– والله وصبحت عريس يا برهومة
– اسكت. كارثة ، مصيبة!
– ومتى كان الزواج كارثة؟
– ليس زواجا.. هذا عقاب من أبي
– على ماذا يعاقبك؟
– لم أحصل على مجموع في الثانوية العامة ولم أدخل الجامعة .
– لكن كيف تفسر ذلك عقابا؟
– حكم على أن أتزوج قريبتي وأن أرث وظيفة أبيها.
– لم تعد الوظائف تورث يا صديقي منذ قيام الثورة
– أدخلني مدرسة الحركة لكي أعمل كمساريا بالسكة الحديد أو معاون محطة مثل أبيها.
ضحكت كثيرا من هذا الكلام، لم تكن المرة الأولى التي يضحكني فيها برهومة. فقد كان زميل الدراسة وأقرب الأصدقاء إلى قلبي.
كان صديقا ودودا وصريحا لا يعرف الخبث سبيلا إلى قلبه، لكنه كان عاطفيا جدا متقلب المزاج، وكان تقلبه يرجع إلى مفاهيمه الدينية وتزمته. فوالده فلاح ضيق الأفق ذوعقلية جامدة بحيث لا يسمح لأولاده بأي نوع من حرية الرأي أو حرية التصرف أو حتى الإفصاح عن مشاعرهم.
وكان جو الكبت المطبق على برهومة في المنزل يكاد يخنقه لكنه لا يجرؤ على التزمر، ومنثم أصبحت المدرسة هي المتنفس الوحيد لأحاسيسه المكبوتة.
فما أسهل أن يندفع برهومه مع كل عاطفة جياشة أو حركة اعتراض أو تهكم أو سخرية، بل إنه كان يقود بعض حركات الضجيج والفوضى في الفصل، حين كان يقوم بتقليد حركات المدرسين وكثيرا ما كانت تحركه الرغبة إلى ذلك في أثناء الشرح والمدرس منهمك بكتابة الدرس على السبورة وفجأة ينفجرتلاميذ الفصل في الضحك ويفاجأ المدرس بهذا الانفجار فيلتفت وراءه فلا يجد شيئا. لكن بمرور الزمن انكشف أمر برهومة وعرف أنه هو مصدر الضحك والإزعاج والفوضى في المدرسة. ورغم طيبته وحب المدرسين والتلاميذ له إلا أنه لم يكن يفلت من العقاب خصوصا وأنه لم يكن متفوقا في دراسته وكان من أرباب الملاحق أو الدور الثاني في أغلب سنين دراسته.
وحدث ذات يوم أن كان ناظر المدرسة يمرعلى الفصول ويتابع أوضاع المدرسين والتلاميذ من خلال النوافذ المتوحة على الطرقات ووجد برهومه يقلب صفحات مجلة مصورة أمامه وهو مستغرق في صور بعض الفنانات الجميلات غير مبال بالدرس الذي كان يكتبه الأستاذ على السبورة، فناداه الناظر خارج الفصل وطرده من المدرسة لحين حضور ولي أمره.
خرج برهومة من باب المدرسة حزينا كسيف البال ليجد أمامه فلاحا ملتحفا بعباءة كالحة فتقدم منه وشكى له أمره فرق الفلاح لحاله. فطلب منه برهومة أن يذهب معه إلى الناظر باعتباره والده.
ودخل الرجل معه، ولكن المشرف إبراهيم الملاح كان يعرف والده تماما من كثرة تردده على المدرسة فراح يضحك، وصرف الفلاح بلباقة دون أن يجرح شعوره، واضطر برهومة أن يستدعى والده لمقابلة الناظر.
وعند خروجي في بداية الفسحة باليوم التالي وجدت برهومة يجري نحوي: تعالى شوف المجانين دول واسمع بيقولوا إيه.. وأسرعت معه فوجدت والده والناظر يتحدثان في الطرقة.
والده: أيوه ياحضرة الناظر.. أنا عارف ابني فسدان وبتاع نسوان.
الناظر: ده لازم يتربى كويس
الوالد: معلهش يابيه.. أنا غلبت معاه والبركة فيك.. اضربه اكسر عضمه وأنا على العلاج.. ربيه أنت.
ولما لم نستطع الاستمرار في سماع هذا الحديث الهازل ابتعدنا ورحنا في الضحك والتندر على عقليات الأب والناظر معا.
كان والده فلاحا متزمتا لايكاد يعرف القراءة والكتابة، ورث قطعة أرض عن أبيه واستطاع بجده وصرامته وتقتيره أن ينميها وأن يزيد رقعتها، ثم جاءت قوانين الإصلاح الزراعي لتتيح لكبارالإقطاعيين أن يبيعوا أجزاء من أراضيهم التي تزيد عن مائتي فدان لصغار المزارعيين.
وكانت فرصة ذهبية بالنسبة له فاشترى قطعة كبيرة ودفع مبلغا من ثمنها والباقي بالتقسيط على سنوات، وبدأ يكافح بجد ويجمع حوله أولاده للعمل في العطلات والأجازات وحتى في فترة بعد الظهر في أغلب الأيام حتى يمكنه دفع الأقساط.
وجعله ذلك يمارس عليهم نوعا من الصرامة والانضباط ويعتبر طاعته من طاعة الله . فأمره لا يناقش وطلبه لا يرد.
كان يعتقد أن اتساع أرضه وزيادة ثروته هي بركة إلهية ونعمة من الله نزلت مكافأة على شدة تدينه.
وبدأ يتمادى في التشدد بالنسبة لطقوس العقيدة المسيحية الأرثوذكسية؛ ويفرض على جميع أفراد العائلة الصلاة والصوم شهورا طويلة كل عام. وسارت الأمور على نحو أشبه بمعسكرات العمل ولم يستطع برهومه أن يتخلص من هذا الجو إلا بالوصول للمرحلة الثانوية التي تبعده عن بلده ليسكن في البندر وترحمه من العمل تحت رحمة أبيه.
وكانت فرصة لبرهومة أن يتنفس جو الحرية فيجلس مع زملائه أو يلعب معهم أو يذهب إلى السينما التي كان يسمع عنها ولا يراها. لكن السينما حرام هذا ما يقوله أبوه في كل مرة يذهب فيها إلى البلد أو يزوره في حجرته فيوصيه بأن بتجنب رفقاء السوء.
وأن يواصل الصوم والصلاة وإياك أن تذهب إلى السينما، الأفلام مليئة بالإغراء والفساد والخطيئة والويل لمن يخطىء فقراره جهنم في النار، حيث النار لا تطفأ والدود لا يموت.
ويتقلب برهومة في مخدعه بعد نشوة الفرح والسعادة والاندماج في قصة الفيلم.. كيف ينام؟ إنه يتذكر عبارات أبيه المنذرة بشديد العقاب، وبالعذاب في الآخرة وهكذا يطبر من عينيه النوم ويظل قلقا حتى الصباح. فأما أن ينام ويتأخرعن موعد المدرسة أو يذهب إلى المدرسة، وهو خائر القوى لا قدرة لديه على التركيز. وهكذا تضيع منه بعض الدروس، ويفشل في بعض الامتحانات وتكون الطامة الكبرى حين تذهب الشهادة إلى أبيه فيبدأ في أداء شعيرة التبكيت والتنكيت فيلطم خديه ويمد يده إلى الأرض أحيانا ويهيل على رأسه التراب وهويصرخ:
” أنا عارف كل حاجة.. أنا شايفك طول الليل مكفي على وجهك والكتاب قدامك مقلوب. لأن قلبك بعيد عن الرب.. أما زميلك يوسف فشاب مبروك دائما يطلع الأول لأنه مستقيم ومداوم على الصوم والصلاة”.
وكان برهومة ينقل إلى حديث أبيه فأضحك ويضحك معي.. فأنا كنت مستقيم حقا لكن بأسلوب بسيط وعادي أتابع دروسي وأكل ما يعجبني وأرتاح وقت ما أحس بالحاجة إلى الراحة. أزور أصدقائي وأشاركهم أرائهم البريئة وأذهب إلى السينما وأعود لأحكي لأمي وأخوتي الكبار ما رأيت، ويسعدون بمشاركتي لهم دون حديث عن الجنة أو النار أو الشعور بالذنب والخطيئة. وكنت أضحك على هذا الرجل المخدوع الذي يعتبر نفسه نموذجا للرجل البار، ولا يدري شيئا عن نتائج قسوته على أولاده جميعا. فتزمته الخطير الذى لا يفرق بين المرح البرىء والخطيئة ويثقل نفوس أبنائه بالإحساس بالذنب الذى ثقلت وطأته على نفس صديقى فجعلته ممزقا لايستقرعلى قراربين التفكير فى الجنة والخوف من النار.
كان لقائى به فرصة طيبة . فانا بطبعى لا أحترم هذا النوع من الأباء وأسخر من هؤلاء الوعاظ المنافقين وأؤمن بشىء واحد هوعقل الانسان وجهده وصدقه مع نفسه ومع الناس . فكنت أدعوه الى نسيان كل ما يقوله والده ويعتبره هذيان رجل مجنون و يعيش مثلى ومثل كتير من زملائنا ويترك نفسه على سجيتها يتقبل من الأكل ما يطيب له ومن الحياة ما ينسجم مع طبعه ولا يكلف نفسه الا ما يرتاح له من الفكر والسلوك حتى ينقذ روحه من التمزق ويركز على دروسه كما نفعل نحن . كنت فى معظم الأحيان أذهب إليه لأذاكر معه وأساعده فى فهم بعض المواد وخصوصا ما كنت اتفوق فيه كاللغة العربية والإنجليزية . لكنه لم يوفق فى الحصول على الثانوية العامة معى فى نفس العام واضطر لإعادتها بينما ذهبت أنا الى الجامعة ودخلت كلية الأداب التى أحبها. وفى العام التالى حصل هوعلى الثانوية العامة بمجموع ضعيف ، ورأى أبوه فى هذا دليلا أكيدا على انحراف ابنه ففرض عليه أن يدخل مدرسة الحركة التابعة للسكك الحديدية وفى نفس الوقت أخذه من يده الى بلد بعيد حيث عائلة قريب له وهناك خطب له ابنته الكبرى.
بالنسبة للأب كان المبرر أنها قريبته تخاف عليه وتشاركه حياته بطاعة ورضاء، والأهم من ذلك أن أباها المتوفى له قطعة أرض فى البلد تكها لإبنتيه وزواج برهومه من سميحة سوف يمكنه من امتلاكجزءا من هذه الأرض أيضا .أما برهومة فكان غاضبا لأنه أباهفرض عليه أن يخطب فتاه لم يرها من قبل ولا يعرفها . وحين رآها لأول مرة أقتنع بأنها ليست بالجمال الذى يعجبه لكنه لم يستطع أن يقول لا.
ودارت الأيام وسار كل شىء فى طريقه وتخرج برهومه وتسلم عمله كمعاون محطة وجاء يوم الزفاف ، لنلتقى من جديد لأقول له ألف مبروك لكنه يميل على ويهمس فى أذنى ويقول ” أتمنى أن يصل جنون أبى الى نهايته فيصدر قراره وان يزوجنى أختها الصغرى أيضا لأنها أكثر جمالا وأن يضم الأرض كلها الى عصمته ”
وهنا ضحكت وضحك معى وقلت ، أن أباك رجل متطرف ولا تستكثر عليه هذا فأمثاله من المتطرفين يحلل كل شىء ويحرمه حسب مصلحته وباسم الدين يمكنهم أن يرتكبوا أكبر الجرائم.