يشهد المجتمع المصري في السنوات الأخيرة نوعا غريبا من الأحداث والحوادث التي يمكن وصفها بأنها كارثية وتعتبر مؤشرا مفزعا علي انحدار هائل في السلوك وغياب الضمير,البعض يحيل ذلك إلي الفقر ومايفعله في السلوك الإنساني,ولكن تأمل الحكاية بوعي وموضوعية سوف تكتشف أن الفقر لم يكن دافعا للزوج الذي ذبح زوجته وأطفاله الثلاثة لسبب لايعلمه إلا الله, ولم تنجح السلطات في الوصول إلي الحالة الذهنية والنفسية التي كان عليها القاتل عندما أقدم علي فعلته, والفقر أيضا لم يكن دافعا للأم التي كادت تودي بحياة ابنها الذي عرضته للسقوط من ارتفاع عدة أدوار في مشهد خلع قلوب المصريين حيث دفعته بقسوة للقفز إلي بلكون الشقة لأنه نسي المفتاح داخلها! مال الفقر بهذه الحالة, خاصة أن الأم اعترفت أن حكاية المفتاح قد تكررت أكثر من مره, وفي مرات سابقة كانت تدفع أحد أبنائها ليتسلق البلكون ليفتح لها باب الشقة, ولم تفكر في أي من تلك المرات أن تصنع نسخة احتياطية من مفتاح الشقة لتكون في حوزتها حتي إذا نسي أي من أطفالها المفتاحوهو شيء وارد جدا لاتحتاج للمخاطرة بحياة الأبناء بهذه القسوة!
اعتاد الناس إلقاء التهم جزافا علي الفقر, وعلي السينما والفنون عامة, فكلما حدثت جريمة غير أخلاقية وغير إنسانية, أستسهل البعض التفسير وأدانوا الفنون بتغيير سلوكيات المصريين! رغم أن الواقع يشهد سلوكيات مرعبة لم تخطر في ذهن أي مبدع ونأتي إلي جدلية هل تأخذ الفنون من الواقع مادتها أم أنها ـ أي فنون السينما والدراما التليفزيونية ـ تسهم في فرض سلوكيات جديدة علي الواقع؟
الابحاث النظرية غالبا ماتميل إلي تفسيرات مريحه لتلقي بالاتهام علي المبدعين وإذا سألت بشكل عشوائي عشرة أشخاص من طبقات اجتماعية مختلفة: مارأيك في أفلام السينما في الوقت الراهن؟ فسوف يجيب الإجابة النموذجية المحفوظة: أنها أسهمت في زيادة نسبة العنف في المجتمع وسوف يضيف أن الشباب يقلدون نجوم السينما وهذا أحد أسباب زيادة نسبة العنف في الشارع المصري!.
هذه الإجابة ناتجة عن الالحاح الإعلامي الذي يلقي علي السينما كل هموم المجتمع ويتناسي عمدا,الأسباب الحقيقية التي يمكن أن يلاحظها أي باحث موضوعي فتدني مستوي التعليم,وغياب العدالة الاجتماعية وقلة فرص العمل أدت إلي فوضي في الشارع المصري استيراد سلوكيات من مجتمعات أقل تحضرا انتشار العشوائيات وانتشار مظاهر دينية خادعة ومزيفة غير نابعة من تدين حقيقي صعوبة الحصول علي وسائل الثقافة مثل الكتاب والمسرح,وتدهور منافذ السينما بعد غلق عشرات من دور العرض في كافة محافظات مصر حتي قصور الثقافة لم يعد لها دور وتوقف برامج الموسيقي والمسرح والسينما فقد كان جيلنا محظوظا لأنه تربي علي برامج نادي السينما وأوسكار وزووم وهي برامج كان يقدمها التليفزيون المصري وأسهمت في خلق أجيال واعيه عاشقة للسينما ومتابعة لكل التيارات الفنية.
تربينا علي برامج الباليه والموسيقي الكلاسيك بالإضافة للموسيقي العربية!وحتي البرامج الرياضية كانت أكثر رقيا ولاتقتصر علي مناقشات كرة القدم فقط تلك البرامج التي أصبحت ساحة معركة يتبادل مقدموها التطاول والبذاءات بعد أن كانت تلك البرامج تلقي الضوء علي مباريات التنس والاسكواش وكرة الماء وغيرها مما خلق جمهورا عاشقا لتلك الرياضات وعدم الاكتفاء بكرة القدم بمعني أن الدولة رفعت يدها تماما عن نشر الثقافة التي هي أفضل وسيلة لمقاومة القبح والعنف والحفاظ علي هوية المجتمع المصري مع ترك الساحة تماما للتيارات السلفية التي سحبت المجتمع لعصور غارقة في جهلها.
فمن يقول إن تلك التيارات تعمل بنشاط وحرية لتدمير أي نوافذ للثقافة والمتعة, في معرض الكتاب منعوا الأنشطة الفنية التي كانت تقدمها فرق موسيقي ورقص فولكلوري شعبي ولم تتحرك الجهات المعنية لحماية الناس من بطش السلفيين والظلاميين وإذا مددنا الخيوط علي استقامتها فيجب أن نتساءل: أين ذهبت فرق الفنون الشعبيةرضا-القومي التي كانت في يوم تقدم رقصات ممتعة من كل محافظات مصر,وقد تحول راقصوها إلي نجوم يعشقهم الجماهير في مصر وكافة انحاء الوطن العربي؟ تلك الفرق كانت تابعة للدولة ولكنها لم تنجح في إدارتها وتركتها تتآكل وتتحلل بينما دول مثل روسيا تعتبر فرقة البولشوي من أهم منجزاتها الحضارية بل الحفاظ علي بريق الفرقة يدخل في بند الحفاظ علي الأمن القومي بحيث لاتسمح لراقصي الفرقة بالهجرة للخارج أو التوقف عن العمل!!تعلمت الأمم والشعوب المتحضرة أن الفنون بكافة أشكالها وألوانها هي حائط الصد ضد أي محاولات لهدم هيكل المجتمع بينما نحن تركنا الجهلاء يقضون علي معظم أوجه الإبداع وكلما وقعت كارثة مجتمعية ألقينا التهم علي الفنون ومبدعيها وألقينا عليهم تبعه كل تراجع سلوكي, مصر كانت هوليوود الشرق ولن تستعيد مجدها وبريقها ودورها الريادي في المنطقة سوي باحترام الفنون وتدعيمها ومنح المبدعين حرية التعبير وإلا غرقنا جميعا في الظلام الدامس.