عقد المركز المصرى للدراسات الاقتصادية، مساء اليوم أمس ، الندوة الخامسة على الإنترنت بعنوان: “معضلة سد النهضة” وتم أيضا بثها مباشرة على صفحة المركز على موقع التواصل الإجتماعى فيس بوك لأول مرة، بحضور نخبة كبيرة من الخبراء والمتخصصين، بهدف القيام بعصف ذهنى متكامل الأركان فنى واقتصادى وقانونى وسياسى، لما يجب أن يكون عليه التوجه المسقبلى لمصر في المفاوضات، لكى تحتفظ بحقها في شريان الحياة، مع احترام حقوق الآخرين في ظل المرحلة التفاوضية الحالية والسيناريوهات الممكنة، وما يجب أن تقوم به مصر والدول الأفريقية بشكل عام ، ودول حوض النيل بشكل خاص، لإستقرار العلاقات وتحقيق التنمية المستدامة للقارة.
وقال محمد قاسم الأمين العام للمركز المصرى للدراسات الاقتصادى ورئيس الندوة، إن مصر وصلت مرحلة كبيرة من الفقر المائى، وهو ما يزيد من أهمية تأمين مواردنا المائية، مشيرًا إلى أن المناقشات خلال الندوة تسعى لطرح مجموعة من الأسئلة الهامة والإجابة عنها، سواء حول موقف الإتفاقيات الدولية حول مياه النيل، ودور إعلان المبادئ الذى تم توقيعه عام 2015، وهل يعد تدخل الإتحاد الأفريقي مؤخرًا مفيدًا أم ضارًا لمصر؟ وهل هناك حلول طويلة الأجل لمشكلة فقر المياه في مصر؟ وما هو تقييم المشاركين لدور مجلس الأمن في المشكلة؟
التعنت الأثيوبى
من جانبه أوضح السفير عزت سعد مدير المجلس المصرى للشئون الخارجية، إن هناك 7 آلاف مليار متر مكعب ميار أمطار تهطل على النيل سنوًيا، يسقط منها 920 مليار متر مكعب منها على دولة أثيوبيا، وهو ما يعنى أن أثيوبيا ليس لديها مشكلة مياه.
وأضاف “سعد” إن استراتيجية أثيوبيا منذ الأزل هو التحكم بشكل كامل في مياه النيل، وهو ما يعلمه صانع القرار جيدًا، لافتاً إلى ن مصر استثمرت كثيرًا في بناء علاقات تجارية واقتصادية مع أثيوبيا خلال العقد الأول من هذا القرن ، لدعم الثقة بين البلدين، ولكن شهدت المفاوضات في قضية سد النهضة تعثرًا نتيجة التعنت الأثيوبى ، ولكن كان هناك مشروع اتفاق متكامل نتج عن مفاوضات واشنطن يلبى 80% من مطالب مصر، رغم أن أثيوبيا لم تحضر الإجتماع الأخير.
وأشار السفير”سعد” إلى أن اتفاق إعلان المبادئ الذى وقعته مصر وأثيوبيا والسودان عام 2015 لم يتضمن آلية قانونية لتسوية النزاعات، موضحًا أن الظروف التاريخية التي مرت بها مصر خلال تلك الفترة تسببت في توقيع إعلان غير ملزم لأحد، وهو ما انتهى الآن إلى لجوء مصر لمجلس الأمن الدولى لإحاطته بتطورات المفاوضات التى استمرت 10 سنوات، مطالباً بضرورة إقناع أثيوبيا بعدم اتخاذ أى إجراءات أحادية حتى لا يضر بالأطراف الأخرى ، وأعرب السفير” سعد “عن تفاؤله بالتوصل إلحل بناءًا على ما تم إنجازه في جولة مفاوضات واشنطن بمشاركة الأثيوبيين.
اتفاقية ملزمة وقعها امبراطور أثيوبيا
من جانبه قال الدكتور محمد سامح عمرو رئيس قسم القانون الدولى العام بكلية الحقوق بجامعة القاهرة، إن هناك العديد من الإتفاقيات الدولية المتعلقة بمياه النيل ولكن إثيوبيا ليست طرفًا فيها جميعًا أو محل نظر في القضية ، مثل اتفاقيتى 1929، و1959 والتي لم تكن أثيوبيا طرفًا فيها، ولكن تحكمنا في هذه القضية اتفاقية عام 1902 وهى اتفاقية ملزمة وقعها امبراطور أثيوبيا في ذلك الوقت، والحديث عن توقيعها في الحقبة الإستعمارية ليس له أي أساس من الصحة ، كما يوجد أيضًا بروتوكولاً تم توقيعه بين مصر وأثيوبيا عام 1993 يتناول أوجه التعاون بين البلدين ومنها نهر النيل، ولكن لم يدخل حيز النفاذ.
وأوضح “عمرو” أن اتفاقية عام 1902 تنص على أنه لا يجوز لأثيوبيا إقامة مشروعات على نهر النيل بدون موافقة مصر، ولكن للأسف لا تنص أي من الإتفاقيات التي سبق توقيعها على آلية لفض المنازعات، وهو السبب الرئيسى لإصرار مصر على وجود آلية لفض المنازعات في المفاوضات الحالية ، وهو مطلب أساسى لمصر وتشاركها في ذلك السودان مؤكداً أن أثيوبيا لا ترغب في الوصول إلى اتفاق وليس لديها رغبة في ذلك ولكنها تروج لعكس ذلك دوليًا، وتعتبر أن السد مبنى بأموالها وعلى أرضها وتروج لنظرية مهجورة في القانون الدولى وأنها تتمتع بالسيادة على النيل الأزرق.
وقال الدكتور محمد سامح عمرو إن أثيوبيا تحاول فرض الأمر الواقع، وهو ما سعت مصر لتداركه بتوقيع اتفاق إعلان المبادئ عام 2015، وتنص المادة 5 منه على عدم ملء أثيوبيا للسد إلا بعد التوصل لإتفاق، كما نصت على التعاون والتوزيع العادل والمنصف، وعدم الإضرار بدول المصب، ولكن حتى الآن لم تحترم أثيوبيا هذا الإعلان، ولكنها حاولت من خلاله الوصول إلى إقرار شرعى لبناء السد للحصول على تمويل ودعم فنى من الشركات الدولية، لافتا إلى أن ظروف إبرام الإعلان اضطرتنا لقبول الشروط بإعتباره أساس يتم البناء عليه، ومنذ هذا الوقت وأثيوبيا ماضية في البناء، وما يساعدها على ذلك عدم وجود آلية لفض المنازعات، موضحا أن مفاوضات واشنطن كان لها هدفاً أساسياً وهو وجود وساطة دولية للبنك الدولى والولايات المتحدة بإعتبارهم شاهدًا دوليًا بعد أن تم إرهاقنا في التفاوض المباشر، وكانت أثيوبيا شريكاً في هذه المفاوضات لكنها لم تحضر الجلسة الأخيرة، لأنها لا ترغب في التوصل لإتفاق، ومن المفترض أن تبدأ في ملء السد أول يوليو الجارى دون التوصل لإتفاق، وهو ما نتج عنه إرسال مصر خطاب لجميع الدول الأعضاء بمجلس الأمن الدولى لإخطارهم بوجود مشكلة محتملة بين الدولتين، وبدأ تحرك آخر لعودة المفاوضات في مايو الماضى، وطلبت مصر وجود مراقبين من الإتحاد الأوروبى والإتحاد الأفريقي والولايات المتحدة، ورلكن رفضت أثيوبيا الطرح المصرى بالبناء على ما توصلت إليه مفاوضات واشنطن، ورفضت أيضا طرحاً آخر تقدمت به السودان، ثم تقدمت أثيوبيا بطرح قبل أسبوعين يتيح لها تعديل الإتفاقية، ويرفض أي آلية لفض المنازعات ويتيح لها مراجعة الإتفاق بعد 5 سنوات وإذا لم يتم التوصل لإتفاق يتم إلغائه ، وهو ما يعنى أن يكون الإتفاق مرهونا بإرادة أثيوبيا المنفردة.
وشرح “عمرو” أهم نقاط الخلاف المتمثلة في فترات ملء خزان السد وتشغيله ومراعاة فترات الجفاف، لافتاً إلى أن أثيوبيا لا تفرق بين الجفاف الطبيعى والجفاف الإصطناعى، بما يعنى أن في حالة بناء سدود أخرى خلف سد النهضة سيؤدى ذلك إلى خفض كميات المياه التي تصل إلى مصر بشكل كبير وسيمكنها من التحكم في تدفق المياه لبحيرة السد، وهو ما يستند عليه الطرحين المصرى والسودانى بأن يكون بناء السدود خلف هذا السد خاضعًا للمعايير الدولية، واصفًا المعايير التي تضعها أثيوبيا بالـ”مقلقة” لكل من مصر والسودان .. ونتج عن هذه الخطوات، لجوء مصر إلى مجلس الأمن بمذكرة شاملة لحقوق مصر وافية تضمنت ثلاث مطالب أساسية هي : الإلتزام بأحكام القانون الدولى، والتوصل لإتفاق عادل، والتزام أثيوبيا بعدم الملء قبل التوصل لإتفاق، أي أن إخلال لأثيوبيا بهذه الحقوق يعرض المنطقة للإضرار بالسلم والأمن الدوليين، ولأن مطلب مصر شرعى تم عقد جلسة الأثنين الماضى، وفى المقابل حاولت أثيوبيا تفادى مجلس الأمن باللجوء للإتحاد الأفريقي.
وعلق الدكتور محمد سامح عمرو على جلسة مجلس الأمن ، مشيرًا إلى أن غالبية الدول الأعضاء في المجلس وفى مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية أكدت على ضرورة عدم اتخاذ موقف فردى، وهو مؤشر هام حول توجه الدول الأعضاء بالمجلس، لافتاً إلى أنه في حالة عدم وفاء أثيوبيا بوعدها للوصول إلى اتفاق ، فعلى مصر العودة إلى مجلس الأمن، وتحمله مسئوليته في التوصل لإجراء معين فيما يخص ملء وتشغيل السد .. وطالب الدكتور “عمرو” بعدم رفع سقف التوقعات، ولكن من المهم استمرار العرض على مجلس الأمن ومواصلة الضغط ، حتى تكون هناك خطوة إذا لم يتم التوصل لاتفاق في جولة المفاوضات القادمة.
فجوة مائية قدرها 22 مليار متر مكعب
من جانبه أوضح الدكتور نادر نور الدين أستاذ الأراضى والمياه بكلية الزراعة بجامعة القاهرة، أن عدد سكان مصر حالياً 104 مليون نسمة، وهو ما يعنى احتياجنا لنحو 104 مليار متر مكعب من المياه سنويًا ، للوفاء باحتياجاتنا المائية والوقوف عند خط الفقر المائى والمقدر بـ1000 متر مكعب للفرد سنويًا، لافتًا إلى أن الموارد المائية العذبة المتاحة لمصر سنويًا تقدر بنحو 62 مليار متر مكعب، منها 55 مليار من حصة مياه النيل السنوية، والباقى من مياه الأمطار والمياه الجوفية، وهو ما يعنى وجود فجوة مائية تقدر بـ42 مليار متر مكعب سنويًا.
وتابع الدكتور نادر إن مصر تحاول سد الفجوة المائية من خلال إعادة استغلال 20 مليار متر مكعب من مياه الصرف الصحى والزراعى والصناعى، ونحن الدولة الوحيدة التي تعيد استغلال مياه المخلفات بين دول حوض النيل، ومع ذلك لا نزال نعانى من فجوة مائية قدرها 22 مليار متر مكعب سنويًا، وهو ما ينتج عنه أننا نستورد 62% من غذائنا من الخارج لعدم وجود مياه كافية للزراعة.
وأشار نور الدين إلى أن سعة خزان سد النهضة تقدر بنحو 75 مليار متر مكعب من المياه، في حين أن سعة النيل الأزرق الذى يتم بناء السد عليه تصل إلى 49 مليار متر مكعب، موضحًا أن جميع الإتفاقيات السابقة ليس لها علاقة لأن السد سيتم بناؤه على رافد واحد هو النيل الأزرق، وليس هناك حديث عن حقوق تاريخية لمصر في مياه النيل ولكنها حقوقا مكتسبة، موضحًا أن الخلاف حول كمية المياه التي ستصل مصر بعد السد.
التفاوض الجماعى لدول حوض النيل
من ناحية أخرى طرح الدكتور إبراهيم نوار الخبير الاقتصادى، فكرة تتعلق بالتوجه نحو التفاوض الجماعى لدول حوض النيل من خلال تعظيم الإستفادة من موارد نهر النيل، من منظور إقليمى متعدد الأطراف والمستويات، حتى لا تتحول منطقة حوض النيل إلى منطقة نزاع مستدام، لافتاً إلى أن المفاوضات بوضعها الحالي لن تصل إلى نتيجة.
وطالب الدكتور “نوار” بوضع نظام مشترك لتشغيل السدود في كل دول حوض النيل من هذا المنظور لإحداث التنمية المشتركة، ودعوة مصر لمؤتمر دولى وتغيير صيغة المفاوضات، من خلال تجميع كل دول حوض المنبع والمصب والاتحاد الأفريقي والإتحاد الأوروبى ومجلس الأمن، لعمل نظام تنمية متكاملة في المنطقة وهو ما يحتاج وقتًا طويلًا، وبالتوازى يتم عمل اتفاق خاص ملزم قانونًا لملء خزان سد النهضة، ويكون هناك اتفاقًا ممتدًا للتشغيل، لحين التوصل لمنظومة التشغيل المستقبلية للسدود.
تحقيق التنمية المشتركة
من جانبها أكدت الدكتورة عبلة عبد اللطيف المدير التنفيذي ومدير البحوث بالمركز، على أن المناقشات خلال الندوة أجمعت على التعنت الأثيوبى في القضية وصعوبة الوضع الراهن، ولكن هناك أهمية للنظر في الفكرة التي طرحها الدكتور إبراهيم نوار والتي تطرح التعاون الإقليمى بين دول حوض النيل من منظور تحقيق التنمية المشتركة، وهو أمر إذا تم تبنيه على المدى الطويل، ستختلف معالجتنا للقضية وطريقة التعامل مع المشكلة على المدى القصير، من خلال وجود أرضية لتحقيق المصالح المشتركة لجميع دول حوض النيل.