عقد المركز المصرى للدراسات الاقتصادية، ندوته الرابعة على الإنترنت، بعنوان “مستقبل مؤسسات بريتون وودز في عصر ما بعد كوفيد – 19″، بحضور واسع لنخبة مميزة من خبراء المؤسسات الدولية، والاقتصاديين .
فى البداية أوضح عمر مهنا رئيس المركز المصرى للدراسات الاقتصادية، أن اتفاقية بريتون وودز التي نتجت عن مؤتمر حضره ممثلو 44 دولة عام 1944 في نيوهامشاير بالولايات المتحدة الأمريكية، استهدفت وضع الخطط من أجل استقرار النظام المالي العالمي وتشجيع إنماء التجارة بعد الحرب العالمية الثانية، ونتج عنها إنشاء منظمتين دوليتين هما : صندوق النقد الدولى، والبنك الدولى للإنشاء والتعمير، ثم إنشاء منظمة التجارة العالمية في مرحلة لاحقة ، وشهدت هذه المؤسسات تطورات كبيرة على مدار السنوات الماضية، ، منوهاً أن هذه الندوة تهدف إلى مناقشة “هل تستمر هذه المؤسسات الدولية على ما كانت عليه بعد أزمة كوفيد – 19 أم سيتغير الأمر؟
تخفيف الأعباء المالية للدول
وقال الدكتور حازم الببلاوى المدير التنفيذي لمصر بصندوق النقد الدولى ورئيس وزراء مصر الأسبق، إن أهم الدروس المستفادة من الأزمة الحالية، تتمثل في التأكيد على أننا نعيش في عالم يتأثر ببعضه البعض، ويتجه إلى مزيد من الترابط والتداخل لمواجهة مشاكل هى بطبيعتها عالمية ، وتحتاج لسياسات وحلول عالمية ، وهو ما أبرزته أزمة كوفيد – 19 والتي لا تقتصر على كونها مجرد مرضاً ، وإنما هي ظاهرة عالمية تحتاج لمواجهة عالمية، وهو ما ينطبق أيضًا على المشكلات العالمية المتعلقة بتغيرات المناخ، والإنفجار السكانى.
وأكد “الببلاوى” على أن مؤسسات صندوق النقد والبنك الدوليين هما الأقدر على مواجهة هذه المخاطر العالمية، مشيرًا إلى أن الإحتياجات المالية لمواجهة أزمة كورونا يصعب توفيرها من أسواق مالية أو دول أخرى، لأن الجميع يواجه نفس المشكلة، وبالتالي فإن المؤسسات المالية العالمية هي الوحيدة التي يمكنها إقراض الدول خلال هذه الأزمة، حيث لجأ الصندوق إلى استخدام مصادره الاستثنائية لتوفير 100 مليار دولار لمواجهة الأزمة، وحتى الآن تلقى الصندوق طلبات من 100 دولة للحصول على قروض لمواجهة الأزمة ودعم الإستقرار المالى، حصل منها 60 دولة على قروض بالفعل، كما وافق مجلس إدارة الصندوق على تخفيف الأعباء المالية على 27 دولة، بالإضافة إلى ذلك طالب الصندوق من الدول دائمي العضوية بتخفيف عبء المديونية على الدول الفقيرة، واستجاب حتى الآن 20 دولة، إلى جانب الموافقة على توفير تسهيلات قصيرة الأجل للدول.
ازدياد الفجوة التمويلية
من جانبه قال السفير راجى الإتربى المدير التنفيذي المناوب لمصر والدول العربية بالبنك الدولى، إن الأزمة الحالية لم تشهدها البشرية من قبل خلال 100 عام ، في حدتها وتداعياتها التي لم يكن يتخيلها أحد، وهو ما يراه دافعًا لتطوير مؤسسات بريتون وودز ، لافتًا إلى أن البنك الدولى شهد إصلاحات كثيرة منذ إنشائه في أربعينات القرن الماضى ، وشهد أكبر عملية إصلاح عام 2018، وكان للدول النامية الريادة في هذا التطوير والإصلاح، وشهدت تلك السنة أكبر زيادة في رأس مال البنك بعد أن أصبح بنكين في الصين هما بنك التنمية الصينى، وبنك الإستيراد والتصدير الصينى، يقدمان تمويلات دولية تفوق حجم ما يقدمه البنك الدولى في ذلك الوقت.
وأشار “الإتربى” إلى أن الاقتصاد الدولى هش ويُعانى من أزمة مالية وتغيرات مناخية، وأوبئة ، وازدياد في الفجوة التمويلية ، مقدرًا حجم فجوة التمويل الدولى قبل وباء كورونا بقيمة تتراوح ما بين 15 – 20 تريليون دولار، وهناك حاجة لضخ نحو 2.5 تريليون دولار سنويا ً في عمليات التنمية حتى عام 2030، ولفت إلى تخصيص البنك تمويل بقيمة 160 مليار دولار لمساعدة الدولة على مواجهة تداعيات وباء كورونا، وقد يرتفع المبلغ إلى ثلث تريليون دولار حتى يوليو 2023. وقال إن هناك تركيزًا على دعم القطاع الخاص بإعتباره الوحيد القادر على سد الفجوة التمويلية، والتركيز على الدول منخفضة الدخل ومنها مصر، وضخ استثمارات في رأس المال البشرى.
وتوقع “الإتربى” أن يسود العالم بيئة سياسية واقتصادية متوترة جدًا، جراء الآثار الاقتصادية والإجتماعية لوباء كورونا التي ستمتد لفترة، بالإضافة إلى تزايد الصدامات التجارية والإنغلاق، لافتاً إلى أن الدول النامية ستتعرض لضغط هائل تحت وطأة ديون تراكمية ستقيد حركتها المالية والنقدية، ولأول مرة من المتوقع زيادة معدلات الفقر العالمية وهبوط 70 – 100 مليون شخص تحت خط الفقر المدقع، وزيادة اللامساواة، وسيدفع الاقتصاد الدولى الكثير وسيستخدم الكثير من فوائده في التصدي للوباء، وهو ما سيجعله بيئة هشة أمام أي أزمات إذا ما تجددت أزمة الطاقة أو حدثت أزمة غذاء.
وأعرب “الإتربى” عن دهشته من وجود اختلالات عجيبة في العديد من الدول بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية، حيث ينفصل أداء أسواق المال تمامًا عن الواقع وهو ما سيخضع لإعادة نظر ، موكداً أن السيناريو المتوقع بعد إنتهاء أزمة كوفيد 19، هو تزايد تطوير التوجه الإستراتيجى والفكر ومنهجية عمل البنك الدولى، ولكن ترجع مسألة كيفية وآليات التطوير إلى إرادة الدول ذات المساهمة الأكبر في رأسمال البنك، بجانب مساهمة الدول النامية في فرض إرادة التطوير، داعياً إلى تركيز توجه العمل مع الدول النامية على تعزيز الاستثمار في رأس المال البشرى وضخ تمويل في أجندة التحول الرقمى، ودعم البنية التحتية الرقمية، ودعم الكفاءة المؤسسية للدول وإفساح المجال للقطاع الخاص ليكون اللاعب الرئيسى، مؤكدًا أن البنك الدولى ليس فقط مجرد بنك تمويل ولكنه أيضًا بنك معرفة بما يملكه من إمكانات.
ودعا الإتربى لإعادة صياغة أهداف التنمية المستدامة 2030، لتكون أهداف قابلة للتحقيق، وتعزيز استخدام تمويل التنمية لتحقيق الإستقرار وتجنب النزاعات وتشغيل طاقات الإنتاج وزيادة الثقة بين المواطنين والحكومات، وهو ما يتطلب شهية أكبر للمخاطرة خلال الفترة المقبلة ، منوهاً أن الديون ستمثل أزمة كبيرة تؤثر على الدول النامية والمتقدمة على حد سواء، وهو ما يتطلب وجود إطار دولى لإدارة الديون الدولية، وهو ما يمكن أن يلعب فيه البنك والصندوق دورًا كبيرًا.
مطلوب تشريعات دولية للاقتصاد الرقمى
من جانبه قال عبد الحميد ممدوح المدير السابق لقطاع التجارة في الخدمات والاستثمار بمنظمة التجارة الدولية، إن التجارة العالمية تواجه صعوبات كبيرة منذ الأزمة المالية العالمية عام 2008 والتي نتج عنها أزمة اقتصادية، لم تكن بنفس حدة الأزمة الحالية – ترتب عليها تراجع في عملية تحرير التجارة وإدارة العولمة بطريقة حكيمة ، وتعمقت الأزمة بإنتشار كوفيد 19 الذى أثر على العجلة الاقتصادية بجانبيها ” الإنتاج والإستهلاك “.
وأوضح “ممدوح” أن الأزمة الحالية تؤثر على التجارة في مفهومها الجديد، والتي لا تقتصر فقط على تجارة السلع، ولكن أيضا تجارة الخدمات التي تمثل 50% من حجم التجارة العالمية ، وذلك وفقًا لإحصائيات منظمة التجارة العالمية ، لافتًا إلى أن أزمة كورونا تتعمق كلما طالت مدتها، في الوقت الذى لا يوجد تحديد للمدى الزمنى التي يمكن أن تستغرقه ، مشيراً إلى أحدث توقعات المنظمة التي تشير إلى تراجع 32% في حجم التجارة العالمية في 2020، كما سيحدث تراكم كبير للدين العام سيؤثر على الأداء الاقتصادى لكنه غير محدد الحجم، وفى الوقت نفسه سيكون هناك حزم من الدعم الحكومى للصناعات المختلفة والصادرات تتفاوت في أحجامها وشروطها، وهو ما سيترتب عليه مشاكل تنافسية بين الدول نتيجة قدرة أكبر لبعض الدول على دعم منتجيها، وستكون الدول النامية هي الأكثر تضررًا.
وتوقع “ممدوح” تغييرًا في أسلوب عمل المنظمة والتعجيل بالاقتصاد الرقمى، فما كان يحدث في الخمس سنوات الماضية، سيحدث في شهور قليلة، وستتجه التجارة لكل ما هو رقمى سواء التجارة السلعية أو تجارة الخدمات، وهو التوجه الذى بدأ بالفعل قبل أزمة “كوفيد – 19” وزاد نتيجة الأزمة، متوقعًا إعادة هيكلة سلاسل الإنتاج في القطاعات المتعلقة بالرعاية الصحية والدواء والمستلزمات الطبية التي ستتجه نحو المحلية ، مشيراً أن منظمة التجارة العالمية تعانى من حالات مرضية مُسبقة من قبل أزمة كوفيد- 19 تجعل التعامل معها أكثر صعوبة، لافتًا إلى أن أكثر المشاكل التي تواجهها المنظمة هي الإنغلاق، حيث عانت على مدار الـ12 عام الماضية من الإخفاق في القيادة والريادة في أجندة المنظمة، وتعقد القضايا التجارية وصعوبة التعامل مع المستجدات كالتجارة الإليكترونية عبر التشريعات الحالية، وعدم وضوح الرؤية الدولية حول الدور الذى تلعبه التجارة الدولية في عملية التنمية الاقتصادية، وشدد الخبير الدولى على حاجة منظمة التجارة العالمية للإصلاح، ولكن يُكمن الخلاف حول طبيعة الإصلاح، وما هي أوجه الإصلاح التى يجب التركيز عليها، لافتا إلى أن نقطة البداية هي إصلاح الوظيفة التفاوضية من خلال تجميع الدول الأعضاء حول هدف مشترك ينبع من الإيمان بدور التجارة الدولية في إحداث التنمية الاقتصادية، والتفريق بين ما هو طويل الأجل أو قصير الأجل من قيود تجارية.
طرح أسئلة حول مستقبل المؤسسات الدولية
من جانبها قالت الدكتورة عبلة عبد اللطيف المدير التنفيذي ومدير البحوث بالمركز المصرى للدراسات الاقتصادية، إن اختيار موضوع الندوة يأتى لطرح أسئلة مباشرة حول مستقبل المؤسسات الدولية الثلاثة، والتي يشكك البعض في مستقبلها، حتى من قبل حدوث أزمة كوفيد 19، حيث شهدت الساحة العالمية تغييرات كبيرة وتعاظم الدور الأمريكى وتغير في موازين القوى الدولية، وهو ما يطرح السؤال الأهم : ما مستقبل هذه المؤسسات في عصر ما بعد كوفيد؟ وهل سيتمكنون من لعب نفس الدور وتظل موازين القوى كما هي؟
وأضافت “عبد اللطيف” إنه إذا تحدثنا عن تغييرات كبيرة في عمل المؤسسات الدولية، بنفس موازين القوى الحالية، فلن يحدث التغيير، متسائلة: “هل من الصحى عالميًا أن تظل الولايات المتحدة الأمريكية تلعب دور البنك المركزى عالميًا من خلال سيطرة الدولار؟” ، معلقة على مسألة تأكيد المتحدثين أهمية الدور الذى يلعبه القطاع الخاص في المشهد، حيث يغيب دوره ودور المجتمع المدنى في عمل المنظمات الدولية والتي يقتصر تفاوضها فقط مع الحكومات.
ودعت “عبد اللطيف” إلى عدم تأجيل سداد الديون على الدول النامية، ولكن إلغائها بشرط عمل إصلاح مؤسسى بهذه الدول.
من جانبه قال عمرو موسى وزير خارجية مصر الأسبق وأمين عام جامعة الدول العربية سابقاً، إن منظمات بريتون وودز أدت أداء جيدًا خلال الفترة الماضية بشكل أفضل من المؤسسات الدولية متعددة الأطراف الأخرى كالأمم المتحدة.
وطالب “موسى” بأهمية إعفاء الدول النامية من الديون، بشرط عدم حرمانها من الإقتراض لحفظ مصالحها، داعيًا لتمثيل القطاع الخاص في مفاوضات الغرف المغلقة، والمقصود به الشركات الكبرى، وطالب بتركيز خطط التنمية الدولية على ثلاثة بنود رئيسة هي الأوبئة، والتغيرات المناخية، والإنفجار السكانى، على أن يتم التخلي عن حق الفيتو عند مناقشة القضيتين الأوليين من خلال آلية تفاوضية يتم الإتفاق عليها.
وأشار الدكتور محمود محيى الدين الخبير الاقتصادى الدولى، إلى أهمية أهداف التنمية المستدامة التي جاءت سابقة لزمنها بالفعل، ولكن صاحبها سوء التطبيق والتفعيل والتنفيذ، خاصة وأن الوضع الدولى حاليًا لا يسمح بالتفاوض على أهداف أكثر أهمية مما تم الإتفاق عليه عام 2015، لافتاً إلى أن تهاون الدول في التعامل مع الصحة – وهى الهدف الثالث من أهداف التنمية المستدامة – تسبب في تفشى الأوبئة.
من جانبه أشار ميرزا حسن عميد مجلس المديرين التنفيذيين والمدير التنفيذى بالبنك الدولى، أن أكبر تحدى يواجه عملية الإصلاح هو حوكمة المؤسسات، وهو مطلب أساسى لتعديل الخلل في تصويت الدول النامية، وبدون هذا الإصلاح سيكون هناك تحدياً كبيرًا أمام عمل المؤسسات الدولية، لافتاً إلى أن البنك الدولى يرفع شعار “تنمية أكثر شمولية وإصلاح القطاع الخاص”، والتركيز على الدول الأكثر احتياجًا للتنمية، والتركيز على الاستثمار في الثورة البشرية ” التعليم والصحة “، والمعرفة الرقمية.
وقد شهدت الندوة إقبالا ًكثيفا على الحضور، ومن المقرر أن يتم بث تسجيلاً كاملاً لما دار بالندوة على صفحة المركز المصرى للدراسات الاقتصادية على موقع التواصل الإجتماعى فيس بوك لإتاحتها لأكبر عدد ممكن لم يتمكنوا من الحضور بسبب محدودية العدد المتاح على التطبيق الإليكترونى الذى شهد انعقاد الندوة.