بدأت حكايتها عندما رآها أحمد في كفر الرفاعي بالعياط، منذ عشر سنوات، وقتها كانت رانيا طالبة في الإعدادية، وكان أحمد يؤدي فترة التجنيد، فخفق قلبه، دون أن يعلم هل يراها مرة أخرى أم لا؟!
“رانيا صادق” فتاة من ذوي الإعاقة، تعاني الشلل النصفي، وبعض المشاكل البسيطة في حركة اليد، أصولها من كفر الرفاعي بمركز العياط، وتعيش مع أهلها في إحدى المناطق الشعبية بـ”حلوان”، حصلت على الشهادة الإعدادية، ثم انقطعت عن الدراسة نظرًا لصعوبة الذهاب والعودة والمشقة التي كانت تعانيها والدتها كل يوم.
لم تستسلم “رانيا” لإعاقتها الثقيلة يومًا ما، فاتجهت واجتازت دورات تدريبية عديدة، منها: دورة في تأهيل المعاقين، دورة خياطة وتريكو وأشغال يدوية، دورة في الهلال الأحمر، وكذلك دورة تدريبية في الحاسب الآلي، التي تم السماح لها بالحضور فيها، على الرغم من قصورها على أصحاب المؤهلات العليا والمتوسطة.
قررت رانيا أن تعمل وتثبت ذاتها، فجمعت ذهبها وقامت ببيعه، واقترضت جزء من المال من بعض معارفها، واستغلت شقة والدها في الدور الأرضي، وقامت بفتح مكتبة لعب أطفال وهدايا، لم تكن هذه الخطوة سهلة على الإطلاق، ليس بسبب إعاقة رانيا فحسب، ولكن لما تعانيه من أفكار مُحبطة و تعامل الآخرين معها على أنها جسد مقيد بسلاسل الكرسي المتحرك.
أرادت رانيا أن تخرج إلى المجتمع لتحقق ذاتها وتثبت وجودها، وعلى الرغم من تنبؤ المحيطين بفشلها، إلا أنها أثبتت نجاحها منذ إنشاء المكتبة قبل تسع سنوات واستمر نجاحها حتى الآن، واتسمت طريقة إدارتها بالحب والاجتهاد، فكان من يدخل إلى مكتبة رانيا يخدم نفسه ويساعدها في تلبية طلباته.
اعتمدت رانيا على المناطق القريبة منها في بداية عملها، فكانت تشتري الخامات والبضائع من محال مجاورة باحثة عن ربح جنيه أو اثنين على الأكثر، ثم تذهب إلى منطقة العتبة مرة كل عام وتشتري بضائع بالجملة لتعمل بها طوال العام، فالذهاب إلى منطقة العتبة يكلف رانيا 500 جنيه أجرة سيارة خاصة ومرافق طوال الطريق.
لم تكتفِ “رانيا” بذلك، ولكنها تقدمت بطلب لتوظيفها في إحدى الوظائف التي تُخصص نسبة محددة لذوي الاحتياجات الخاصة، وعلى الرغم من صعوبة حصولها على تلك الوظيفة ، إلا أن الله قد أراد مكافأة عزيمتها، فقد تم قبول طلبها والتحقت بوظيفة في إحدى الوحدات الصحية بمنطقتها، واستلمت عملها في وحدة الأطفال، باذلة قصارى جهدها حتى لا تكون عبئًا على زملائها، بل طاقة مضافة إليهم في العمل.
استوعبت رانيا المشكلة التي ستواجهها في عملها قبل استلامه، وهي عدم وجود طريق ممهد لدخولها الوحدة الصحية، فطلبت من الإدارة أن تمهد الطريق على نفقتها الخاصة، حتى لا تكون مضطرة إلى أن تُحمل كل يوم، ولكن الثقافة المجتمعية صفعتها من اتجاه آخر، فالمواطنون يقومون بوضع سياراتهم أمام المزلقان (الطريق الممهد) المخصص لمرورها.
قدم الطبيب زكي مدبولي، كرسي متحرك كهربي هدية لرانيا، ليسهل لها التنقل والعمل دون الحاجة إلى أحد، وبالفعل كان الكرسي له فضل كبير على إنجاز رانيا في عملها، كان وجود مثل هذا الكرسي في حياة رانيا هو أحد أحلام رانيا الكبيرة.
وبعد أن أثبتت رانيا وجودها العملي في المجتمع، بدأت تستمع لدقات روحها واحتياجاتها الأنثوية والعاطفية، ولكن الأمر كان مرفوضًا تمامًا من قِبل والدها وأخيها، غير مستوعبين أنها بنت كغيرها ولها احتياجات تفوق المأكل والملبس، فكانت الإجابة دائمًا على طلبها في حقها المشروع “هيتجوزك يعمل بيكي إيه وأنتي مش هتعرفي تخدميه”.
كانت هذه بعض العتبات التي عاشتها رانيا قبل لقائها مع أحمد مرة أخرى.
ذهب أحمد (والذي يعمل حداد مسلح)، قبل عشر سنوات من الآن إلى التجنيد لتأدية خدمته العسكرية، ثم سافر بعد ذلك إلى إحدى الدول العربية، وقد تعرض لإصابة عمل قوية، أدت إلى خضوعه لرحلة علاج طويلة، كان من أعراضها سقوط شعره وفقدان بصره فترة مؤقتة.
وعاد ليبحث عن رانيا حبيبته التي زُرع حبها في قلبه منذ عشر سنوات، ولكنه لم يكن يعرف عنها أي شيء سوى رحيق مشاعرها الذي غُرس في قلبه.
سأل أحمد أهالي قريته عن رانيا، والتقى بأحد جيرانها، وطلب منه طريقة للتواصل معها، فأعطاه الإيميل الخاص بها، ليتحدث أحمد إلى رانيا مرة ثانية وفاجأها بأنه يريد الزواج منها، استوقفته رانيا طالبة منه أن يراها مرة أخرى ربما تغير شكلها خلال العشر سنوات، ولكنه كان قد اتخذ قرراه منذ وقت بعيد، فلم يعنيه الشكل بل اعتنى بروحها التي عانقته ولم تتركه طوال ذلك الوقت.
كانت رانيا متخوفة في بداية الأمر، فقد مرت بتجربة مريرة تخشى أن تكررها، ولكن روحها تشعر بالأمان هذه المرة، تريد مشاركته في حياتها، تطلب أن تؤسس معه منزلهما، وتمت الخطبة مارس 2019، ثم تعرضت رانيا لجلطة في الساق جعلت الحزن يأكل من روحها و يُطفىء بريق حبها، ولكن حنان ورقة وعذوبة الحبيب جعلت الألم يذوب والروح تتورد.
عقد أحمد و رانيا قرانهما في شهر يوليو الماضي، وأتموا الزفاف يوم 21 سبتمبر 2019.
وحاولت رانيا أن تجعل التجهيزات بأقل التكاليف حتى لا تضع ضغطًا على عاتقه، فتواصلت مع صفحة #حكاية_فرح، وهي صفحة توفر كل لوازم العروسة بأسعار رمزية، وتوفرها مجانًا للأيتام.
تتمنى رانيا أن تنجب بنتًا وتسميها باسمها حتى يتذكرها أحباءها، وتظل ذكراها بعد موتها خالدة لدى كل من عرفها.
وفي الختام، قالت رانيا أن أحمد هدية من الله، جاء في واقع مجتمعي يتعامل الكثير منه مع المعاقين على أنهم أجساد لا روح لها ولا مشاعر، بل يراهم عالة لا قيمة لهم.
وتتساءل رانيا أخيرًا، عن حقها في وجود تجهيزات تمكنها وتمكن ذوي الاحتياجات الخاصة من دخول المحلات والمطاعم وركوب المواصلات العامة دون أن يساعدهم أحد؟!