يأتي أكتوبر من كل عام ونتذكر حرب أكتوبر 73 التي خاضتها مصرنا الحبيبة.. لكن أجمل ما في تلك الحرب هي أنها جاءت بعد انكسار لكل مصري وقت نكسة 1967 ودائما نتساءل كيف استطاع الشعب المصري أن يلملم يأسه وانكساره ويزرع في قلبه العزيمة مرة أخرى لينبض قلبه من جديد ويستجمع كل طاقاته للخوض في حرب ثانية لاستعاده أرضه المسلوبة منه؟! وما الخيط الذي كان يربط أغلب شباب مصر لاتخاذ قرار الالتحاق بكلية العسكرية.. ومدى صلابة قلوب الأهالي التي شجعت أولادها على هذا القرار الصعب؟!
ومن هنا فكل محبي هذا الوطن يحاولون استعادة الذكريات، لعلها تصل لقلوب وعقول شباب اليوم وأطفال المستقبل.. ومن هذا المنطلق جاءت متابعتنا لاحتفال نادي روتاري هليوبوليس شرق بمرور 45 عاماً على معركة الكرامة بحضور مجموعة من المقاتلين أبطال نصر أكتوبر وأبطال مقاتلين رحلوا عنا تاركين ذكريات عظيمة في قلوب ذويهم.. هؤلاء الأبطال كلهم كانوا أسود في الحرب ومازال يجري في عروقهم طاقة لخدمة هذا الوطن إلى الأن.. وطني رصدت الحفل المشرف وننقل هنا اختبار كل بطل منهم تواجد في موقعه بدافع حبه لبلده.
أبطال أعادوا الكرامة لمصر
بدأت شيرين طارق واصل كلامها بفخر تتحدث عن جدها الراحل البطل العظيم الفريق عبد المنعم واصل قائد الجيش الثالث الميداني، قائلة: أنا فخورة بجدى ووالدي وبكل أبطال أكتوبر من أصغر عسكري لأكبر رتبة.. هؤلاء الذين ضحوا بحياتهم من أجل كرامة مصر وعزتها.. أرجو من الله أن يرحمهم ويعطى الصحة للموجود منهم وشكراً لهم لأنهم تركوا لنا عزة النفس والكرامة التي نعيش فيها حتى الأن.
حب الوطن.. من جيل إلى جيل
أما نهاد صبري إبنة الفريق يوسف صبري أبو طالب أحد قادة القوات المسلحة وتولى العديد من المناصب العسكرية والمدنية منها مدير سلاح المدفعية، ومنصب وزير الدفاع 1989 إلى 1991 ومحافظ للقاهرة ومحافظ سيناء، فوقفت بشموخ وتقول: لي الشرف والفخر إني بنته، هو الذي علمني كل شئ في حياتي، علمني معنى المبادي والأخلاق، ورأيت بعيني وقت حرب ٦٧ برغم أن والدي كان مريضاً جداً لكن مع وصول عربية الجيش نزل مسرعاً دون تردد.. وعلمنا وقت حرب ٧٣ أن ننزل لزيارة العساكر المصابة في المستشفيات ونقدم لهم الهدايا ونأخذ عناوينهم لنبلغ أهلهم.. والدي علمني أحب بلدي، واحترم الجيش، فأنا كبرت على هذه المبادئ وأتمني أن كل واحد يعلمها لأولاده.
السادات يثق في النصر
قال الدكتور شريف أمير ابن اللواء محمد أمير الناظر – المسئول عن التسليح الروسي للجيش قبل الحرب وتولى منصب الأمين العام لوزارة الدفاع، وخدم في حروب 1948و 1956 و1967 وأسر في حرب 1967 وبعد عودته من الأسر تولى منصب الأمين العام لوزارة الدفاع، ثم مباحث المهام السرية للسلاح.. وأتذكر يوم قيام الرئيس السادات بتوقيع عقد 6 طيارات أني ذهبت مع والدي وقابلت السادات وقال لي: لا تقلق سوف نفوز بالحرب.
قواعد الصواريخ
وقال المهندس محسن زكى: بدأت فكرة إنشاء حائط الصواريخ وكانت فكرة مدروسة جيداً، وفخر لنا أن يكون تصميمات المنشأ نفسه وجميع تفاصيله مصرية 100 %، واستعنا بشركات القطاع العام لتقوم بالتنفيذ تحت إشراف احد ضباط القوات المسلحة..
الحائط عبارة عن نفق جسمه مستقيم فوق سطح الأرض وجانباه مائلان وتحته غرفة عمليات، ومن الأعلى ردم فوقه خرسانة تتراوح من ٥٠ سم لمتر ونصف، على حسب شدة القنابل التي تستخدمها إسرائيل. وتم إنشاء قواعد الصواريخ وسط نيران الغارات على العاملين فبدأنا نعمل ليلاً، وأود هنا أن أتحدث عن العامل المصري وأهميته وبطولته في ذلك الوقت حيث كانت شركة المقاولات تستعين بالعمال الرحالة من الصعيد واستشهد عدد كبير من هؤلاء العمال في الغارات ودفعوا حياتهم ثمناً لاستكمال حائط الصواريخ، فلابد أن نتذكرهم وندعو أن يرحمهم الله.
العنصر البشري سر النجاح
وقال اللواء محمود منير، كنت في حرب أكتوبر ٧٣ كنت في الموجه الأولي التي اقتحمت قناة السويس مع اللواء السابع مشاة والفرقة ١٩ التي كانت على الجانب الأيمن للجيش الثالث، وأصعب موقف في تصوري إننى كنت في حالة عدم إحساس بخطورة الموقف، أننا نعبر من أمام نقطة قوية، فاتحة رشاشاتها علينا ومع ذلك كنا نجدف لنصل إلى الساتر الترابي، وبمجرد وصولنا للساتر الترابي شكل النقطة القوية أبرز الخوف في نفوسنا، لكن كان عندنا شحن معنوي قوي جدا، لأننا أمضينا فترة طويلة في الضفة الغربية نرى العلم الإسرائيلي مرفوع على الضفة الشرقية، ونرى الموجودين على الضفة الشرقية يستهزئون بنا.. فكان الموضوع عبارة عن مصارعة في الوصول والتسلق للساتر الترابي ثم الهبوط للناحية الأخرى، لنتعرض لهجوم الدبابات، لأننا عندما عبرنا كانت كل القوات مترجلة وكل الأسلحة المشتركة، وكانت عناصر المدفعية داخل أتون المعركة، على أساس أنها الوحيدة القادرة علي إدارة نيران ثقيلة في عمق العدو لتحمى باقي القوات.
وجهة نظر العالم في الحرب
استكمل اللواء منير حديثة عن وجهة النظر الإسرائيلية في حرب أكتوبر حيث قال، أسعدني الحظ عنما عملت ملحقاً عسكرياً في الخارج، كانت المفاجأة أن جيوش الدنيا كلها تقدر عملنا ولكن تضعنا في موقف متساو مع الإسرائيليين، بمعنى لا تفرقة في النتائج ما بين الجيش المصري، والذي حقق انتصاراً كبيراً، والقوات الإسرائيلية التي منيت بهزيمة، لأن وسائل الدعاية الإسرائيلية كانت أقوى كثيراً من الدعاية المصرية، فالإعلام الإسرائيلي كان يتفوق بجدارة على الإعلام المصري الذي لم يقدم حتى فيلم واحد يمجد هذه المعركة.. هذا دعاني إلى أن ألقي محاضرات عن الحرب لتغيير الفكر، فكان لابد أن أقرأ عما كتب ونشر في الكتب الإسرائيلية. عندما دخلنا الحرب كنا نعرف أن إسرائيل جيش قوي، جيش مدرب جيش أنفق عليه أموال طائلة، وبالتالي هو افضل تدريباً وأفضل تسليحا، ولكن هذا لم يضعنا في موقف الضعف، فهناك معادلة سلاح ومعدات إضافة إلى أفراد يساوي نصر، فأي طرف من المعادلة تشعر انه ضعيف يمكننا أن نرفعه بزيادة الطرف الأخر، فكانت المفاجأة عندنا هي العنصر البشري الذي درب جيدا ورفع قيمة ناتج المعادلة أمام القوات الإسرائيلية.
لجنة إسرائيلية تحقق في الهزيمة
وأكد اللواء منير أن حرب أكتوبر زلزال من حيث التخطيط والتنفيذ والنتائج وهو تخطيط مصري من الألف للياء وتنفيذ أبناء مصر، لذلك الناس لم تتفهم قرار الرئيس السادات عندما طرد الخبراء الروس على أساس أن لا ينسب إليهم الفضل وحتى لا يقال انهم سبب هذا النجاح.. وهذا الزلزال ظهرت أثاره في إسرائيل من أول نوفمبر ٧٣ بتشكيل لجنة إجراءات باسم “المدعي العسكري” وهو رئيس المحكمة العسكرية العليا في إسرائيل وهذا الرجل تولى التحقيق في أسباب هزيمة القوات الإسرائيلية في ٧٣ ، وبرغم ما تدعيه إسرائيل من انتصار ومن فخر فعندها ما ينفي هذا تماماً وهو تشكيلها لهذه اللجنة التي استعانت بإثنين من رؤساء أركان إسرائيل السابقين وقامت اللجنة بعمل ١٤٠ جلسة تحقيق وحققت مع ٥٨ من كبار القادة العسكريين وانتهت إلى أن حكومة إسرائيل عليها مسئولية سياسية ومسئولية عسكرية، للأسف أن المسئولية السياسية انصبت علي جولدا مائير – أم إسرائيل، والبطل التاريخي الأسطوري قائد الجيش الإسرائيلي موشي ديان، وبالتالي لم تستطيع اللجنة أن توجه إليهم أي اتهام، فانصب الحساب على رئيس الأركان وعدد من القيادات الوسطي، وكتبت اللجنة تقرير لم نسمع عنه كمصريين لكن اطلعنا على جزء من التقرير المكون من 43 صفحة نشروا على مستوى العالم من أصل ١٥٠٠ صفحة، لم ينشر باقي التقرير حتى الأن.
وعندما لم تنشر اللجنة تقريرها صدرت عدة كتب مهمة وهي موجودة ومتاحة على الإنترنت، أول كتاب بعنوان “التقصير” يذكر فيه شهادات مراسلين حرب وضباط احتياط اسرائيليين عن حرب 73، والكتاب يدين بشدة القيادات الإسرائيلية لأنها لم تدرك أن الدولة التي هزمت عام 67 ستقوم بعمل عسكري دقيق، وخاصة لما الرئيس السادات أعلن أنه لابد من قتال حتمي، فلم تفطن إلى خطة الخداع التي قامت بها القوات المسلحة المصرية.
أيضا من الكتب المهمة كتاب “يوم كيپبور” وشرح العمليات تفصيلاً وهو باللغة العربية، والكتاب الأخير هو “مذكرات اليعارز” رئيس الأركان الإسرائيلي وأقر فيه أن المخابرات الإسرائيلية لم تنجح في الحصول على معلومات.
خوف ورعب..
روى أيضا اللواء عاطف البوهي، من الذكريات التي لا أنساها أبداً ليلة الحرب يوم 5 أكتوبر، كنت في موقع جنوب البحيرات، في مركز ملاحظة للمدفعية، جاءني ملازم أول مهندس ومعه مجموعة من الجنود وطلب مني حمايته برشاش أثناء قيامه بفك ألغام من الضفة الشرقية، وهو لم يكن يعلم بخطة الحرب التي ستبدأ اليوم التالي، هذا الطلب اربكني فإذا قمت بإخراج الرشاش وانكشف الملازم ومجموعته في تلك الليلة واضطرينا لاستخدام الرشاش ممكن يحدث تلاحم مع العدو، حينها سوف يفسد خطة الحرب.. موقف محير وكان مطلوب مني اتخاذ قرار على مسئوليتي.. وقتها استدعيت جندي تسليح الرشاش وادعيت تعليمه كيفية انتقاء أهدافه ليلاً حتى لا أفصح له عما يحدث وأخذت أدعي من كل قلبي أن يحميهم الله وأن لا نضطر لاستخدام الرشاش بالفعل.. ونجح الفريق في فك الألغام دون أن يكتشفهم العدو..
فى صباح اليوم التالي “يوم الحرب” كنت أراقب أبراج المراقبة الخاصة بالعدو وكان في الوضع الطبيعي وجود مراقب أو إثنين وأحيانا لا يوجد أحد لكن ما حدث في هذا اليوم غير ذلك كان في برج المراقبة 4 مراقبين بصفة دائمة ويتبادل كل جندي منهم بجندي أخر على رأس كل ساعة، وفي الساعة الواحدة ظهراً نزل الجميع ولم يصعد احد مره أخرى، مما أثار الرعب في نفسي واخذ تفكيري أن العدو علم بخطتنا للحرب وسوف يقومون بعمل خطة مضادة قبل الموعد المحدد لبدء الحرب من جانبنا، لكنني تداركت خوفي حتى لا يؤثر بالسلب على كل من حولي.
موقعة الصخرة
روى اللواء سامي باسيلي من سلاح المدفعية، قائلاً: “كنت أثناء حرب أكتوبر ملازم أول أعمل كضابط استطلاع للمدفعية من “اللواء مشاه” من الفرقة الرابعة مضرعة، وأروي لكم قصة “الصخرة” أو “سلسلة الجبل”.. كانت الفرقة الرابعة مسئولة عن الهجوم في عمق سيناء والتصدي لأي هجوم من القوات الإسرائيلية يخترق خلف القوات المصرية بعد عبورهم، وكل الكتيبة كان تعرف مكانها على الأرض وكنا مدربين جيداً.. بدأت تحركاتنا يوم 16 أكتوبر، فوجدنا القوات الإسرائيلية تحاصر الجيش الثالث فجاءت الأوامر بالتصدي لهذه القوات وتوجهنا فوراً لمواقعنا المعروفة وكانت كتيبة المدفعية بمعاونة كتيبة “دبابات اللواء” والتي اصطدمت مع القوات الاسرائيلية في معركة عنيفة جداً، وفي ذلك الوقت تعرضت كتيبة المدفعية للهجوم عليها ب 8 دبابات اسرائيلية وكانت تضربنا بكل قوتها ولم يصاب واحد من الكتيبة.. وفي اليوم التالي جاءت أوامر جديدة، فور حصولنا على معلومات استطلاعية جديدة، فاصبحت كتيبة المدفعية بمعونة كتيبة ” 58 مشاه ميكانيكي” التي كان قائدها العقيد أركان حرب صفوت رمضان، وهذا الرجل كان من أشجع الرجال.. في ذلك اليوم ضربنا 700 دانة على العدو وكان لها أثر كبير على القوات الاسرائيلية..
وفي اليوم الثالث رأينا العدو أمامنا مستقراً على سلسلة جبل متوسط الارتفاع ومعه 13 دبابة وعلى بعد حوالي 3 كيلو من قواتنا، يفصلنا عنهم موقع كتيبة دفاع جوي مصرية خالية من القوات، وفي اليوم الرابع تحرك العقيد صفوت رمضان بمفرده أولاً ثم توجهنا وراءه ليلاً لموقع كتيبة الدفاع الجوي المصرية والتي تبعد 100 متر من القوات الإسرائيلية.
وبعد أن نصبت معدات المراقبة فوجئنا أن اليهود ينسحبون بالدبابات ليلاً 4 كيلو للخلف ويتجمعوا ثم يعودون في الفجر لمواقعهم المحددة.. وبدراسة الموقع من حولنا وجدنا مركز قيادة للعدو كبير جداً على الناحية اليمني من موقعنا، فقررنا ضربه ورأينا اليهود يهربون من شدة الانفجار ومن حالة البرجلة التي انتابتهم نزلوا هرباً في اتجاهنا بدل بعيد عنا. ومن هنا بدأت الدبابات في القصف علينا لكننا كنا تحت حائط الصواريخ محميين من القصف الشديد واستمر الضرب مدة 20 دقيقة.
أبو قفة وأبو جاموس
أما اللواء محمد فهمي فبدأ بخلفية عن حياته وقال: تركت كليتي مثل معظم الشباب في تلك الحقبة للإلتحاق بالجيش وشعورنا بالواجب الوطني تجاه بلدنا.. والتحقنا بالكلية العسكرية لإعدادنا ولما جاء وقت تخرجي وجدت الرائد رجائي فؤاد – أحد الرجال الأبطال الذي علمني بالكلية، حيث تم تكليفه ليمسك كتيبة في بورسعيد، فطلبت منه أن يأخذني معه.. وذهبت معه لبورسعيد وكانت كتيبتي في بورفؤاد، واستمريت في التدريب ومريت بحوالي 20 فرقة تدريب حتى اكتسب خبرة عالية.. في الحقيقة لما بدأت الحرب توجه أغلب شباب مصر للقتال ونحن لم نكن نعرف معنى الموت.. ولما بدأت الحرب تم تعييني رئيس استطلاع مجموعة مدفعية في “اللواء 134 مشاه” وهذا كان الحد اليسار من الفرقة “18 مشاه” مع الفريق عزيز غالي وكان وقتها عميد.. وكنت مسئولاً عن الاستطلاع الخاص بأربع كتايب، برغم أنني كنت مجرد ملازم أول لكن بنعمة ربنا كان لدي بصيرة ورؤية وقوة على الحركة..
وجاء وقت الحرب وحدث العبور ودخلنا على نقاط القنطرة وكانوا أربع نقاط قوية، ومن أول يوم فقد حكمدار الاستطلاع الخاص بي ودخلت خلف حدود العدو مع قوات الصاعقة، وبحسب طبيعة شغل الاستطلاع يحتاج إلى تبة عالية لكي ندرس كل ما يظهر أمامنا ويحميني رجال الصاعقة واقفين في حفر في الأرض، لكن حدث أن دبابات العدو اكتشفت القوات على طريق العريش وقتها وضربتنا كلنا واستطاع عدد قليل من السرية أن يخرج من هذا الضرب، وتعرضت أنا لإعاقة لاسلكية في اجهزتي وبالتالي لم تجدنا طائرة الهليكوبتر المصرية ومضينا ليلة قاسية جداً.. ولما رجعت لوحدتي مرة أخرى استكملنا جميع أعمال المعركة التي تم تكليفنا بها. ثم التحقت بدورية أخرى في أعمال التطوير يوم 13 و 14 أكتوبر.
ومن المفارقات اللطيفة وفي نفس الوقت كان فيها توفيق من الله، أن بعض العساكر كانوا من الصعيد وكانوا يقسمون مدافع العدو إلى نوعين “مدافع أبو قفة” و”مدافع أبو جاموس” وكان المدفع “أبو قفة” عيار 155 مللي والمدفع “أبو جاموس” عيار 175 مللي ويضرب على مسافة 30 كيلو متر تقريباً. وكانت تلك المدافع ثقيلة جداً وترتكز على شاسيه دبابة ولا تستطيع أن تتحرك في الرمل لكنها تحتاج أرض صلبة تحتها. ولم نكن نرى هذه الصواريخ بمعداتنا الاستطلاعية، لكن استطعت في يوم وجهوا لنا ضربات بمدفعين أبو جاموس أن احسب اتجاه الضرب وبالنظر والاستماع أن احسب بعد مكان المدفعين الخاصين بالعدو، وبالدراسة والحسابات وجدت أنه عند المسافة المتوقعة يوجد مدقات قديمة فعرفت أن المدفعين مستقرين هناك. فطلبت من الكتيبة 12 مدفع كل واحد منهم قصف طلقتين، ليكون إجمالي القصف 24 طلقة، ورأينا الدخان وعرفنا لاحقاً أن المدفعين تم القضاء عليهما.
وكانت هذه المعارك مليئة باللقطات الإنسانية والصداقات التي استمرت بعدها سنين، فمن ضمن الشخصيات التي عملت معها وسط الحرب كان أحد أفراد البدو الذي كان يرشدني وسط الوديان حتى لا أظهر بمعداتي في أي مكان عالي يكتشفه العدو، وقمنا بخوض عملية استطلاعية معاً جعلتنا نستطيع ضرب 12 مدفع مرة واحدة لنرحم من قصفهم.. وبعد هذا النجاح أخد مني الرجل البدوي عنواني وبياناتي وتركت له خاتم قد أهدته لي والدتي، وعرفت لاحقاً أنه توجه إلى الحلمية وزار والدتي وطمأنها علي وروى لها عن صداقتنا، ودارت الأيام ومرت السنين، وفي الثمانينات أرسل لي جواب أنه مريض بمستشفى أحمد ماهر، وفعلاً زرته وتلاقينا..
تدخل عالمي لمساندة إسرائيل
وصرح اللواء طارق جويلي مؤكداً: ما حدث في تلك المعركة لا ينتج إلا من رحم شعب عظيم لأن القوات المسلحة من شباب هذا البلد.. ففي أي موقع هناك أناس متميزون منهم الجيش المصري وليس فيه مرتزقة بل كلنا مصريين أبناء فلاحين وعمال ومهندسين ودكاترة وباشوات.. من متوسطي الحال ومن عليه القوم كلنا في الجيش سواسيه.. كل من تكلموا اليوم اشتركوا في نفس المجال وهو استطلاع المدفعية هو المسئول عن جلب وتوفير معلومات عن العدو والأرض والطقس والربط المساحي لعناصر المدفعية.
اشتركت في العمل مع الفرقة ال16 وكان لي حظ أن اتعامل مع قادة عظام منهم المرحوم اللواء عادل يسري صاحب الساق المعلقة، أول معركة اشتركت فيها كانت الساعة 4:30 يوم 6 أكتوبر، وكانت معركة غير متكافأة نظرياً على الإطلاق.. دبابات ومجنزرات إسرائيلية تدهسنا ونحن مشاه، لأن دباباتنا كان المفروض ستعبر على الساعة الثامنة مساءً.. فكان الفرد المقاتل في مواجهة الدبابة ومواجهة المجنزرات الـ “أم 113” والـ “أيه أم أل 90” وكان من حسن حظي أني دمرت واحدة من المجنزرات منهم بقنبلة لأنها مفتوحة من فوق..
ويوم 8 أكتوبر طورنا الهجوم بقيادة اللواء عادل يسري وكان مشهور بجسارته، وأصيب يوم 8 أكتوبر بشظية من دبابة تسببت في قطع ساقة، ومن عظمة هذا الرجل أنه برغم إصابته وساقه المبتورة إلا أنه استطاع توجيه تعليمات بتولي نائبه القيادة.
ثم انضميت يوم 13 أكتوبر أنا وفرقتي مع فرقة “21 مدرعة” لكي نطور هجوم فجر يوم 14 أكتوبر، مع الفرقة الرابعة من الجيش الثالث، وهذا كان يوم مشئوم لأننا خرجنا بره حائط الصواريخ الخاص بنا واصبحنا عرضة للضرب بكل أنواع النيران والعدو كان في انتظارنا في مواقعهم الدفاعية ولديهم أسلحة أحدث مننا فكان لديهم صواريخ مضادة للدبابات أحدث من صواريخنا ودباباتهم أحدث من دباباتنا، ولديهم معلومات تأتي لهم من الأقمار الصناعية المختلفة، إضافة إلى أننا من يوم 14 أكتوبر بدأنا نرى إختلاف ملحوظ في تكنولوجيا معداتهم، فرأينا الطائرات التي تحول مسار الصاروخ الذي يستهدفها لينفجر بعيد عنها أو الطائرة تنحرف بعيداً عن الصاروخ، فشعرنا أن هذا ليس الطيار الذي كان يحاربنا إلى يوم 13 أكتوبر ولا تلك الطائرات التي ظهرت في السماء إلى يوم 13 أكتوبر.. بدأت طائرات تأتي من جنوب أفريقيا ومن أمريكا مع أجهزة إعاقة ووسائل شوشرة على الصواريخ.. وعلى رغم كل ذلك انتصرنا وأزلنا أثار الانكسار الذي عاصرناه ونحن طلبة في المرحلة الثانوية بنكسة 1967 .. فعشنا قبل النكسة كشباب لنا انتماءات للثورة ورجالها ولما حدثت النكسة اتكسرنا فعلاً وصدمنا ولذلك كان نصر أكتوبر شعوره فعلاً انتصار عظيم ورجع لكل مصري كرامته.. كلنا تركنا كلياتنا والتحقنا بالكليات الحربية لأن كان عار علينا وقتها أن ارضنا محتلة ونفكر في أي شئ أخر غير أننا نحررها.. وكما قال الشاعر “بسيمفونية عجيبة.. شعب عجيب.. رسمها فنان في صورة.. وقالها شاعر في نشيد”
جبل الفاتح
وفي النهاية صرح اللواء فؤاد قطارة منسق هذا اليوم ورئيس نادي روتاري شرق هليوبوليس، بتواضع شديد، أنه كان وضعه مختلف عن كل أصدقاؤه السابقين الذين شاركوا في الحرب لأنه من حكم موقعه كان يتابع جهاز رادار داخل كابينة ولديه حراسة دائمة، ولم يتلاحم مع العدو بشكل مباشر لكنه خاض معركة الكترونية مع العدو.
وأضاف قائلاً: أنا قررت أترك كليتي والتحق بالكلية العسكرية ووقتها والدي لم يعترض بل كان سعيداً بقراري بالرغم أني كنت ولد وحيد وليس لي جيش أصلاً، وهذا لم يكن شعوري لوحدي بل كل من حولنا من الأكبر منا والأصغر، يجسدون أمثلة حية من التضحية والشجاعة.
وأضاف “قطارة”: من المواقف التي يتذكرها أثناء الحرب، كانت معركة مشهورة وهي معركة “جبل المر”.. وكانت المهمة بمعاونة المدفعية بقيادة المرحوم اللواء عبد المنعم واصف والفرقة 19 واللواء الفاتح كريم، هذه الأجيال كانت أجيال عظيمة في البطولة والإقدام. كانت مهمة اللواء الفاتح كريم أنه يحرر جبل “المر”، ثم نصعد للاستطلاع من فوق، وكان جهاز الرادار الخاص به يوضع على شاسيه دبابة، فأخذني مع واحد من مجموعة الاستطلاع الخاصة به لكي نحاول صعود الجبل.. وكانت مجموعة الاستطلاع في حالة دراسة للمكان لتحديد الأماكن التي توضع فيها المعدات للاستطلاع.. وأنا وضعي كان أصعب واحد فيهم لأنني كان يجب أن أكون فوق الجبل بجهاز رادار على شاسيه دبابة، لكي يكون في رؤية مباشرة على نقاط العدو.. واستمرينا نبحث عن طريق يمكنني الصعود منه فكل ما كان حولنا كان رمال ناعمة لا تصلح لصعود جهاز الرادار عليها. إلى أن تمكنا من الصعود وانهينا مأمورية الاستطلاع، ولكن وصلتنا إشارة لإخلاء الجبل فوراً، وذلك لاكتشاف القيادات أن الجبل مازال محتل بأكمله من اليهود ولم يتم إخلاؤه بعد! فبالرغم من تحركاتنا أعلا الجبل إلا أنه لم يحدث التحام بيننا.. وبسرعة تحركنا ورجعنا لمواقعنا ومن المعلومات التي رصدناها في هذا اليوم كانت معركة جبل “المر” من أقصى المعارك لأنه كان جبل كاشف للكثير من المواقع ومسبب قلق لمناطق كثيرة التابعة لقواتنا المسلحة. وبعدها عندما وصل خبر إخلاء جبل المر من قوات العدو إلى المرحوم عبد المنعم ناصر أطلق على الجبل إسم “الفاتح”.
الإعلام وتوثيق الحرب
وفي أخر اللقاء عبَّر أحد الحضور عن اندهاشه من كم التفاصيل التي رواها هؤلاء الأبطال في حين أن أبناءنا لا يعلمون إلا قشور عن هذه الحرب.. وتساءل إن كان متاح عمل أفلام تسجيليه لتلك الأحداث وهل يمكن لهؤلاء الأبطال أن يكون لهم اسهام في نشر تلك المعلومات، مرت 45 سنة ولم نرى غير أفلام خفيفة جداً قدمت قشور أبعد ما يمكن عن توثيق تلك الأحداث، وتساءل أيضا هل الشئون المعنوية للقوات المسلحة هي المنوطة بهذا الدور؟
ورد عليه الدكتور اللواء محمود منير، أولاً بأننا يجب أن نفصل بين التوثيق التاريخي العلمي الخاص بالقوات المسلحة وأي جانب أخر.. في التاريخ العسكري لدينا تسجيلات تفصيلية للحروب والعمليات الخاصة على أساس الاستفادة منها في العلم وتعليم الأجيال القادمة لأن تلك التسجيلات تعد المعمل الذي يتعلم فيه الطالب. فكل وثائق العمليات وكل ما دار في الحروب موثق في القوات المسلحة وفي الأمانة العامة وهيئة البحوث.. فلدينا أرشيف قومي للقوات المسلحة، لكن كل تلك المعلومات والأسرار ليست للنشر وليست للتداول بين عامة الشعب، بل المعلومات يدرسها المتخصصين والباحثين في المجال العسكري. ثانياً الجزء التاريخي المصرح نشره للعامة، صدرت به نشرات من هيئة البحوث وتباع في معرض الكتاب في جناح القوات المسلحة، ثالثاً وعن دور الأبطال الذين عاصروا هذه الحرب، شكلوا مجموعة إسمها “مجموعة مؤرخين 73” وهذه المجموعة تقوم بجمع المعلومات من أمثالنا ويتم توثيق هذا الكلام لديهم للنشر بين الناس.. لكن الجزء الأهم الذي يجب أن يعرفه الشعب ليس مسئوليتنا نحن بل مسئولية الإعلام لنقله للمجتمع، على الرغم أن الشئون المعنوية عملت أفلام وثائقية واقعية وأفلام عن القيادات البواسل الذين كان لهم بصمة في هذه الحرب، ولا يزيعها التليفزيون المصري!
وأضاف أيضا اللواء طارق جويلي أن هناك دور هام يقع على المدارس في تعليم وتثقيف الأطفال عن تاريخهم، والاهتمام بتوصيل المعلومات لهم وتحفيز الجيل الجديد لمعرفة المزيد عن حرب أكتوبر.
فالأجيال الحالية معلوماتهم السياسية ومعلوماتهم عن بلدهم منعدمة، ويحتاجون لتنمية انتماءهم لهذا الوطن، والبحث عن هويتهم المصرية والاعتزاز بها.. فمهم جداً زرع هذا الفكر داخل أطفالنا والأجيال القادمة من المدرسة، لينمو جيل جديد لديه ولاء لهذا البلد.
وفي نهاية هذا الحفل الثري في معلوماته، تم تكريم كل أبطال أكتوبر الحاضرين وتم إلتقاط الصور في جو من الفخر والاعتزاز بالتواجد وسط هذه النخبة من محبي مصر.