إذا نظرنا إلي الجو الموسيقي الذي نعيش فيه اليوم أصابتنا حسرة مريرة, تفقدنا الأمل في أن يرتفع هذا الفن الجميل لمستواه الفني إلي الآفاق المرجوة. فما أشبه ما يجري بيننا اليوم بنهر تحوطه من الجانبين مناظر جميلة بسيطة خلابة لكن مياهه عكرة تملؤها الشوائب فإذا ما أردنا أن تصفو هذه المياه وجب علينا أن نسير علي شاطئ هذا النهر حتي نصل إلي منبعه لندرس هنالك ما يجب لتنقية هذه المياه ورفع الشوائب منها.
ولكن هل يريد الناس, حقا, أن تصفو هذه المياه وتروق أو تراهم قد اعتادوا عليها وصارت أشبه بمثلهم الأعلي لا يحيدون عنه ولا يرضون عنه بديلا؟
ما أشبه تلك الحال بليلة ظلماء لا يري فيها المرء ما حوله ولا يتعرف فيها علي طريقه وكل أمله أن يتراءي له بصيص من نور يمهد له التعرف علي ما حوله والسير قدما في طريقه. هل لدينا موسيقي وهل هذه الموسيقي لنا ومنا أم تري هي خليط من عدة موسيقات أجنبية دخيلة استوطنت أرضنا وكيفت أمزجتنا علي مر الزمن؟
أتذكر أنني منذ عامين قد استمعت إلي تسجيل لترتيل ديني من القرن الأول المسيحي فدهشت أيما دهشة إذ توسطت مجموعته بعض الجمل الموسيقية القصيرة هي هي بعينها ما نسمعه اليوم في بعض المواويل وموسيقي المزمار البلدي, فلما سألت عن ذلك وصرحت برأيي حينئذ وهو أن هذه الجمل البلدية الصميمة ربما حشرت حشرا ضمن مجموعة التراتيل أجابني المختصون الحاضرون أن هذا مستحيل فتعاليم الكنيسة صارمة في ذلك وأن هذه التراتيل وصلت إلينا محفوظة عن ظهر قلب أبا عن جد وابنا عن أب دونما تغيير. فأجبت بأننا إذا فرضنا جدلا أنه علي مر الزمن قد تأثر نصفها بالمؤثرات المحلية الخارجية فإننا مضطرون إزاء هذه الحالة إلي الاعتراف بأن نصفها الآخر لاشك أصيل.
هذا هو منبع النهر يتمثل في قلب الفلاح وفي خفايا أركان كوخه- هذه الأركان الخفية التي أخفي في ثناياها أصالة شعوره وأصل فنه وحسه حيث لم تصل إليها مؤثرات قرون الاحتلال التي توالت علي هذا البلد الأمين فغيرت فيه ما غيرت- وعصفت فيه بما عصفت -ولكنها لم تتمكن من إطفاء هذا النور الصغير- هذا هو النور الذي سينير طريقنا- هذا هو القبس الصغير فجر موسيقانا الذي ستسطع عليه شمس المستقبل فنري أن لنا موسيقي أصيلة انحدرت لنا من قديم الزمن لها طابعها وعناصرها ومميزاتها وألوانها البهيجة- فماذا ينقصها إذن؟- ينقصها الصقل والتهذيب والارتفاع بها من مستواها البدائي المبسط إلي مستويات الثقافة العليا- إذ لا يخفي أن فنوننا قد تطورت في نصف القرن الأخير وسارت قدما علي أسس فنية ثقافية تتناسب مع مقومات ومقتضيات ثقافة القرن العشرين- فقد تقدمت فنون النحت والعمارة والتصوير والفنون التشكيلية وسايرها جنبا إلي جنب الشعر والأدب والقصة إلا الموسيقي فقد تخلفت في الركاب. لماذا؟ هل الموسيقي ما هي إلا أداة طرب فقط؟ كلا هي فن رفيع لا يقل عن الفنون الأخري أهمية كما أنه التاج الذي يوضع علي رأس أمة ليدل علي مدي ثقافتها في المكان الأعلي.
فلنرجع إذن لحظة إلي الوراء لنتتبع تطور الموسيقي ببلادنا خلال نصف القرن الأخير- فماذا نري؟- تتراءي لنا المشكلة التي طالما عني بها الموسيقيون وانصرفوا إلي محاولة حلها بكل ما أوتوا من جهد ومعرفة- أتكون شرقية في ألحانها المرسلة دون ارتكاز إلي قواعد البناء الميلودي أو الهارموني ودون خلق نسيجها وفق دقائق قواعد الكنترا بنط- أم يلزم أن تطبق عليها أساليب التأليف العالمي ولا أريد أن أقول الغربي إذ لست أري في فن الموسيقي إلا وحدة تنشد الإنسانية المطلقة دون ما تقيد بأية حدود جغرافية إذ إن الفن عامة والموسيقي خاصة يجب أن تكتب ناشدة الإنسانية وحسب -أما ما يبدو فيها من طابع نابع من المؤثرات المحلية ومن روح المجتمع الذي يعيش فيه الفنان فلا بأس به. إنما هو جزء من كل وفصل من كتاب إذ أننا عندما نعجب بموسيقي بتهوفن فإنها لا تأسرنا لأنها ألمانية وإنما لكونها موسيقي بتهوفن الذي ارتقي إلي حدود الإنسانية المطلقة فأضحي رمز النبوغ والمجد في سماء الكلاسيكية.
ولقد تشعبت الآراء واختلفت الاتجاهات لحل ما صوره المشتغلون بالموسيقي وقتئذ من أنه مشكلة المشكلات, وخاضت معهم الحكومة هذا الجهاد المرير فدعت في عام 1932 إلي مؤتمر دولي للموسيقي (الشرقية) بالقاهرة ونوقشت فيه هذه المشكلة إلي جانب مشكلة الجبل المعروفة باسم تدوين السلم الموسيقي والتي مازالت كالحمي الراجعة تعاود المريض من وقت لآخر فتقام لها اللجان وتطول بها الجلسات ولا تصل بنا إلي نتائج عن إبقاء ربع المقام وثلاثة أرباعه أو استبعادهما أو عن تهذيب السلم الموسيقي بتعديله واتباع السلم العالمي المنتظم الذي جاء وليد التجارب الطويلة والأبحاث المستفيضة.
ولكن المؤتمر المذكور انفض بعد أن اتخذ المؤتمرون وقتئذ قرارهم المشهور الذي جاء أشبه شيء بقول الشاعر الإنجليزي رديارد كيبلنج.. الشرق شرق والغرب غرب وهيهات أن يلتقيا.
وبعد انتهاء المؤتمر أقفل باب الجدل والمناقشات حينا وعاد حينا آخر- وتفرق الموسيقيون إلي فرق وشيع أهمها شيعة الجديد التي تنادي بإدخال الألحان الغربية في أغانينا وموسيقانا- وشيعة القديم التي تري أن في إدخال أساليب الغرب ما قد يمسخ موسيقانا فتصبح (كالمنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقي).
وقام دعاة التجديد باستعارة ما وسعهم استعادته من ألحان ومن أغان غربية نقلوها بحذافيرها إلي أغانيهم غافلين عن أن الاستعارة مهما أصابت من نجاح لدي المستمع الساذج فإنها ليست من أصالة أساليب الفن في شيء, فالفن, شرقيا كان أو غربيا, يقوم أساسا علي الابتكار والإجادة وقبل كل شيء علي الأمانة.
وظل أصحاب هذه المدرسة ومن حاكوهم النقل في بعض الأقطار الشقيقة ينشرون علينا أغاني تحمل فتاتا مشوهة من ألحان روسية أو إيطالية أو ألمانية, حتي أن موسيقي باخ ذات الطابع الديني الصارم والتركيب الرياضي الدقيق لم تسلم من يد الناقل الموسيقي لتحشر حشرا ضمن أغاني العشق والميوعة- ومما يؤسف له أن قد ساعدت هؤلاء القوم علي نشر كل هذا علي هذا النطاق الواسع المخيف سذاجة المستمع ببلادنا نظرا لقلة عدد المعاهد الموسيقية وقصورها عن تدريس أساليب التأليف الحديثة علي المستويات العالمية, وعدم وجود الفرصة الملائمة التي تتيح للناس الارتفاع بمستوي ثقافتهم الموسيقية بالاستماع إلي روائع الموسيقي العالمية.
هذه صورة ما يجري حاليا- هي صورة هذا النهر بمياهه العكرة- إلا أن السنين العشر الماضية قد توالت فيها الأحداث, مما يسمح لنا بأن نؤكد أن هذه المياه العكرة ستصفو, فقد قامت إلي جانب هذا كله حركة تجديد أصيلة تولاها نفر محدود من ذوي الثقافة الموسيقية العالية, راعهم الأمر وعز عليهم أن تتخلف الموسيقي عن الركب وأن تتعثر في أذيال الموسيقات الأخري وأن تتبع الأغاني المائعة كخادم يتبع سيدهم, فقاموا بعملية عكسية أصيلة بنيت علي أساس من الألحان الشعبية الأصيلة وحاولوا في محاولات ناجحة صياغتها لمختلف الآلات وللأوركسترا الحديثة طبقا للأساليب العالمية محاولين بذلك رفع المستوي الثقافي للجمهور وعدم الانخفاض بمستوي الفن والانحدار به إلي مستوي عقلية الجمهور الساذج كما أن هذه المؤلفات قد عزفت خارج البلاد ولاقت نجاحا مرموقا أكدت به إمكان الارتفاع بموسيقانا إلي الآفاق العالمية.
وإلي جانب هذا قامت بعض الجمعيات الموسيقية باستحضار كبار الفنانين لإحياء حفلات موسيقية- وزارتنا كبار الفرق السيمفونية مثل أوركسترا فيلهارمونيك برلين بقيادة فورت فانجلر وأوركسترا فيلهارمونيك فينا بقيادة كليمانس كراوس وأوركسترا فيلهارمونيك بلغراد بقيادة جيكا زورافكوفتش فتفتحت أذهان الناس إلي أن هنالك آفاقا أخري واسعة في عالم الموسيقي وإنها لا تقتصر علي أغاني العشق والهيام ذات الطابع المبتذل التي تصبحنا وتمسينا كل يوم بفضل برامج الإذاعة, فبدأ الناس يتذوقون هذه الموسيقي العالمية ويشعرون أنها ترتفع بذوقهم وبحسهم وبروحهم فأقبلوا علي شراء الأسطوانات وانشأوا فيما بينهم جماعات للاستماع الموسيقي الرفيع وأقاموا حفلات للموسيقي المسجلة- وأذكر علي سبيل المثال فقط أن نادي المعادي الرياضي دأب منذ عشر سنوات علي إحياء حفلات موسيقية أسبوعية كما أن مكتبته الموسيقية تعد اليوم بحق من أغني مكتبات الموسيقي المسجلة ببلادنا.
وتنبهت دار الكتب إلي أهمية هذا التيار القوي فأنشأت منذ بضع سنوات مكتبة للموسيقي المسجلة وللكتب الموسيقية وأطلقت عليها اسم مكتبة الفن- ثم بدأت الإذاعة أيضا تنتبه إلي هذه الروح الجديدة فأنشأت البرنامج الثاني وأفسحت فيه المجال للموسيقي العالمية علي نطاق واسع فنظمت فترات الاستماع يصاحبه تحليل للمقطوعات المستحقة إلي جانب أحاديث مسلسلة توافر علي أدائها بعض الموسيقيين المتخصصين.
ونشطت حركة الاستماع الموسيقي لروائع الفن العالمي عندما أنشأت وزارة الثقافة والإرشاد القومي أوركسترا القاهرة السيمفوني وزادت عدد عازفيه إلي الحد الذي أصبح معه قادرا علي عزف معظم البرامج الموسيقية من مختلف العصور ونظمت له مواسم تقام فيها الحفلات الموسيقية كل أسبوع صباحا للطلبة بأجر مخفض زهيد ومساء للجمهور كما أنها توافرت علي نشر تعليقات علي البرامج تعين المستمع علي تذوق الأعمال الموسيقية وتفهمها.
وإزاء هذه الحركة المباركة قامت حكومة الجمهورية العربية المتحدة بإنشاء المعهد القومي العالي للموسيقي (الكونسرفاتوار) شاملا كل فروع الموسيقي النظرية والعملية بما في ذلك العزف علي الآلات المختلفة والغناء ناشدة بذلك تمهيد الطريق لتخريج أفواج من الموسيقيين المتخصصين في العزف وفي التأليف الموسيقي طبقا للمستويات العالمية وتمهيدا لإرساء حركة تطوير الموسيقي العربية علي أساس سليم, كما أنها قررت أن يكون الالتحاق بهذا المعهد القومي بمسابقات عامة, وإذا راعينا أن هذا المعهد الذي لم يمض علي إنشائه أكثر من بضعة شهور يضم في سنته الأولي حوالي مائتي طالب وطالبة منهم مائة وخمسون بالقسم الاعدادي وسبعة عشر بالقسم الثانوي واثنان وثلاثون بالقسم العالي لتبين لنا في وضوح مدي استجابة الوعي العام للإقبال علي الانتظام في الدراسات الموسيقية العليا كما أننا إذا قارنا هذا الحدث التاريخي الأصيل بكونسرفاتوار فينا الذي حوي عند إنشائه مالا يزيد علي أثني عشر طالبا فقط لتبين لنا في جلاء مدي الرغبة الشديدة لدي جمهور المواطنين ومدي استعدادهم للرغبة في تذوق هذا الفن الأصيل ودراسته دراسة جدية.
بهذا يتبين لنا أن الهيئات الرسمية وغيرها قد بدأت فعلا في الشعور بوجوب المساهمة الفعالة في هذا الميدان الثقافي- ويبقي الشطر الأكبر ملقي علي كاهل شبابنا فعليه وحده أن ينقطع للاستذكار والعمل المتواصل مادامت السبيل قد تمهدت أمامه. حقا إنني لكبير الأمل في أن نتوج هذه المجهودات في بحر السنوات العشر القادمة بتوافر حفنة قليلة من المختصين المثقفين يفتحون بدورهم الباب علي مصراعيه لأفواج أخري حتي تصير هذه القطرة الصافية هذا النهر العظيم ذا الماء الرقراق.