* أربعة تأملات في هذا الصوم.
* يونان أتعبته كرامته الخاصة
* كان الموج الذي لطم السفينة, من مراحم الله بها.
* بطاعة يونان خلص أهل نينوي, وبعصيانه خلص أهل السفينة.
* أمر الله الحوت أن يبتلع يونان, وليس أن يأكله.
* لم يفرح يونان بخلاص أهل نينوي, إنما اغتاظ!!
* الله يجول يصنع خيرا, في كل قصة يونان..
صوم يونان أو صوم نينوي, وهو لمدة ثلاثة أيام فقط, يصومه جميع الأقباط بنسك عظيم. ولعلنا نتذكر فيه أربع نقاط هامة:
1 ـ نذكر كما أن يونان قضي في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال, هكذا قضي المسيح في القبر ثلاثة أيام.
واصبح يونان وهو في بطن الحوت رمزا للسيد المسيح في القبر. ونحن نذكر هذا في ذكصولوجية يونان.
وكما أن أن يونان خرج من بطن الحوت سالما, هكذا المسيح خرج من القبر بقيامته المجيدة.
2 ـ وفي هذا الصوم نذكر أيضا صوم نينوي بمناداة يونان, وقبول الله لصومهم وتوبتهم, ورفع عضبه عنهم:
ولهذا قال السيد المسيح أهل نينوي سيقومون في يوم الدين ويدينون هذا الجيل, لأنهم تابوا بمناداة يونان وهوذا أعظم من يرتفع هينا.
وإن كل صوم له هدفه, فلا شك أن صوم يونان ههنا التوبة.
والكنيسة تذكر الشعب كيف أن أهل نينوي تذللوا أمام الله في صومهم وفي صلواتهم, ولبسوا المسوح قدامه, ورجعوا عن طرقهم الشريرة. وكان صومهم ـ بهذا الأسلوب ـ مصحوبا بالصلاة والتوبة وانسحاق القلب وسرعة الاستجابة لنداء الله وكلها صفات نموذجية في الصوم المقبول أمام الله, تقدمها الكنيسة كنموذج للمؤمنين في صومهم.
وصوم نينوي بشبه الصوم الكبير في طقسه, لذلك هو تمهيد له.
إن الصوم الكبير ـ وهو أقدس أيام السنة ـ له تمهيدات, حتي لا يقبل إليه الناس فجأة وفي تراخ. وإنما يسبق الأربعين المقدسة أسبوع يضاف إليه كأسبوع تمهيدي, أو بديل عن السبوت. كما يسبق الصوم الكبير صوم يونان, يذكر الناس بطقس الصوم في نسكه وفي صلواته وفي طقسه.
2 ـ وفي صوم يونان, نذكر أيضا القديس يونان النبي, وعلاقته بالله وعلاقة الله به…
يونان النبي الهارب
يقدمه الكتاب كإنسان عادي له أخطاؤه وله فضائله أيضا.
وأكثر ما كان يتعب يونان النبي, اعتداده بكرامته الخاصة, وأهمية كلمته.
لقد كلفه الله بأن ينادي علي أهل نينوي بالهلاك بسبب خطاياهم. وكان يعلم أنه إذا نادي عليهم, سيتوبون فيقبلهم الله ولا يهلكون وهكذا تسقط كلمة يونان. لذلك رفض أن يقوم بهذه المهمة, ولو خالف الله في ذلك..
وهكذا خالف يونان الأمر الصادر إليه من الله وهرب منه إلي ترشيش كل ذلك حفاظا علي كرامته!
وهذا الأمر يظهر لنا أن الكرامة الشخصية قد تكون سببا في سقوط الإنسان. وأن الكرامة الحقيقية هي في حياة الطاعة التي يحياها الإنسان ثابتا في الله, منفذا المشيئة الإلهية مهما كانت ضد رغبته.
وعلي الرغم من مخالفة يونان لم يرفضه الله, بل أصلحه وصالحه, ونفذ به مشيئته..!
طريقة معاملة الله
إن الله لا يرفض من أول خطأ, وإنما يأخذ أخطاء الناس بطول أناة. ويصبر طويل, حتي يقودهم في طريقه.
إن الله أراد إنقاذ أهل نينوي. وفي نفس الوقت أراد إنقاذ يونان. وأيضا إنقاذ من تقابلهم هذه القصة في الطريق, مثل أهل السفينة…
إلهنا الصالح يعرف ضعف الطبيعة البشرية.. ويساعد الناس علي النجاة من ضعفهم. فضعف يونان لم يقابله الله بالعقوبة, وإنما بالإصلاح.
لقد ركب يونان السفينة هاربا من وجه الرب. ومن هذه السفينة بدأ الله عمل الخلاص, من أجل يونان, ومن أجل أهل السفينة أيضا.
وأمر الله الأمواج أن تضرب السفينة حتي كادت أن تنكسر..
وكان ضرب السفينة بالأمواج هو ضرب من رحمة الله وحنانه, وجزء من خطة الله في الخلاص.
جاهد بحارة السفينة بكل جهدهم لإنقاذ السفينة فلم يستطيعوا, لأنه حينما توجد مشيئة الله, لا يمكن أن توقفها الطرق البشرية مهما كانت حكيمة! إنما يصلح الأمر, أن يتفق الإنسان مع الله في مشيئته.
وبدأ البحارة بالصلاة, ثم ألقوا قرعة, ثم نذروا نذورا… وهكذا دخلوا في العمل الروحي, لما فشلت الحكمة البشرية.
وكان هذا جزءا من نجاح الخطة الإلهية… إن الضيقات قد تقود البعض إلي التذمر أو إلي التجديف, ولكنها تقود البعض الآخر إلي الصلاة والتوبة. وهنا تظهر نوعية القلب الذي تصادفه التجارب والضيقات.
وأهل السفينة كان في قلبهم استعداد روحي, تعهده الله, حتي قاد هؤلاء البحارة إلي الإيمان…
استجاب الله لصلوات أهل السفينة مع أن كل واحد كان يصلي إلي إلهه… واستجاب الله أيضا للقرعة التي ألقوها, مع أنهم كانوا من الأمم غرباء عن رعوية كنيسة العهد القديم.
وقبول الله لأهل السفينة, كان القديم….
من باشير قبول الأمم في العهد
وكان من أمثلة قبول راحاب التي من إريحا, وقبول راعوث المؤابية, وقبول المرأة الكوشية التي تزوجها موسي النبي عد 12 :1. بل وأيضا قبول كل أهل نينوي وهي من المدن الأممية..
كانت عبارة الشعب المختار تعني الشعب الذي اختاره الله ليكون إلها له. لأن الله يريد أن الجميع يخلصون وإلي معرفة الحق يقبلون (اتي 2: 4
انتهي الأمر مع أهل السفينة إلي. إلقاء يونان في البحر, حسب اقتراحه لأنه كان السبب في غضب الله علي السفينة. إن خاطئا واحدا في السفينة. يصر علي عصيان الله. ربما يكون السبب في هلاك السفينة كلها, وهذا ما نفهمه من هذا الجزء من قصة يونان.
وبإلقاء يونان في البحر, هدأت الأمواج, وسارت السفينة في سلام.
إذن باستمرارفتش سفينتك, فربما يكون سبب هياج البحر عليها, هو سبب داخل السفينة وليس من خارجها من البحر والموج. وبالتخلص من هذا السبب يهدأ الأمر.
وبرجوع البحر إلي هدوئه, آمن أهل السفينة بالله, وذبحوا له ذبائح
فإن كان من نتائج طاعة يونان, إيمان أهل نينوي وخلاصهم, فإنه كان من نتائج عصيان يونان, إيمان أهل السفينة وخلاصهم.
إن الله يخرج من الجافي حلاوة, ومن الخطأ يخرج صوابا. ولا فضيلة للخطأ في هذا. ولكن كل الأشياء تعمل معا للخير, للذين يحبون الرب.
هل ركوب هذه السفينة بالذات, التي يوجد فيها هؤلاء البحارة بالذات, كان جزء من الخطة الإلهية! ربما…
كان الله يريد خلاص هؤلاء الناس, فدبر أن يركب يونان في عصيانه سفينتهم.
ولا شك أن سفنا أخري كثيرة كانت موجودة, ولكن هذه السفينة كان أهلها مستعدين لعمل الله فيهم. فسمح الله أن يدخلوا في القصة, لأن خلاصا إلهيا كان ينتظرهم من أجل نقاوة قلوبهم.
آمن أهل السفينة. وتم هذا الجزء بنجاح من الخطة الإلهية وبقي يونان.
ابتلعه حوت عظيم
لما ألقي يونان في البحر, قال الكتاب.
وأعد الرب حوتا عظيما, فابتلع يونان…
ابتلاع الحوت له كان تدبيرا إلهيا لخلاصه, وليس لهلاكه.
لقد أعد الله هذا الحوت, وكل ما بعده هو للخير… وقد قام الحوت بعمل إلهي, إذ أوصل يونان إلي غايته, دون أن يؤذيه في شيء…
كان الله قد أمر الحوت أن يبتلع يونان, وليس أن يأكله, فبقي يونان سليما في داخله, حتي أمر الله نفس الحوت أن يلقي يونان خارجا ليكمل رسالته!
وهكذا أنت: أن ابتلعك حوت عظيم, فلا تخف. فليس الأمر لإيذائك.
إنها رحلة للخير, وإن كانت في جوف حوت…
ربما لو كان يونان قد ألقي في البحر بدون حوت, لكان قد غرق من التعب والإجهاد في سباحة بلا هدف. ولكن الحوت حفظه في داخله سليما, وأصبح يرمز إلي التجارب النافعة في حياة الإنسان.
وهنا نعجب أن الله أمر الحوت أن يبتلع يونان, وأمره أن يلقيه خارجا والحوت مطيع للأمر الإلهي في الحالتين كلتيهما…
وهذا أمر طبيعي, لأن الله سيطر علي الطبيعة كلها.. كلها من خلقه, كلها طوع أمره. الحوت يستمع صوته فيطيعه. وكذلك الأمواج التي أمرها أن تلطم السفينة, ثم أمرها أن تهدأ. وأطأعت الأمرين…
لم يكن سوي الإنسان يونان, الذي لم يطع الأمر حين صدر إليه, لأن له حرية الإرادة التي تقبل أو لا تقبل أوامر الله إليها. وكانت طاعة الطبيعة غير العاقلة تمكينا للإنسان العاقل..
صلي يونان داخل الحوت
في جوف الحوت, رجع يونان إلي طقسه, فركع علي ركبتيه وصلي…
استفاد يونان من التجربة. لأننا لم نسمع أنه صلي وهو في السفينة…
في داخل السفينة كان نائما, حتي أن رئيس البحارة أوقظه قائلا لماذا أنت نائم. قم اصرخ إلي إلهك.
ولم يصرخ يونان إلي إلهه وقتذاك, لأن الصرخة الحقيقية كانت في رجوعه إلي الرب بالطاعة.
ولكنه في جوف الحوت صلي, صلاة كلها إيمان, وشكر, وتذلل يون2.
ومن عباراته المملوءة بالإيمان, قوله للرب من جوف الحوت ولكني أعود أري هيكل قدسك… كان عنده الإيمان الكافي الذي به سوف يخرج من الحوت, ويعود يري هيكل الرب المقدس…
قمة إيمان يونان, كانت في جوف الحوت, كانت في عمق التجربة.
وهنا تبدو فائدة التجارب وما فيها من خير, ومن عمل إلهي.
الحوت أعده الرب, ليس فقط لكي ينجو يونان من البحر, إنما أيضا لكي ينجو روحيا ويتعلم طاعة الرب.
وكان أيضا لكي يقود يونان إلي حياة الصلاة. وكان في عصيانه قد بعد عنها.
ويعلمنا حوت يونان أنه يجب ألا نفقد الرجاء مهما كانت الظروف.
فيونان لم يفقد رجاءه وهو داخل الحوت. إن الله الذي هرب من رحمته لنينوي, احتاج الآن إلي رحمته…
لولا أن من صفات الله رحمته نحو الخطاة, لهلك يونان نفسه في عصيانه للرب…
الاستفادة من التجربة
استفاد يونان من ابتلاع الحوت له, لذلك بعد أن خرج منه, أطاع الرب…
أعاد إليه نفس الأمر اذهب إلي نينوي ناد عليها. فذهب يونان في هذه المرة ونادي عليها, ولم يهرب…
مشيئة الرب لابد أن تنفذ. إن لم يكن اليوم, فيكن ذلك غدا. ونفس الرجل الذي عصي الرب أعني يونان هو نفس الإنسان الذي نفذ الأمر أخيرا.
أطاع يونان, وهو يعلم أن كلمته ستسقط في مناداته بهلاك المدينة, لأنهم سيتوبون والرب سيرحمهم.
ولكنه أطاع, ولو لمجرد الواجب, ولو من غير اقتناع…! اطاع ولو أن مرض محبة الكرامة كان لا يزال موجودا!…
ولكنه كان أمينا في طاعته. وكان كلامه للناس مقنعا ومؤثرا, فتابوا علي يديه وصاموا وصلوا. وخلصت مدينة نينوي العظيمة, المدينة الأممية التي لم تكن قبل ذلك من شعب الله.
كان الله يحب أهل نينوي, وهم غرباء عنه, وهم أيضا خطاة.
وكان يبحث عن خلاصهم, ويسعي إلي ذلك, وقد أرسل يونان إليهم لكي يكون خلاصهم علي يديه… وقد كان.
ولكن يونان الذي خلصت نينوي علي يديه, وكان هو أيضا محتاجا إلي الخلاص!
خلاص يونان!
نادي يونان علي المدينة بالهلاك, ولم تهلك المدينة لأنها تابت. ولكن بتوبتها وقبولها شعر يونان أن كلمته قد سقطت. فاغتاظ, وقال للرب موتي خير من حياتي!
لم يفرح يونان بخلاص المدينة, بل اغتاظ, لأن كل تفكيره كان مركزا في كرامته الخاصة, وفي كلمته…!
وهنا كانت بمشيئته ضد مشيئة الله الذي قال إنه يكون فرح في السماء يخاطيء واحد يتوب لو15 فكم بالأولي بمدينة كاملة من 120 ألف نسمة!
كانت ذات يونان وكرامته وكلمته, هي في نظر هذا النبي أهم من شعب مدينة عظيمة بأكملها علي الرغم من مناداته؟!
ولذلك قال له الرب معاتبا.
هل اغتظت بالصواب يايونان؟ فأجاب اغتظت حتي الموت!!
وبدا المرض واضحا. ووقف الطبيب العظيم يعالج بعالج يونان, ويغرس الشفقة في قلبه بقصة اليقطينة التي نبتت يوم ننبت, ونبت يوم هلكت يون4.
كان يونان قد أطاع, فخلص من المعصية. ولكن لم يخلص من الذات!!
وظل الرب يعالج محبة الذات التي تحاربه, بأن ينقله إلي محبة الآخرين. وإن كان قد أشفق علي تلك الشجيرة الصغيرة, أفلا يشفق علي اثنتي عشرة ربوة من الناس يحتاجون إلي توبة…
وبخلاص يونان نجحت الخطة الإلهية كلها, وبها خلص أهل السفينة, وخلص أهل نينوي, وخلص يونان…
وكان الله يعمل في القصة كلها, من أجل الكل. ويستخدم وسائل وأساليب متنوعة, ولكنها جميعا مملوءة بالمحبة, ولها هدف واحد هو خلاص الناس.
سواء في ذلك خلاص الأمميين, أو خلاص النبي العظيم.
سواء خلاص مدينة بأكملها, أو بحارة سفينة, أو شخص واحد هو يونان عمل الله معه عملا فرديا…
واستخدم الله الشدة, كما في ضرب السفينة بالأمواج. واستخدم الإنذار والتهديد, كما فعل مع أهل نينوي, واستخدم كلمات الإقناع والعقاب, كما فعل مع يونان.
كلها وسائل متنوعة, تبدو مختلفة ولكنها من الأدوية المؤدية إلي الحياة كما نقول في القداس الغريغوري. أو هي من طوق الخلاص كما نقول في صلاة الصلح.
وإن أردت مزيدا في هذا الموضوع فأمامك كتابنا تأملات في سفر يونان
وكل عام وجميعكم بخير..