ربما يوجد تشابه إلى حد التطابق بين مَن هتفوا في قرية “الواصلين” بأطفيح بمحافظة الجيزة “بالطول والعرض هانجيب الكنيسة الأرض” بعد صلاة الجمعة يوم 22 ديسمبر 2017 الماضي وبين المدعو “محمود شفيق محمد مصطفى” ابن قرية “عطيفة” مركز “سنورس” بمحافظة الفيوم الذي فجر نفسه في المصليين بالكنيسة البطرسية بالقاهرة منذ ما يزيد عن عام.
المتجمهورن في القرية القريبة من العاصمة شعروا بزهو الانتصار عندما حطموا الكنيسة ومنعوا جيرانهم المسيحيين من الصلاة وأصابوا بعضهم إصابات بالغة، هؤلاء حملوا بداخلهم قناعات تتسق تماماً مع فكر مٓن فجر نفسه في الكنيسة الكائنة بمنطقة الدمراش بالقاهرة، لأن “شفيق” وكثيرون من أبناء بيئته تمكن منهم فيروس الكراهية وأصبح الآخر بالنسبة إليهم هو الجحيم ولا بد من الخلاص منه.
“شفيق” الحاصل على بكالوريوس علوم من جامعة الفيوم والبالغ من العمر لحظة ارتكاب الجريمة 22 عاماً هو مثال لجيل منتشر في ربوع مصر. نشأ في قرية تلقى فيها تعليمه الابتدائي، وذهب إلى المدرسة الإعدادية والثانوية في المركز التابعة له قريته، ولم يرَ بعنيه ولو من الخارج مبنى سينما أو مسرحاً، وعندما انتقل إلى عاصمة المحافظة منذ نحو ست سنوات كانت آخر دار سينما في المحافظة التي لايوجد فيها مسرح من الأساس قد صارت ذكريات وتحولت إلى سوق شعبي لبيع الملابس والأقمشة.
لم يدرك عقل الشاب أن هناك جانباً آخر من الحياة لم يره ولم يخطر على باله. لم يتعرّض لأية وسيلة للتنوير ومحاربة الجهل فبات ومثله ملايين صيداً سهلاً لأفكار متطرفة حولتهم بسهولة إلى قتلة يرون أن دم الآخر أول طريق الوصول إلى الجنة.
لا “إف أم”
في آخر زيارة لي إلى الفيوم، محل ميلادي، قابلت صديقاً قديماً أخبرني أن ابنته الصغيرة رجعت يوماً من المدرسة وقالت له إن فنانة شهيرة مسيحية الديانة لأنها لاتردتي الحجاب وإنها من المؤكد ليست على خلق لأنها تسير في الشارع بشعر مكشوف. بيئة الفيوم المغلقة صارت فعلياً حاضنة للإرهاب ومنبعاً لدعم لوجستي لاينضب له.
في اليوم التاني لتلك الزيارة، قادتني قدماي إلى نفس مكان السينما التي شاهدت فيها روائع السينما العالمية والمحلية. شاهدت عباءات نسائية سوداء اللون معلقة تقريباً مكان شاشة العرض في السوق الشعبية.
على خط الفيوم – بني سويف أقسم سائق بالله فكان رد أحد الركاب: لا تذكر اسم الله فأنت غير مسلم. منطق تكفيري للآخر ينتشر في كل مكان.
قال لي صديق يعمل في مجال الموسيقى، يلحن ويغني ويعزف على الجيتار إنه لو كان الأمر بيده لوضع في كل ميدان بمحافظات ومدن وقرى وكفور ونجوع مصر سماعات تذيع على مدار الساعة موسيقى موزارت وبتهوفن وباخ وشوبان وسيد درويش وعبد الوهاب وفريد الأطرش وغيرهم من كبار الموسيقيين العالمين والمحلين والعرب. برأيه، سيخلق الاستماع للفن شعباً راقي المشاعر والأحاسيس وعلى مستوى عالٍ من الخلق والأدب والاحترام والذوق.
صُعق صديقي عندما أخبرته أن محافظتي الجميلة التي أنجبت عميد المسرح العربي يوسف وهبي والجميلتين مريم فخر الدين ونجلاء فتحي وكذا الموسيقار العبقري زكريا أحمد، وكوّن فيها والدي الراحل مسرحاً منذ نهاية خمسينيات القرن الماضي وجال القرى والنجوع وعرض مسرحيات ونظم أسابيع ثقافية إلى أن ضمت الدولة مسرحه إلى هيئة قصور الثقافة، لا تستقبل حالياً أي إرسال إذاعي على موجات الـ”إف أم”.
مدينتي الحالمة لم تعد كذلك. باتت محرومة من السينما والمسرح وإرسال الإذاعة، إذا حاولت الاستماع إلى أي نوع من الموسيقى لو كنت سعيد الحظ لن تجد إلا أغاني المهرجانات في التوكتوك فقط.
“نموذج مصغر لمصر”
وتعتبر الفيوم البالغ عدد سكانها أكثر من ثلاثة ملايين نسمة يعيشون على مساحة أكثر من ستة ملايين كيلومتر مربع وتضم ستة مدن و61 وحدة محلية و196 قرية و1911 نجعاً وكفراً وعزبة نموذجاً مصغراً لمصر حتى أن البعض يطلقون عليها “مصر الصغرى”.
ويعود ذلك إلى أنه يوجد فيها العديد من الملامح التي توجد في مصر. فمثلاً مصر تعيش على نهر النيل كذلك الفيوم تعتمد على ترعة “بحر يوسف” ويوجد بالفيوم مجتمع زراعي ومجتمع صناعي كذلك مجتمع بدوي بل وهناك مجتمع الصيد على ضفاف بحيرة قارون.
وتشتهر الفيوم بوجود العديد من الأماكن المتميزة ومنها بحيرة قارون ذات المناظر الجميلة ووادي الريان وهما تعتبران محميات طبيعية.
ولو كنا نطلق على الفيوم مصر الصغرى للتشابه الجغرافي بينهما سنجد أنها أيضاً نموذج لكل ما أصاب الوطن في عقوده الأخيرة. فما حدث لمجموعة المتجمهرين في قرية الأصولين لمنع الصلاة وهدم كنيسة القرية منذ أيام قليلة يتشابه مع ما حدث في مناطق كثيرة في الوطن وأيضاًمع تطور الأمور داخل الفيوم.
كان لنزوح أبناء القرى، وهم الأكثر فقراً وجهلاً بين سكان المحافظة، إلى مدينة الفيوم عاصمة المحافظة بجانب ارتفاع نسبة الأمية والفقر أثر كبير في نقل ثقافتهم وفكرهم إليها.
وطبقاً للإحصاءات الحكومية، تبلغ نسبة الأمية في الفيوم نحو 30%. ولو أخذنا في الاعتبار أن شفيقاً حاصل على بكالوريوس علوم، سنعي أن الأمور باتت أكثر تعقيداً بشكل يوقع الجاهل والمتعلم في براثن الإرهاب.
الفيوم وعمر عبد الرحمن
ربما كان لتعيين عمر عبد الرحمن إماماً لمسجد قرية فيدمين التابعة لمركز سنورس عام 1965 دور في غرس الأفكار المتشددة في المنطقة. وجد الشيخ الراحل الكفيففي قرى المحافظة مريدين وأتباعاً نشروا أفكاره وكان من أهم تلامذته، قبل أن يختلفا، المهندس شوقي الشيخ مؤسس جماعة الشوقيين في ثمانينيات القرن الماضي.
99% من أتباع شوقي أميون لا يعرفون القراءة ولا الكتابة، وقد أقنعهم بفكرة “الاستحلال”، أي أخذ أموال الناس لأنهم كفار، فكانوا يسرقون الأهالي إما خفية، وإما عنوة، وقد شكل التنظيم في ما بعد عدداً من المجموعات للسطو على محلات الذهب بحجة استخدامها في الدعوة.
حاول الشوقيون اغتيال عمر عبد الرحمن، لكن محاولتهم باءت بالفشل، كما شكل التنظيم مجموعة سرقت محل ذهب بمنطقة الزيتون بالقاهرة، وهي نفس المجموعة التى اغتالت ضابط أمن الدولة أحمد علاء في الفيوم، وتخصصت بعد ذلك فيسرقة محلات الذهب وسرقت حوالي ست محلات في إمبابة والزيتون والخصوص وعزبة النخل.
فى أبريل 1990، جاءت قوات مدرعة، ومعها المئات من الجنود. حاصروا قرية كحكالتابعة لمركز يوسف الصديق، ووقع صدام دموي انتهى بمقتل عدد كبير من أتباع الجماعة والأمن. اعتُقل بعض أفراد الجماعة وحوكموا وفي السجن التقوا بعدد من معتقلي سيناء، فأقنعوهم بفكرهم، لتبدأ أول نواة للفكر التكفيرى، وظهور جماعات سيناء الإرهابية
يمكن لوجود قبائل بالمحافظة لها امتداد تاريخى بليبيا، فإن هناك تواصلاً دائماً بين عدد كبير من المواطنين مع الليبيين، الذين نزح منهم عدد ليس بالقليل إلى المحافظة، واستغل إرهابيو القاعدة وداعش تلك الطرق الملتوية، والتى لا يعرفها سوى بدو المحافظة لاختراق مصر من حدودها الغربية.
تنقل أشرف الغرابلي، زعيم ما يعرف باسم “المنطقة المركزية” لتنظيم بيت المقدس – قُتل في ما بعد – من الفيوم إلى 6 أكتوبر، ومنها نجح في تنفيذ عدد من العمليات الإرهابية .
حاول التنظيم أن يستغل تلك الطرق الملتوية التي لا يعرفها سوى البدو، في إدخال عناصر إلى مصر، ونجح بالفعل فى نقل عناصر وأسلحة، وكان القيادي أشرف الغرابلي يتولى هذه المهمة.
حينما ظهرت “جماعة المرابطون” التى أسسها الضابط المفصول هشام عشماوي، أفادت مصادر أمنية بأن عناصر هذا التنظيم الذى ينتمي إلى شبكة القاعدة جاءت من ليبيا، واتخذت في محافظة الفيوم أوكاراً للاختباء.
وكشفت مصادر أمنية بمديرية أمن الفيوم أن من أسباب وجود البيئة الحاضنة بالمحافظة هو ظهور عدد من خلايا جماعة “الشوقيين” التكفيرية، التي أسسها شوقي الشيخ، المنشق عن الجماعة الإسلامية، بقيادة عمر عبدالرحمن وقد عادوا للعمل مؤخراً، وأقاموا عدداً من الزوايا، والمساجد الخاصة لاستضافة وتدريب عناصرهم في قرى مركزي إبشواي ويوسف الصديق بالمحافظة.
وأفادت المصادر ذاتها بأن عناصر من هذا التنظيم نفّذوا عدة عمليات إرهابية بالمحافظة أهمها محاولة اختطاف الرائد بإدارة البحث الجنائي بالمحافظة وليد تاج الدين، والشرطيين السريين سيد أحمد علي وسمير عبد الباقي.
أما داعش فقد وضع بعض المعسكرات بالقرب من واحة جغبوب، وهي الواحة التيينتقل منها مقاتلوه إلى مصر، عبر حدودنا الغربية التي تبلغ نحو 1432 كيلومتراً، عبر أربع طرق ملتوية وصحراوية هي طريق القوصية أسيوط، وطريق قرية دلجا المنيا، وطريق ينتهى بمدينة ديروط أسيوط، وطريق الفيوم هو أهمها.
من الطبيعي وسط كل الأجواء الحاضنة أن يصبح حامل بكالوريس العلوم جامعة الفيوم جزءاً من تنظيمات متشددة تكفيرية وألا يتردد في تفجير نفسه أملاً في القضاء على الكفار والذهاب إلى الجنة لملاقاة الحوريات.
لا شيء يتغيّر لأن مواجهة الإرهاب تم اختزالها في البندقية والرصاصة فقط وبعض الهتافات الصارخة بإعدام المنفذفين في ميدان عام أو تقديمهم لمحاكمة عسكرية متناسيين أن مَن صمم على تنفيذ عملية انتحارية قرّر أصلاً الذهاب إلى الموت ولايعنيه أن تعدمه سواء في ميدان عام أو بحكم محكمة عسكرية.
القضية فكرية في المقام الأول، علاج فيروس الإرهاب المتغلل داخل العقول لن تتمكن أية قوة من القضاء عليه إلا بالفكر والثقافة والفن بجانب المدفع، وعليه لاتملك الدولة رفاهية التجريب أو اختبار طرق أخرى عليها فورا التخلي عن أسلوب اختراع الدراجة أو محاولة رسم الدائرة على شكل مربع، عقود طويلة أهلمت الدولة التعليم فباتت مصر في الترتيب الاخير لجودته ملايين من خريجي الجامعات الحاصلين مؤهلات عليا عن طريق الحفظ والتلقين دون إعمال أي قدرة عقلية أخرى، السلطة سعت لتحويل الشعب إلى حفظ وصم لتخلق أجيال منفذة للقرار دون جدال أو نقاش وزدات على ذلك بالقضاء التدريجي على قوة مصر الناعمة فباتت بلا فن أو ثقافة لدرجة أن المسؤلين لم يهتز لهم جفن أو شعروا بأي الحرج لأن الفيوم- كنموذج لمحافظات أخرى- خالية من الفن؛ فكيف ستنجح الدولة في مواجهة الإرهاب في مكان بلا سينما ولا مسرح ولايتستقبل إرسال الإذاعة؟