يبدو أن الغربة تجربة أليمة تعرض لها الكثير من البشر منذ فجر التاريخ سواء على مستوى الأفراد أو على مستوى الشعوب، والغربة ليست مجرد شعور داخلي بالاختلاف بسبب الانتقال إلى وطن آخر والعيش وسط أناس من عرق مختلف، لهم لغة مختلفة وديانة مختلفة، فالتاريخ يذكر لنا أن الغربة في بعض الأحيان قد تكون مذلة واضطهاد بل واستعباد أيضا ، ” فاستعبد المصريون بني إسرائيل وأذلوهم في عبودية قاسية في الطين واللبن وفي كل عمل في الحقل”وإذا كان بنو إسرائيل من أقدم الشعوب التي تعرضت للاستعباد فإن التاريخ يذكر لنا كم العذاب الذي تعرضت له شعوب قارة أفريقيا الذين كانوا يباعون وينقلون بالسفن إلى الأراضي الأمريكية أجيالا تلو أجيال، وحتى بعد انتهاء عهد العبودية وصدور قوانين تمنع الاستعباد هناك إلا أن الأجيال اللاحقة عانت من الاضطهاد والتمييز العنصري بكل أشكاله، ولكنهم ظلوا يحاربوا إلى أن نالوا حريتهم وكرامتهم، أما الغربة في العصر الحديث فهي ليست بسبب السبي أو الاستعمار، فقد يختار البعض السفر إلى بلد أخرى بحثا عن الرزق ويبدأ حياة جديدة أو يسافر لاستكمال دراسته، ولدينا نماذج مشرفة لا حصر لها من المصريين المهاجرين الذين اختاروا الغربة بإرادتهم واندمجوا في المجتمعات الجديدة التي هاجروا إليها وأتقنوا لغاتها، وتفوقوا في دراساتهم ونبغوا في تخصصاتهم، وأصبحوا أيقونات مصرية عالمية للكفاح والنجاح والسلام.
وقبل أن نتحدث عن الطيور المصرية المهاجرة دعونا نتذكر الآباء الأوائل الذين ذاقوا مرارة الغربة وكيف باركهم الرب وأنقذهم من الضيقات والمحن.
أبونا إبرهيم
تلقى أمرا من الرب أن يترك أرضه وهو في الخامسة والسبعين من عمره : “اذهب من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك إلى الأرض التي أريك . فأجعلك أمة عظيمة وأباركك وأعظم اسمك .. وتتبارك فيك جميع قبائل الأرض . ” فخرج ابرآم من أرض حاران ومعه زوجته ولوط ابن أخيه و كل مقتنياتهما وذهبوا إلى أرض كنعان، وهناك بني مذبحا للرب ونصب خيمته، ولكن حدث جوع شديد في الأرض فانحدر إبراهيم إلى أرض مصر، وهناك أخطأ إبرام عندما كذب على فرعون.
وقال إن ساراي أخته ، فضرب الرب فرعون وبيته ضربات عظيمة بسبب ساراي، فاستدعى إبرام ووبخه وأمره بالخروج من مصر .
فصعد إبرام إلى الجنوب إلى بيت آيل وهو المكان الذي كانت خيمته فيه قبل ذهابه إلى مصر، وبعد أن قرر الانفصال عن لوط اختار لوط دائرة الأردن وسكن إبرام في أرض كنعان . وعندما سمع بنبا سبي لوط وعشيرته أعد فريقا من 318 شابا وذهب إلى حوبة ( شمال دمشق ) وأنقذ لوطا وكل عشيرته .
وقد أراد الرب أيضا أن يتغرب نسل إبراهيم، فعندما وقع عليه سبات قال له الرب :”اعلم أن نسلك سيكون غريبا في أرض ليست لهم، ويستعبدون لهم، فيذلونهم أربع مائة سنة، ثم الأمة التي يستعبدون لها أنا أدينها، وأما أنت فتمضي إلى آبائك بسلام وتدفن بشيبة صالحة، وفي الجيل الرابع يرجعون إلى هنا . ”
المثمر في أرض المذلة :
كان يوسف الصديق يحب أخوته بكل نقاوة قلب ، لكن الغيرة أعمتهم وغلبهم الحقد والحسد ، فهو الابن المدلل وصاحب الحلم الذي يرمز لسجود أخوته وأمه وأبوه له، وهو الوحيد الذي اشترى له أبوه القميص الملون . وبينما هو ذاهب إليهم في الحقل يحمل لهم الطعام كانوا قد قرروا التخلص منه، فإذا به يجد نفسه يلقي في بئر عميق ثم يباع إلى الإسماعيليين التجار الذين كانوا في طريقهم إلى مصر والذين باعوه بدورهم إلى فوطيفار خصي فرعون .. رئيس الشرطة، هنا بدأ الاختبار الأول ونجح فيه بامتياز رغم أنه دخل السجن، فقد رفض الزنا ورفض أن يخون الأمانة مع أن الخطية كانت مقدمة أمامه على طبق من فضة.
وفي السجن يحفظه الله ويجعل له نعمة في عيني رئيس بيت السجن ، ثم يفسر الحلم لفرعون، فيقول فرعون لعبيده : “هل نجد في كل أرض مصر مثل هذا رجلا فيه روح الله . ثم قال فرعون ليوسف بعدما أعلمك الله كل هذا ليس بصير وحكيم مثلك … قد جعلتك على كل أرض مصر”.
ولتكتمل السعادة أعطاه فرعون أسنات ابنة فوطي فارع كاهن أون زوجة، وولد ليوسف ابنان، دعا يوسف ابنه البكر منسي، قائلا: “لأن الله أنساني كل تعبي وكل بيت أبي”، ودعا اسم الثاني أفرايم، قائلا “لأن الله جعلني مثمرا في أرض مذلتي ” .
غربة موسي :
وبالفعل استعبد المصريون بني إسرائيل ولم يكتفوا بذلك بل أمر فرعون بقتل كل طفل ذكر يولد من أبناء العبرانيين، وينقذ موسى من الغرق بتدبير إلهي و يعيش في قصر فرعون ، لكنه عندما يخرج إلى أخوته يدرك مدى الذل الذي يتعرض له شعبه، فيتهور ويقتل مصريًا كان يهاجم أحد أخوته، ويضطر للهرب من وجه فرعون، فيبدأ رحلة غربة تمتد 40 عاما، حيث يسكن في أرض مديان ويتزوج صفورة وينجب أولادًا، وهناك يرى العليقة المشتعلة التي لا تحترق. ويعده الرب ويصقله روحيا على مدى الـ40 عاما ليكون النبي الذي يخلص شعب إسرائيل من عبودية المصريين ، فيخرجون بمعجزة الهية ونصرة قوية تحتفل بها الأجيال حتى الآن .
ايليا يتغرب بأمر الرب :
ظهر إيليا النبي في فترة ساد فيها الظلام على المملكة العبرية المنقسمة شمالا وجنوبا، أعقبت العصر الذهبي للدولة العبرية إبان فترة حكم داود النبي وسليمان الحكيم، فقد حكم ملوك فاسدين ومالوا إلى عبادة الأوثان وكل رجاساتها، وكان آخاب ابن عمري أشر ملوك إسرائيل، فقد سيطرت عليه زوجته ايزابل التي عبدت الأوثان و اضطهدت الكهنة وأنبياء الله وقتلت منهم الكثيرين، و استطاعت بمساعدة كهنة البعل أن تجتذب الشعب لعبادة البعل .
وفي وسط كل هذا الظلام ظهر ايليا ( من مستوطني جلعاد) وذهب لآخاب الملك، وقال له:”حي هو الرب إله إسرائيل الذي وقفت أمامه أنه لايكون طل ولا مطر في هذه السنين إلا عند قولي .” ، وأمر الرب إيليا، قائلا: “انطلق من هنا واتجه نحوالمشرق واختبيء عند نهر كريت الذي هو مقابل الأردن فتشرب من النهر وقد أمرت الغربان أن تعولك هناك.. “، وكانت الغربان تأتي إليه بخبز ولحم صباحا وبخبز ولحم مساءً .. وكان بعد مدة من الزمن أن النهر يبس لأنه لم يكن مطر في ا و يأمر الرب إيليا ليرحل مرة أخرى إلى لمجهول : ” قم اذهب إلى صدفة التي لصيدون وأقم هناك، هوذا قد أمرت هناك امرأة أرملة أن تعولك . ” ، وإذا بايليا يكتشف أن الأرملة لا تملك إلا قليلا من الدقيق وقليلا من الزيت، وأنها ستخبزمنهما لتأكل هي وابنها للمرة الأخيرة ثم تنتظر الموت، لكن إيليا النبي قال لها إن كوار الدقيق لا يفرغ وكوز الزيت لا ينقص إلى أن يأتي اليوم الذي ينزل في كانت هذه المعجزة الأولى التي صنعها الرب علي يد إيليا النبي لكن الأرملة لم يكتمل إيمانها إلا بعد أن أقام لها إيليا ابنها من الموت، حينئذ قالت له “هذا الوقت علمت أنك رجل الله وأن كلام الرب في فمك حقا” وبأمر من الله يذهب لآخاب مرة أخرى ويوبخه ويبني مذبحا وتنزل نار من السماء تأكل المحرقة والحطب وتلحس الماء، كل ذلك أمام الشعب وأنبياء البعل، لكنه يهرب من شر ايزابل إلى حوريب، ثم يعود مرة أخرى لآخاب وينتهره لقتل نابوت اليزرعيلي ، ويتنبأ بخراب بيت آخاب
هكذا يكون هروب إيليا حسب مشيئة الله وفي كل مرة يعود بقوة ويظهر مجدالله على يديه، أما المفاجأة التي لم يتوقعها أحد فهي صعود ايليا إلى السماء، هكذا كانت معظم أيام حياته على الأرض غربة ، لكن هذا النبي الناري تقبلها بإيمان إلى أن جاءته المركبة النارية والتي شهدها تلميذه اليشع .
كيف نسبح في أرض غريبة؟
عبر داود النبي عن مشاعر بني إسرائيل أيام سبي بابل للمملكة الجنوبية (مملكة يهوذا ) عندما طلب منهم أن يرنموا إحدى تسابيحهم التي كانوا يتغنون بها في أورشليم، يقول في المزمور السابع والثلاثين : “على أنهار بابل هناك جلسنا. بكينا أيضا عندما تذكرنا صهيون، على الصفصاف في وسطها علقنا قيثاراتنا، لأنه هناك سألنا الذين سبونا أقوال التسابيح، ومعذبونا سألونا فرحا قائلين رنموا لنا من ترنيمات صهيون . كيف نسبح تسبيحة الرب في أرض غريبة، أن نسيتك يا أورشليم تنسي يميني ويلتصق لساني بحنكي إن لم أذكرك، إن لم أفضل أورشليم على أعظم فرحي .
كان هذا السبي في عهد الملك نبوخذ نصر الذي هدم كل القصور والمباني في أورشليم وأخذ غالبية الشعب اليهودي إلى السبي في بابل، ورغم كل محاولات البابليين لتوطين بني إسرائيل وإدماجهم في الحياة الجديدة، إلا أنهم تمسكوا بقوميتهم وإيمانهم بالله وعاداتهم وتقاليدهم، كانت نفوسهم حزينة، وقد علقوا قيثاراتهم فوق أشجار الصفصاف العالي لأنهم توقفوا عن استخدامها، لكنهم على الأقل لم يكسروها أو يلقوا بها بعيدا، كانوا لازال عندهم رجاء .
النبي الهارب:
إذا كان الكثير من الأنبياء قد تغربوا بأمر من الله وبتدبيره ولحكمة معينة ورسالة معينة في كل مرة، فإن يونان النبي رفض الانصياع إلى أمر الله بسبب خوفه وضعف إيمانه، وفضل الهروب، ولأن الرب رحيم أذاقه الويلات لكنه لم يهلكه بل قبل توبته وأنقذه و ارسله إلى أهل نينوي لينذرهم، ويؤكد لهم أنهم أن لم يتوبوا ويصوموا جميعا حتى الأطفال والبهائم فإن الرب سيهلكهم . لقد أعطى الرب ليونان درسا استفادت منه البشرية.. لا أحد يستطيع أن يهرب من وجه الرب وإن عصيان أوامره تكون نتيجته، أما الموت أو تجربة مريرة تجعل الإنسان يلجأ إلى الله وينسحق أمامه .