات مقتبسة من الحياة مثل ” بياع العرقسوس ” و ” الناي السحري ” و خمس فدادين ” . كان العرض في شهر أغسطس وهومعروف بانه التوقيت المناسب للمصايف ، ومع ذلك امتلأت جميع المقاعد ، ولكن جميع الحاضرين كانوا رجالا ، فقد أتوا ليتبينوا اذا كان هذا العرضلائقا فيمكن أن تشاهده بناتهم وزوجاتهم وأطفالهم ، في تمام التاسعة والنصف رفع الستار .. وكان مولد فرقة رضا . فالتصفيق كان حادا مستمرا لكن ذلك لم يكن الدليل الحقيقي علي النجاح . ففي الأيام التالية كان كل رجل قد جاء في اليوم الأول يأتي مرة أخري مصطحبا زوجته أو ابنته أو بعض أطفاله وأصبح جو المسرح عائليا ، اذن لقد اكتسب الرقص الاحترام العائلي الذي كان يفتقده . وكان ذلك أكبر دليل علي النجاح .
نبين زين:
كان للموسيقار الكبير الراحل علي اسماعيل الفضل في بث روح الحياة للفرقة بموسيقاه الرائعة وخاصة عرض نبين زين الذي شاركت به الفرقة في مهرجان الشباب بموسكو وكان الجمهور يصفق علي الواحدة طوال العرض ، وفازت الفرقة بالمركز الثالث .
لعل من يشاهد استعراض نبين زين يتساءل كيف كان محمود رضا يؤدي هذه الحركات الصعبة المليئة بالقفزات والدوران بكل قوة وتوازن وجمال وثقة وفي تناغم تام مع شريكته في البطولة فريدة فهمي !
مصادر الالهام :
كان من الممكن أن يتم الاتفاق مع شعراء لتأليف أغاني للفرقة أو موسيقيين لتأليف مقطوعات موسيقية ترقص بمصاحبتها الفرقة ، ولكن محمود رضا فضل أن يشكل لجنة مكونة من خمسة أعضاء مهمتها زيارة جميع محافظات مصر لاستلهام أفكار تابلوهات ولمعرفة الملابس والتقاليد والفنون التي تميز كل محافظة .
كانت البداية داخل قطار الصعيد ، فالملهم الأول هو مفتش القطار الذي جاء يطلب التذاكر ولاحظوا أنه كان يدندن فتواصلوا معه وسجلوا له أغنية : من بعد ما كان عنبه في ايدي اتلاقاه .. اليوم حجروه عيني ما شايفاه .. الزول يعمل ايه مادام اللي حبه جافاه .. يبطلها المحبة م اللي حصل له كفاه
في قنا البحر بيضحك :
في قنا استرعي انتباههم مشاهد الطبيعة والصبايا الفلاحات في طريقهن ليملان البلاليص من النيل ولعل هذا المشهد هو الملهم لفكرة استعراض ” البحر بيضحك ليه ” ، وهو عبارة عن حوار بين الفلاحات وشيخ الغفر :
يا حامي دارنا .. يا شيخ غفرنا
ايه الحكاية .. تعالي شوف
بنات قمارة .. يادي الكسوف
ايه الحكاية انت وهي
دي مش حكاية دي قضية
خرجنا ساعة الصبحية .. أنا ولواحظ وبهية
ورحنا ع البحر بتاعنا .. وعملتوا ايه .. بس اسمعنا
خدنا القلل زي عادتنا .. والمية أول ما شافتنا
رفعت وطلعت في العالي .. والموج ضحك .. طب واني مالي
خليك هنا واعمل معروف .. واعرف لي أمر البحر وشوف
البحر والتيار والموج .. شافوا الحلاوة يا خفة يا ذوج
وسمع رنة خلاخيلكم .. قلبه انخبل من تحت لفوج
اما انت يا ام عيون ساهية .. والضحكة فوج خشمك داهية
دي نظرتك مدفع رشاش .. ودي ودت البحر في داهية
يابحر شوف جدامك مين .. لكل شيء حد وجوانين
يا تهدي موجك يا اعمل لك .. محضر تعدي علي الحلوين
عمال البناء :
وفي قنا أيضا يقول محمود رضا ” استوقفتنا ونحن في طريقنا الي الاستراحة أصوات رجالي هزتنا قوتها وصلابتها ، فسرنا كالمأخوذين في اتجاه مصدر الصوت .. عمال بناء يقومون بخلط الأسمنت بالرمل بالزلط ، يقف أمامهم رئيس العمال ويلقي تعليماته علي شكل أغنية :
شد حيلك .. أيوا يا ريس
ربنا معاكم .. أيوا يا ريس
همة شوية .. أيوا يا ريس
يا سيد .. أيوا يا ريس
سيد يا قناوي .. أيوا يا ريس
ويلمح رئيس العمال فتاة جميلة تمر بالقرب منهم فتنقلب تعليماته الي أغنية عاطفية يتخللها حنين للأهل لأنه كثيرا ما يتغرب هؤلاء العمال بحكم عملهم عن الأهل والبلدة ، ويردد العمال المقطع الأخير من كل شطر :
ما تحاسب يا فلايكي جدامك الهويس .. جدامك الهويس
جدامك سبع صبايا شايلين البلاليص
يا وابور الساعة اتناشر لأكتب لك ورجة
سلم لي ع الحبايب واخواتي الشججة
يا وابور الساعة اتناشر يا مسافر بلدي
تسلم لي علي احبابي حتي المولود جديد
يا بنية ان خيروكي في البلد تاخدي مين
ما اختار الا حبيبي وأنا شريكي مين
العصاية :
في معبد الكرنك بالأقصر شاهدوا رقصة العصاية ولعبة التحطيب ، وشاهدوا رسوما لرقصة العصاية منحوتة علي جدران المعابد وصادفتهم أيضا رقصة العصاية في أسوان وأسيوط وجرجا وسوهاج .
بعد التجوال في العديد من المحافظات قبلي وبحري تم تصميم عدة لوحات ، ألعاب الأطفال وهي مقتبسة من المنيا ، رقصة العصاية ( سوهاج ) ، الكفافة ( أسيوط ) النوبة ( أسوان ) ، الحجالة ( مرسي مطروح ) ، العتبة جزاز ( المنصورة ) .
التناغم :
ظل محمود رضا يعمل بكل طاقته في قيادة فرقة رضا التي كانت تجوب العالم وحققت نجاحات منقطعة النظير وحصلت علي جوائز عالمية عديدة ، من أهمها جائزة مهرجان يوغوسلافيا ” كوبير ” عام 1960 و وسام ” الكوكب الأردني من الملك حسين .
ولعل هذا النجاح يرجع للتناغم والتعاون بين مؤسسي الفرقة الثلاثة محمود رضا واخيه علي رضا و زوجته الفنانة فريدة فهمي .
خرج محمود رضا من دائرة الضوء بسبب احالته علي المعاش عند بلوغه الستين عام 1990 ، حيث أن الفرقة كانت قد تم تأميمها منذ عام 1961 ، فكان لابد من الخضوع للروتين الحكومي
الصخب الجميل :
ظل يمارس هوايته في التدريب خارج الفرقة وظلت خيوط الحب والتعلق بينه وبين فرقة رضا مستمرة الي أن وافته المنية . لكن محمود رضا كان ولازال رغم رحيله نجما ساطعا في سماء الفنون المصرية ، وأقول الفنون وليس الفن لأنه بالفعل قدم الفنون المصرية مجتمعة الي العالم علي طبق من فضة فالاستعراضات كانت تضم مجموعة من الفنون التي تكمل بعضها البعض فنجد الرقص والشعر والموسيقي والغناء والديكور والاضاءة ، والأهم من كل ذلك الأفكار التي تحلق في أذهان كل من ينظر الي خشبة المسرح التي تعج بالحركة والصخب الجميل بمجرد أن يرفع الستار .