“امرأة فاضلة من يجدها لأن ثمنها يفوق اللآليء .. هي كسفن التاجر تجلب طعامها من بعيد، وتقوم اذ الليل بعد وتعطي أكلا لأهل بيتها وفريضة لفتياتها .. سراجها لا ينطفيء في الليل، تمد يديها إلى المغزل وتمسك كفاها بالفلكة، تبسط كفيها للفقير وتمد يديها إلى المسكين .. لا تخشى على بيتها من الثلج لأن كل أهل بيتها لابسون حللا .. العز والبهاء لباسها وتضحك علي الزمن الآتي .. يقوم أولادها ويطوبونها .. أعطوها من ثمر يديها ولتمدحها أعمالها في الأبواب .” ، هذه هي المرأة والأم الفاضلة التي وصفها سليمان الحكيم في سفر الأمثال ( أم 31 10 – 31 ) .. الأم الفاضلة التي نحتفل بها، التي ننحني احتراما أمام تضحياتها ونشكر الرب لأنه أعطانا هذه الأم، وهي محفورة في قلب وذاكرة كل انسان شبع من حنان وخير أمه وشبع من تضحياتها وإنكارها لذاتها كي يخرج إلى النور أولادها في أبهى صورة من النجاح والطموح ويصنعوا هم بدورهم مستقبل الأجيال الجديدة ، هذه هي الآم التي شبعت الأجيال من حكمتها وتعبها وسهرها ودموعها وسط التجارب والآلام . لكنها قوية بإيمانها وفضائلها، ”
العز والبهاء لباسها ، وتضحك علي الزمن الآتي ” ، انها لا تخاف من الغد ولا تنزعج من أية مفاجآت قادمة لأن استقامتها وشقاءها وأعمالها الحسنة قد أعطتها حصانة قوية وشعورا بالأمان والسلام .
قال عنها الحكيم المصري سنب حتب : ” الأم هي هبة الاله ، ضاعف لها العطاء فقد أعطتك كل حنانها ، ضاعف لها الغذاء فقد غذتك من عصارة جسدها ، اذكرها دائما في صلاتك وفي دعائك الي الاله الأعظم ، فكلما تذكرتها تذكرتك وبذلك ترضي الله، فرضاؤه يأتي من رضائها عنك .”
ويقول الحكيم المصري آني: الأم هبة الله للأرض فقد أودع الله فيها سر الوجود، فوجودها استمرار لوجود البشرية .” ، ويقول آني أيضا: ” اجلب الرضا إلى قلب أمك والشرف إلى بيت أبيك . ”
أما الحكيم كاجني فالأم في نظره فى أعلى مرتبة أمام الله، “إذا مات الأب هتفت الملائكة مات من كان يكرمك الناس من أجله ، واذا ماتت الأم هتفت الملائكة ماتت من كان يكرمك الله من أجلها . ” ! ” دعاء الأبناء لا يصل إلى آذان السماء إلا إذا خرج من أفواه الأمهات . ” .
واذا كانت كل أم حنونة وامينة على أولادها وبيتها تستحق التكريم فهناك الكثير من النساء اللاتي لعبن دور الأم بكل إخلاص وتفان رغم أنهن لم ينجبن أطفالا بالجسد، بل أن بعضهن كن متبتلات كرسن حياتهن للخدمة، نذكر منهن على سبيل المثال وليس الحصر ليليان تراشر والأم تريزا وكارولين طحان، أو كن متزوجات ولهن أولاد بالجسد وبعد أن كبر الأولاد كرسن حياتهن لخدمة الأطفال الفقراء مثل الأم ماجي، كل هؤلاء الأمهات الفاضلات يجب علينا أن نتذكرهن ليس فقط لنكرمهن بل لكي نقتدي بهن ولتكن نبراسا للجميع .
من فلوريدا إلى أسيوط :
ليليان تراشر فتاة أمريكية من مواليد 27 سبتمبر 1887 بولاية فلوريدا، كانت شابة جميلة مخطوبة نشأت في أسرة مسيحية محافظة، تركت خطيبها لآنه رفض فكرة سفرها إلى مصر لخدمة الفقراء ، وكانت ليليان قد شاركت لأول مرة في حياتها في رعاية الأيتام في ملجأ ميس بيري، ثم ذهبت لمعهد الهناء للتدريب، وتعلمت الطبخ والخياطة والعناية بالأطفال اليتامى، وشاركت في حملات تبشيرية داخل الولايات المتحدة الأمريكية ، وفي عام 1905 التحقت باحدي مدارس الكتاب المقدس ، وهكذا تشبعت ليليان بالحياة الروحية وفضلتها عن الزواج وخاصة بعد أن شعرت أن الرب يدعوها للذهاب إلى مصر لرعاية الفقراء .
ويبدو أن الرب قد أرشدها للذهاب إلى أسيوط بالذات اذ كان في انتظارها حالات كثيرة جدا من الأطفال اليتامى والفقراء في أشد الاحتياج للرعاية، وقد وصلت إلى أسيوط في 26 أكتوبر عام 1910، وافتتحت ملجأ ليليان تراشر للأيتام في 10 فبراير عام 1911 ، وهو أول ملجأ للأيتام في مصر كلها .
لم يكن جمع التبرعات بالأمر اليسير في تلك المرحلة، كانت ليليان تجوب جميع قرى أسيوط فوق حمار لتجمع القليل من التبرعات ، وكان جيرانها يساعدونها، ومع مرور الوقت بدأت التبرعات تأتي لها من الخارج، كانت تبدأ يومها من السابعة صباحا، تقوم بالحياكة لجميع الأطفال . تطور المشروع ليصبح مدرسة ابتدائية، و3 حمامات سباحة ومبان للسكن وللتدريب المهني والادارة .
تخرج من الملجأ أكثر من 25 ألف شخص ومساحته 12 فدان ، ذهب رئيس مصر السابق محمد نجيب وكتب لها : ” العزيزة ميس ليليان لم يسعدني شيئا بقدر ما شاهدته اليوم حتي تصورت أني أحلم بجنة الانسانية التي أتخيلها دائما حتي رأيتها اليوم حقيقة رائعة ، فالعناية بالضعفاء من أطفال وأيتام وعجزة، بنين وبنات تتجلي هنا بكل ما في معاني الإنسانية من قوة، فشكرا لميس ليليان ولجميع العاملين بهذه المؤسسة .
زارها أيضا الرئيس عبد الناصر وكتب لها: ” أكتب لك شاكرا وأريد أن أخبرك أن عملك مع الأيتام يقدره كل مواطن في هذا البلد واتمنى لك استمرارية النجاح في خدمتك الاجتماعية ”
وها انذا باسم كل مصري أقول لك: ” أمي ليليان تراشر لن أنسى أنك أفنيت أجمل أيام عمرك على مدى خمسين عاما متواصلة منذ بداية تأسيسك للملجأ عام 1911 وحتى فاضت روحك إلى الفردوس عام 1961، تركت وطنك وأسرتك وخطيبك وأتيت إلى بلدنا لتؤسسسي مكانا للرحمة والمحبة والخدمة . سلاما لروحك أيتها القديسة . إنعمي بالأبدية . ”
الأم تريزا :
لم تكن ليليان تراشر هي ملاك الرحمة الوحيد الذي ترك أسرته ليعيش حياة البتولية ويكرس حياته لخدمة الفقراء وكل الضعفاء ، والعالم كله يعرف الراهبة الهندية (من أصل صربي) الزاهدة الأم تريزا، اسمها الأصلي أجنيس جونكزا بوجاكسيو، ولدت في 26 أغسطس عام 1910 في قرية سوكجية، هاجرت عائلتها إلى يوغوسلافي، تم تعميدها بعد مولدها بيوم واحد، توفى والدها وهي في الثامنة من عمرها .
كان لديها اشتياق للرهبنة فتركت أسرتها عام 1928 للانضمام إلى راهبات إلى إحدى الآديرة في أيرلندا لتتعلم الإنجليزية ولتصبح مبشرة، ثم سافرت إلى ولاية البنغال الهندية، وتم سيامتها راهبة عام 1931، واختارت لنفسها اسم الأم تريزا، و هناك شعرت أن الحياة داخل الدير رفاهية وتنعم، وأن الجهاد الحقيقي هو في خدمة المحتاجين، واتخذت قرارا حاسما بأن تكون ليست فقط معينة لكل من ليس له معين بل معينة لكل الذين يشعرون بالدونية، كل المنبوذين والمكروهين والمحتقرين، فقد ذهبت لتساعد المشردين في الشوارع، الجوعي والعراة، والمصابين بأمراض معدية .. مرضى الجذام والبرص .. والمصابين بالايدز، ومدمني الكحول أيضا .
القرآن ومسحة المرضي:
وامتدت خدماتها للمسنين والمفلوجين والمكفوفين، وضحايا الفيضانات والأوبئة، وحتى الذين كانوا يحتضرون وليس لديهم أي أمل في الحياة هؤلاء أيضا أسست لهم دارا بموافقة المسؤولين في كلكتا، حيث تم تحويل معبد هندوسي إلى دار أطلقت عليه اسم “منزل القلب النقي ” حيث يتلقون الرعاية الصحية وفرصة للموت بكرامة حسب معتقداتهم، فالمسلمون كانوا يقرأون القرآن والمسيحيون تقام لهم صلوات مسحة المرضى، والبوذيون تجلب لهم المياه من نهر الجانج، إنه في نظر الأم تريزا” موت جميل مخصص للأشخاص الذين عاشوا كالحيوانات ليرحلوا كالملائكة محبوبين ومرغوبين .”
أسست في عام 1950 جمعية راهبات المحبة التي اهتمت بالأطفال المشردين والعجزة، وأسست جمعية أخوة المحبة عام 1963 الخاصة وزاد عدد الراهبات اللاتي يخدمن معها حتى أصبحت الأم تريزا تقود أكثر من 4000 راهبة تعمل جميعهن في دور أيتام ومراكز خيرية في جميع أنحاء العالم . سافرت الأم تريزا إلى أثيوبيا وهي في الخامسة والسبعين من عمرها عندما حدثت مجاعة عام 1972 واستمرت حتى 1973 .. لتنقذ المنكوبين هناك .
مرسلات المحبة للأم تريزا :
حضرت إلى مصر “مرسلات المحبة للأم تريزا دي كلكوتا” عام 1981 بناء على دعوة من المطران ايجيديو سامبييري مطران اللاتي، ، وبدأن الخدمة لكل المحتاجين دون تفرقة دينية أو عنصرية، وأسسن ملاجيء للمسنين الأكثر فقرا والأطفال المعوقين وفصول لتعليم الحياكة ومستوصفات وزيارات للعائلات . وقد أسسن أربعة أديرة في مصر بالفجالة والإسكندرية وأسيوط والمقطم .
العقاقير وحدها لا تكفي:
من أجمل أقوالها: “إذا أردت أن تعيد انسانا للحياة ضع في طريقه انسانا يحبه فالعقاقير وحدها لا تكفي”
“أنا قلم رصاص في يد الرب الذي يكتب رسالة محبة للعالم” ، ” اذا لم تستطع أن تطعم مائة شخص فاطعم شخصا واحدا” ، “البشر غير عقلانيين وغير منطقيين وأنانيين، أحببهم رغم كل هذه الصفات” ، الجوع إلى المحبة أعظم من الجوع إلى الخبز ”
في عام 1962 منحتها الحكومة الهندية جائزة “ندما شري” ومنحتها جائزة جواهر لال نهرو عام 1979 ،نالت أيضا جائزة نوبل للسلام عام 1979 ، وميدالية الحرية من رونالد ريجان . رحلت عام 1997 وأقيمت لها جنازة مهيبة في الهند بعد أن تركت لنا ميراثا عظيما من المحبة الباذلة والتواضع .
ماما ماجي :
ها هي السيدة المصرية ماجدة جبران الشهيرة ب ماما ماجي، تترك حياة الرفاهية ومنصبها كأستاذة بالجامعة الأمريكية لتتفرغ تماما لخدمة المحتاجين، أسست منظمة “ستيفن تشيلدرن” لخدمة الأطفال المحتاجين في حي المقطم المعروف بحي الزبالين، أسست 92 مركزا لرعاية الأطفال، و92 عيادة تساهم في علاج حوالي 40 ألف مريض سنويا، وأنشأت 3 مراكز للتدريب المهني، تقود مراكز لتعليم الزراعة والطهو ومجموعة حرف لمساعدة الفقراء على التكسب منها . يعمل مع ماما ماجي حوالي 2000 متطوع مسؤولين عن خدمة أكثر من 60 ألف اسرة .
نالت ماما ماجي جائزة “تكريم للخدمات الإنسانية والمدنية” من دولة الكويت، ونالت جائزة صناع الأمل من الأمير محمد بن راشد آل نهيان حاكم دبي، وهي عبارة عن مليون درهم اماراتي، وكرمها الرئيس السيسي أيضا منذ عامين ، وأخيرا كرمتها الولايات المتحدة بمنحها جائزة المرأة الدولية للشجاعة في يوم المرأة العالمي للعام الحالي 2019 ، و كان ذلك هو الحفل الذي يقام للعام ال13على التوالي في مقر وزارة الخارجية في واشنطن وحضرته ميلانيا ترامب ووزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو .
تؤكد ماما ماجي علي أهمية الخدمة الفردية والاهتمام بكل فرد علي حدة ، وكل احتياجاته بدقة شديدة .. المادية والنفسية والروحية ، وهي تقول : ” لاشيء يساوي قيمة الإنسان، قيمة الإنسان أعظم قيمة في الوجود، فالإنسان الذي يعاني من احتياج مادي لا يمنع ذلك أنه غني نفسيا وعقليا وروحيا، فلو حاولنا اعطاءه الفرصة سوف يخرج ما بداخله من هذه القيمة . ”
كارولين طحان :
هي راهبة سورية من مواليد عام 1971 في مدينة حلب، تنتمي لراهبات بنات مريم أم المعونة لراهبات الساليسايان، حصلت على شهادة في علوم الكيمياء، بدأت الرهبنة عام 2003 ، ودرست في الجامعة اليسوعية في مدينة عمان الأردنية، عملت كمديرة لمدرسة دون بوسكو في دمشق، وقامت بادارة مدرسة تمريض في دمشق أنشأتها ادارة الدير كمكان آمن يستطيع أكثر من 200 طفل تعرضوا للصدمات جراء الحرب في سوريا، سواء كانوا مسيحيين أو مسلمين أن يتلقوا الرعاية النفسية .
بالإضافة إلى تلك المدرسة أدارت الأخت كارولين المعروفة ب كارول .. ورشة خياطة بالتعاون مع المفوض السامي الأعلى لشؤون اللاجئين، وذلك لتوفير الدعم الذي تحتاجه النساء المهاجرات العراقيات والسوريات أيضا .
فازت بجائزة المراة الدولية للشجاعة عام 2017 وتسلمتها في واشنطن من السيدة ميلانيا ترامب، ولازال أمام الأخت كارولين طحان رحلة طويلة من العطاء فهي لازالت في مقتبل العمر، ولا زال في انتظارها هي وكل من يعمل معها الكثير من النساء المهاجرات والأطفال المتعبين والفقراء الباحثين عن فرص لكسب العيش .
هذه نماذج عظيمة لنساء كرسن حياتهن لخدمة أطفال لم ينجبوهن، بل وأطفال من أجناس مختلفة وأديان مختلفة دون تمييز . تحية لروح كل أم باذلة رحلت ونحن نقول لهن اننا لازلنا نشتم رائحة بخور المحبة التي تركتنها لنا علي هذه الأرض، وباسم جريدة وطني نقدم تحية اعزاز وتقدير لماما ماجي والأخت كارولين طحان .