شهد العالم في السنوات القليلة الماضية اهتماما بمفهوم السعادة، وعلى الرغم من أن الاهتمام الثقافي والفلسفي بهذا المفهوم قديم، إلا أن الجديد يتمثل في الاهتمام التنموي والسياسي، فثمة تقرير عالمي يصنف البلدان ويرتبها على مقياس السعادة، وأقصد “تقرير السعادة العالمي”، كما أن الإمارات أنشأت وزارة للسعادة. وإذا كان من الممكن قياس رفاهية الشعوب، فهل من السهل قياس سعادتهم؟ في هذا االسياق قرأت مقالا منشور في مجلة الثقافة العالمية في عددها الأخير عنوانه “مع تنوع الملذات نحتاج إلى طريقة لحساب السعادة”، ويناقش المقال صعوبة قياس السعادة سواء من الناحية الكمية أو الكيفية، وأحد أهم الأسباب أنقياس السعادة مسألة شخصية، فالفرد وحده هو من يمكنه تقرير مقدار وجودة السعادة التي يتحصل عليها. وأضيف وحتى على المستوى الفردي لا توجد حسابات معيارية وموضوعية تماما، فقد يكون مصدر سعادتنا اليوم هو ذاته مصدر تعاستنا مستقبلا سواء بعد سنوات أو بعد أيام. وربما نكون أكثر قدرة على حساب تعاستنا مقارنة بقدرتنا على حساب سعادتنا، ليس بسبب أننا كائنات كئيبة، ولكن ببساطة لأن التعاسة نعيشها كالمرض فننتبه اليها وننشغل بأسبابها، أما السعادة فهي مثل الصحة نمتلكها دون أن نلتفت إليها، ونتذكرها عندما نشعر بالتعاسة، تماما مثل مقولة: “الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى”.
لنقل أن مفهوم السعادة ذاته غير محدد وملتبس، فوفق التعريفات نلاحظ أن السعادة يمكن أن سبب أو حالة أو غاية، فلها مصادر تأتي منها وكأنها سابقة على وجودها، وحالة نعيشها فتوجد فقط وهي معاشة، وغاية نتطلع إليها وكأنها موجودة في مكان ما في الواقع أو الخيال. حتى أن قاموس المعاني ذاته يخلط في تعريفه للسعادة بين الحالة ومصادرها، فيعرفها بأنها: “فرح، ابتهاج”، وذلك باعتبارها حالة، مع إضافة “أي كل ما يدخل البهجة والفرح على النفس”، وهنا يكون الحديث عن المصادر أو الأسباب التي تسبب البهجة والفرح. ومن الشائع أن نجد من يدعى معرفة طريق السعادة، والطاقة االمرشدة إليها. وهكذا تنتعش تجارة السعادة، وخاصة مع الإيهام المتزايد بالقدرة على اقتناص السعادة وامتلاكها وكأنها شئ، وكثيرا ما نسمع من يقول أنه قرر أن يكون سعيدا أو أن “السعادة قرار”.
وعلى ما يبدو أن الالتباس في تعريف السعادة ناجم عن الخلط بينها وبين الرفاه أو العافية أو رغد العيش وهي ترجمات متعددة للكلمة الإنجليزية Wellbeing، والتي يمكن قياسها بالمعنى الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والبيئى. ولكن هناك سبب آخر وهو مقارنة السعادة بالتعاسة والتي هي حالة لها ملامحها ويمكن أن تطول أو تقصر، أما السعادة فلا توجد على هذه الشاكلة، فإذا كان الفقر أو المرض أو الفقد مسببات للتعاسة، فإن الثراء والصحة والوصل لا تسبب السعادة بنفس القدر. وذلك ربما لارتباط التعاسة بأوضاع ضاغطة، في حين نربط السعادة بأوضاع تكون عادية أو تتحول لأن تكون عادية. وعموما فإننا لا نصف الآخرين أو حتى أنفسنا بأننا سعداء خارج اللحظة التي نعيش فيها سعادتنا، إنها حالة الفرح أو البهجة اللحظية والمؤقتة التي تنطلق من العمق وتشق طريقها إلى السطح، أو تأتي من الخارج وتجد طريقها إلى أعماق النفوس، وتختفي بإنتهاء الحدث أو بفعل الاعتياد. ولا يجب أن يختلط علينا الأمر عندما نصف طبيعة شخص ما بأنه مبتهج ومصدر فرح، لأن هذه الشخص قد يكون مبهجا أكثر من كونه مبتهجا، وربما يكون أكثر تعاسة من غيره.
وقد يمكن قياس السعادة على المستوى الفردي، رغم صعوبة ذلك، إلا أن قياسها على المستوى الاجتماعي أكثر صعوبة، فإجمالى السعادة المجتمعية لن يكون حاصل مجموع السعادات الفردية، وخاصة أن ما يسعد البعض قد يكون سببا لتعاسة آخرين، فإذا كان الثراء مصدرا لسعادة مجموعة ما، فإن هذا الثراء ذاته قد يكون مصدر تعاسة آخرين. وحتى إذا افترضنا أن متوسط دخل معقول يمثل أحد مقومات السعادة، فإن هذا أيضا غير صحيح في المطلق، لأنه في مجتمع الاستهلاك لا تتوقف التطلعات، ويتفاقم الفقر النسبي، أي الإحساس بالفقر رغم إمتلاك ما يكفي لتجاوز حالة الفقر، وهذه التطللعات كافية لإحلال التعاسة محل السعادة المفترضة. ناهيك عن أننا نعيش في عالم جعلنا نشقى ليس لأننا مرضى، ولكن لأننا لسنا أصحاء بالقدر الكافي.
وهنا يمكن طرح سؤال: هل ثمة خطأ فى عنوان “التقرير العالي للسعادة”، هل كان من الأجدى أن يسمى “التقرير العالمي للتعاسة”؟ إن قياس االتعاسة أسهل بكثير وواقعي، وبدلا من ترتيب البلدان من الأعلى إلى الأدنى على مقياس السعادة، يمكن ببساطة ترتيبها بالعكس على مقياس التعاسة، وذلك لسببين، أولهما أن الشعوب التي تعاني من مسببات التعاسة أكثر من تلك التي تخف فيها حدة هذه المعاناة. ثانيا: أنه حتى في الدول التي تحتل المرتبة الأعلى في سلم السعادة، بها أعداد غير قليلة من التعساء، لأن المسألة بالأساس تقدير شخصى. وباختصار نحن في حاجةً إلى إيجاد حلول لأسباب التعاسة أكثر من البحث عن طرق للسعادة. ومن المؤكد أنا حل مشكلات التعاسة هو الطريق إلى ذلك الشئ الذى نسميه سعادة.