فى 14 مايو 2020 رحل بشيخوخة صالحة وحياة نسكية صادقة الأنبا رويس الأسقف العام (1939 – 2020)، والذى له الكثير من الذكريات المحببة فى نفوس أبناء الكنيسة المخلصين.
ففى شهر ديسمبر من عام 1969 أسترعى أنتباه جيلنا – الذى وُلد فى فترة الخمسينيات من القرن العشرين – سلوك أحد رهبان البرية المصرية وهو الأب متياس السريانى الذى رفض بأصرار اختيار البابا كيرلس السادس (1959 – 1971) البطريرك 116، له ليكون أسقفاً على إيبارشية دمياط وقال كلمته المشهورة عندما لاحقته الصحف ووسائل الإعلام المختلف: (نفسى التى أعرف كل أسرارها .. والتى أعرف طريقة تقويمها .. وإذا لمتها لا تحزن منى .. نفسى هذه أتعبتنى فى طريق الخلاص .. فكم بالحرى الآف النفوس التى يمكن أن أكون مسئولاً عنها؟). هذا المسلك الرائع أثار أنتباهنا نحن الشباب – وكنا فى ذلك الوقت طلاب بالمرحلة الجامعية –فأعاد إلى ذاكرتنا القصص الرائعة التى كنا نطالعها فى كتب تاريخ الكنيسة، عندما كانوا يقيدون رهبان الصحراء حتى يرغموهم على قبول الأسقفية أو البطريركية. هؤلاء أرضوا الله فى حياتهم – فبارك الله حياتهم وأغدق نعمه الوفيرة على الكنيسة وعلى الوطن أيضاً، فعاشت الكنيسة فى سلام والوطن فى أستقرار.
قصة الراهب الذى قال “لا”
بدأت القصة عندما تنيح الأنبا تيموثاؤس مطران كرسى الدقهلية عام 1969. ولما كانت إيبارشية الدقهلية مترامية الأطراف ففكر البابا كيرلس السادس – بغرض التركيز فى الخدمة والأهتمام بالعمل الرعوى – أن يقّسم الإيبارشية إلى أثنتين أحدهما إيبارشية المنصورة والأخرى إيبارشية دمياط. من كثرة محبته فى سكرتيره الأب الراهب القمص متياس السريانى فقد أختاره ليكون أسقفاً على دمياط، فما كان من هذا الراهب الصادق مع نفسه إلا أن ذهب لمقابلة البابا كيرلس وطلب منه إعفاءه من هذا المنصب على أساس أنه يريد تهيئة نفسه لحياة النسك والتعبد فى البرية. وهنا أنا أطالع الصفحة الأولى من جريدة الأهرام الصادر فى يوم الخميس 18 ديسمبر 1969. ولما وجد من البابا إصراراً على رسامته، ترك القاهرة وهرب إلى الصحراء ليحول دون إتمام الرسامة التى دعا البابا بالفعل مطارنة الكنيسة القبطية وأساقفتها لحضور أحتفالها بالكنيسة المرقسية. فقرر البابا تأجيل الرسامة حتى يمكن العثور على الأب الراهب الذى هرب. هذا الأب كان يحمل اسم “مختار فهمى المنياوى” وكان من ميت غمر وقد تخرج فى كلية التجارة سنة 1959 جامعة القاهرة، وكان من الشباب الذى أقام ببيت الشمامسة بالجيزة تحت أشراف الأب والكاهن الورع القمص صليب سوريال ومعه رئيس الشمامسة رمسيس نجيب، والتحق موظفاً بديوان المحاسبات. وبعد فترة ذهب للرهبنة بصدق – وهنا أقول بصدق لأنه فى رهبنته كان صادقاً مع نفسه وعاش طوال حياته صادقاً مع نفسه، له صورة التقوى ويحيا بتقوى حقيقية بدون تزييف أو أصطناع –أقول ترهبن بدير السريان عام 1963 وأخذ اسم الراهب متياس السريانى خلفاً لراهب كان بهذا الاسم لكنه سيم أسقفاً على الجيزة باسم الأنبا دوماديوس. بعد أن قام البابا كيرلس السادس فى 30 سبتمبر 1962 برسامة الأب أنطونيوس السريانى أسقفاً على المعاهد الدينية والتربية الكنسية باسم الأنبا شنوده (بعد ذلك صار الأنبا شنوده الثالث فى 14 نوفمبر 1971)، قام الأنبا شنوده بإستدعاء الأب الراهب متياس السريانى ليكون مشرفاً روحياً بالكلية الأكليريكية (الكلية اللاهوتية) بالقاهرة، ثم أختاره البابا كيرلس السادس سكرتيراً خاصاً له وأميناً لمكتبة البطريركية.
بعدد جريدة الأهرام الصادر صباح الجمعة 19 ديسمبر 1969 نطالع الآتى: ظهر أن الراهب المختفى، القمص متياس السريانى، قد غادر القاهرة إلى دير السريان الذى ترهب فيه، حيث يقضى فترة للتعبد، بعد أن رأى إصرار البابا كيرلس السادس على رسامته أسقفاً لإيبارشية دمياط، بعد أن كان سكرتيراً خاصاً له.
وكان البابا قد أوفد بعثة من ثلاثة أساقفة للبحث عن الراهب المختفى، وقد أتجهوا فعلاً إلى وادى النطرون. وفى الساعة التاسعة من مساءالخميس 18 ديسمبر 1969 أتصل الأنبا ثاؤفيلس أسقف ورئيس دير السريان، ببطريركية الأقباط الأرثوذكس فى القاهرة، وأبلغها تليفونياً، بأن الراهب قد أتجه فور مغادرته القاهرة إلى الدير فى وادى النطرون، حيث يعتكف الآن.
بعدد السبت 20 ديسمبر 1969 نشرت جريدة الأهرام التالى: كان الراهب قد وصل إلى الدير قبيل منتصف أمس الأول (الأربعاء) وتقابل مع زملائه الرهبان حيث روى لهم قصة عزوفه عن قبول منصب أسقف دمياط، ثم قصد وحده إلى صومعته (قلايته) بعد صلاة نصف الليل. وفى الصباح وصل الوفد الذى أرسله البابا كيرلس السادس للبحث عن الراهب وإعادته، والمكون من: الأنبا دوماديوس (أسقف الجيزة)، والأنبا ثاؤفيلس (أسقف الدير)، والأنبا شنوده (أسقف المعاهد الدينية) .. وتوجه الوفد إلى صومعة الراهب، ولكنهم أكتشفوا أختباءه فجأة. ظل الوفد ورهبان الدير يبحثون عن الراهب متياس طويلاً دون أن يعثروا له على أثر، بعد أن ترك سيارته وأمتعته الشخصية فى الدير وأختفى. قرر الوفد العودة، وآثر الأنبا شنوده البقاء فى الدير حتى العثور على الراهب للأطمئنان عليه.
بعدد جريدة الأهرام الصادر صباح الأحد 21 ديسمبر 1969 نطالع ما يلى: لم يسفر البحث أمس عن الراهب متياس السريانى السكرتير السابق للبابا كيرلس السادس والذى أختفى بعد أختياره لمنصب أسقف دمياط، عن العثور عليه. وقد واصل الأنبا شنوده (أسقف المعاهد الدينية) ورهبان دير السريان بوادى النطرون (33 راهباً) البحث عن الراهب متياس السريانى فى المنطقة المحيطة بالدير والتى يؤكدون أنه لم يغادرها حتى الآن. ومن المرّجح أن يعود الراهب إلى الدير بعد أتمام مراسم تنصيب مطرانى المنصورة ودمياط اليوم (الأحد) – وهى المراسم التى بدأت مساء أمس – وذلك بعد أن أختار البابا الراهب موسى المقارى (من دير أنبا مقار وأحد تلاميذ الأب متى المسكين) ليكون أسقفاً لدمياط بدلاً من الراهب متياس السريانى.
حدث بعد ذلك فى عام 1977 – فى حبرية البابا شنوده الثالث – أن قام قداسته بالضغط على الأب الراهب متياس السريانى بقبول الأسقفية، وأمام الأصرار – ولم يقدر أن يهرب كما فعل من قبل – وافق على طلب البابا بشرط أن يحمل اسم “رويس” ليكون مرتبطاً بمنطقة الأنبا رويس ولا يتم بأى حال من الأحوال أرساله إلى أية أسقفية خالية لسببين: أولهما يريد أن يحيا حياته الرهبانية الحقيقية إذ كان يدرك بصدق خطورة العمل الرعوى، ثانيهما يدرك تماماً أنه لا يجوز – من الناحية القانونية – أن يكون أسقفاً ثم يتم أرساله لرعاية أسقفية أخرى، فالقوانين الكنسية صارمة وتنفيذها واجب.
يذكر الموجودين بمنطقة المقر البابوى بالأنبا رويس بالعباسية، أنهم كانوا يشاهدونه يخرج ليلاً من صومعته البسيطة جداً ويتمشى بالمنطقة فى ضوء القمر وهو مكتف اليدين، ويسير بهدوء متطلعاً إلى السماء، مصلياً فى خلوة حقيقية، وهو هادئ النفس، بسيط جداً فى معاملاته مع الناس بمختلف أعمارهم وطبقاتهم. كان يحلو له يوم الجمعة، يستيقظ مبكراً ويستقل سيارته البسيطة ويقودها بنفسه إلى كنيسة السيدة العذراء المعروفة بـ “قصرية الريحان” بمنطقة مصر القديمة، حيث يصلى صلاة القداس هناك، ثم يعود فى صمت وهدوء إلى صومعته حيث خلوته الخاصة. وظل يقوم بهذا النشاط الهادئ ولا يشترك فى المناقشات والمباحثات المتنوعة التى تدور حالياً فى أروقة المقر البابوى.
تعود معرفتى وصداقتى له منذ ديسمبر 1975 عندما حضر إلى مدينة تورنتو – كنت وقتها طالب درجة ماجستير بجامعة “يورك” Yorkبتورنتو – لمساعدة الكاهن فى الخدمة وأيضاً لدراسة بعض المقرارات اللغوية بجامعة تورنتو، حتى أنه أقام بإحدى الحجرات بالمدينة الجامعية المخصصة لطلاب الجامعة ولم يفارقه الهدوء الذى يتمتع به. وأذكر تلك الواقعة الشخصية – من بين العديد من الذكريات الجميلة معه – ففى فترة خدمته فى مدينة تورنتو كنت قد أتخذته أب أعتراف لى. وحدث فى شهر سبتمبر 1976 أن غادرت جامعة يورك بمدينة تورنتو وتوجهت إلى جامعة وندسور فى جنوب كندا والتى تبعد عن مدينة تورنتو 5 ساعات بالأتوبيس وذلك للدراسة لدرجة الدكتوراه فى الرياضيات. حدث أن مدينة وندسور لم يكن بها كنيسة قبطية، وأقرب كنيسة كانت بمدينة ديترويت الأمريكية، ولعبور الحدود يجب أن أتوجه لمدينة تورنتو للحصول على تأشيرة دخول للأراضى الأمريكية من القنصلية الأمريكية بمدينة تورنتو.
مكثت فترة فى مدينة وندسور دون الذهاب لأى كنيسة قبطية!! وكان هذا أمر محزن لى. وبعد عدة شهور فكرت فى السفر إلى مدينة تورنتو للتقديم فى القنصلية الأمريكية للحصول على تأشيرة الدخول. وقد أخبرت أصدقائى بمدينة تورنتو على موعد وصولى إلى المدينة للتقديم على التأشيرة. وفى الموعد المحدد سافرت إلى المدينة يوم جمعة – بعد أنتهاء اليوم الدراسى الجامعى – على أساس أن أقضى فترة نهاية الأسبوع بمدينة تورنتو ويوم الأثنين أتوجه للتقديم على تأشيرة الدخول. فى يوم السبت بعد أن حضرت صلاة عشية التى كان يصليها الأب متياس السريانى، توجهت للجلوس معه للأعتراف. فأول شئ قاله لى بالحرف الواحد: (فرحنا جداً عندما عرفنا أنك جاى عندنا هنا)، كانت لتلك الكلمات الأبوية الصادقة الأثر الشديد فى نفسى حتى أننى أنهمرت فى بكاء شديد لم أقدر أن أوقفه من كثرة الأبوة الفائقة التى وجدتها أمامى. سألنى: (لماذا تبكى؟ ماذا حدث؟)، وكل ما أحاول استجماع شجاعتى للأعتراف، ينتابنى البكاء مرة أخرى. وعندما وجد أننى مازلت أبكى ولم أتوقف لحظة واحدة، قال لى بأبوة فائقة: (سوف أتركك الآن إلى أن تتمكن من إيقاف البكاء).
من أجمل الفترات التى عشناها سوياً فى كندا عندما كان الأب متياس السريانى يخدم بيننا بكنيسة مارمرقس بتورنتو، ثم حضر إلينا فى زيارة قصيرة الأب بيشوى كامل – كاهن كنيسة مارجرجس بأسبورتنج بالإسكندرية – فأحدث وجودهما معاً نهضة روحية حقيقية، وكان ذلك فى أغسطس 1976.
أذكر أيضاً، أنه بعد أشهر قليلة من وصول الأب متياس السريانى للخدمة فى تورنتو، أن وصلت مكالمة تليفونية من المقر البابوى بالقاهرة للقمص مرقس مرقس – كاهن الكنيسة – تفيد أن والدة الراهب متياس السريانى قد أنتقلت. فى ذلك الوقت لم تكن خدمة التليفونات المحمولة متوافرة. فأجتمع الأفاضل أعضاء مجلس الكنيسة مع الأب مرقس مرقس ليفكروا كيف يبلغون الخبر للراهب متياس السريانى. ذهبوا جميعاً إلى مقر إقامته بالمدينة الجامعية بجامعة تورنتو وجلسوا معه. وأخذوا يتحدثون معه لكنهم فى أرتباك شديد. نظر إليهم وقال لهم: (عاوزين تقولوا لى أن والدتى قد أنتقلت؟ لا غرابة فى ذلك لأنى أنا سبق ومُت قبلها!! فكيف تقدمون عزاءً لميت فى رحيل ميت آخر!!). لأنه كان فعلاً يعيش كأنسان ميت عندما تمت عليه صلاة الراقدين عند رهبنته. وجد أعضاء مجلس الكنيسة أنفسهم أمام قامة روحية عالية جداً وحياة صادقة مع الله.
عشنا سوياً فى مودة كاملة سواء فى تورنتو أو حتى بعد أسقفيته عندما كان يحضر لزيارتنا فى تورنتو أو فى القاهرة بعد عودتى من كندا.
عاش طوال حياته متفرغاً للصلاة والعبادة الصادقة، متجنباً المناقشات التى لا تأتى بثمر. لكن حدث فى الفترة الأخيرة من حياته أن أصيب بمرض فقدان الذاكرة “الزهايمر” لكنه عاش فى قلايته بإحدى مبانى منطقة الأنبا رويس كأحد رهبان البرية المصرية. وعن عمر 81 عاماً رحل إلى الأمجاد تاركاً سيرة عطرة كأسقف ملتحف بالنسك وحياة العبادة الحقيقية.