“والكلمة صار جسداً وحل بيننا ورأينا مجده مجداً كما لوحيد من الآب مملوءاً نعمة وحقا” (يو1: 14)
على سفوح الجبال المتآخمة لبيت لحم، وفي ليلة شديدة البرودة، التقطت عدسة الوحي صورة لمجموعة من الرعاة على روابي بيت لحم يحرسون رعيتهم، وبينما هم يترنمون بمزامير داود وأناشيد آساف، فجأة وفي سكون الليل “وإذ ملاك الرب وقف بهم، ومجد الرب أضاء حولهم، فخافوا خوفا عظيما” (لو2: 9)
أخذ الملاك يطمئنهم ببشارته الخالدة: “لا تخافوا فها أنا أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب، أنه ولد لكم اليوم في مدينة داود مخلص هو المسيح الرب” (لو2: 10)
نعم! بميلاد المسيح تمتعت الأرض بمرأى بهاء مجد الله في مشاهد عديدة أذكر منها الصور الآتية:
أولاً: مجد الوليد وهو في المهد:
“الكلمة صار جسداً، وحل بيننا ورأينا مجده مجداً كما لوحيد من الآب مملوءاً نعمة وحقا” … قال أحدهم: لو قضينا العمر كله في التأمل في هذه الآية ودراستها فلن نستطيع أن نصل إلى أعماق كنوزها0
الله لم يره أحد قط الابن الوحيد الذي في حضن ألآب هو خبر (يو1: 18)، الفعل (خبر) في اليونانية يعني “يشرح” أو “يفسر”، فالمسيح هو الشارح الأعظم، والمفسر المطلق لله، ألم يقل “من رآني فقد رأى الآب” (يو14: 9)، لهذا قال الرسول بولس عن يسوع “صورة الله غير المنظور” (كو1: 15). لقد أعلن الله مجد ابنه إلى أناس متنوعي المركز والثقافة، على سبيل المثال:
• البسطاء: هرع الرعاة إلى بيت لحم لرؤية الوليد المجيد الفريد، وأخبروا بما حدث معهم، ويسجل الوحي بأنهم “رجعوا وهم يمجدون الله ويسبحونه على كل ما سمعوه ورأوه كما قيل لهم” (لو2: 20)، وكم كانت سعادتهم إذ شعروا أن الله بالقرب منهم، إذ تنازل إليهم وأصبح فيما بينهم.
• الحكماء: حرك مجد الوليد الحكماء … المجوس جاءوا من المشرق … قطعوا المسافات الشاسعة، تكبدوا مصاعب السفر شوقاً لرؤية الوليد العظيم، وما إن وصلوا إلى المذود حتى خروا وسجدوا ثم فتحوا كنوزهم وقدموا له هدايا ذهباً ولباناً ومراً (مت2: 11).
• العظماء: زلزل مجد الوليد كيان هيرودس الطاغية الذي ظن أن المسيح جاء لينافسه على الملك، ولم يدرك أن ملكوت الله لا يأت بمراقبة، وأن ملكوته روحياً وليس جغرافياً، فأرسل وقتل كل الأطفال من ابن سنتين فما دون، ولم يرحم توسلات الأمهات الباكيات اللواتي ركعن عند أقدام الجنود تطلبن الرحمة، تطلبن الحياة لفلذات أكبادهن دون جدوى، وهكذا ظلت راحيل تبكي أولادها لأنهم ليسوا بموجودين.
ودارت الأيام وهيرودس الذي أراد أن يقتل يسوع انتهى من الوجود، وضاعت حياته إلى الأبد، وبقي يسوع ملكاً على قلوب الملايين في كل بقاع المسكونة، وما زال ملكوته يمتد بحبه الذي ليس له مثيل.
ثانياً: مجد التنازل عن المجد
في الوقت الذي نرى فيه الناس تتزاحم وتتصارع وتتقاتل على من يكون الأول، يأخذهم بريق الأضواء، جاذبية المركز، وإغراء السلطات إلى صراعات مريرة0
نجد الوحي المقدس يقدم لنا مفهوما جديدا عن العظمة والمجد في تجسد رب المجد، إذ مكتوب: “الذي إذ كان في صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله، لكنه أخلى نفسه آخذا صورة عبد، صائراً في شبه الناس، وإذ وجد في الهيئة كانسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب (في2: 6-8)، وهكذا علم المسيح: “من أراد أن يصير فيكم عظيماً يكون لكم خادماً، ومن أراد أن يصير فيكم أولاً يكون للجميع عبداً، لأن ابن الإنسان أيضاً لم يأت ليخدم بل ليخدم وليبذل نفسه فدية عن كثيرين (مر10: 43-45) 0
نعم! لقد ارتضى رب التاريخ أن يدخل دورة الزمن، لكن أضحى ميلاده كما أطلق عليه الوحي “ملء الزمان”، وشطر التاريخ إلى قسمين، ما قبل الميلاد وما بعده لأنه رب التاريخ0
وتسجل ريشة الوحي المقدس تنازل رب المجد عن مجده في الصور الآتية:
• في مجد لاهوته دعي الله (يو1: 1) ولكن لتنازله في الناسوت دعي الإنسان وابن الإنسان (1تي2: 5، اع2: 22)
• في لاهوته سجل الوحي عنه أنه “صورة الله” (كو1: 15)، رسم جوهره، وبهاء مجده (عب1: 1-2)، أما في ناسوته قيل عنه “صائراً في شبه الناس” (فى2: 7)، الله ظهر في الجسد (1تي3: 16).
• لكونه هو الله قال عن نفسه: أنه كائن قبل أن يكون ابراهيم (يو8: 58)و(مت1:1) أما كانسان دعي ابن إبراهيم، ولأنه الله دعاه داود بالروح القدس ربه (مز110: 1)، أما كانسان دعي ابن داود (مت1:1).
• في لاهوته دعي رب الكل (اع10: 36)، ورب الأرباب (رؤ19: 16)، وفي ناسوته دعي عبد الرب (اش42: 1)، ولكونه أخذ صورة عبد قدم العبادة لأبيه، وكان يصلي له، ولكونه رب الكل قدمت وتقدم له العبادة من شعبه (مت14: 33، في2: 10)
• لكونه هو الله هو صاحب الناموس ومطلوب من شعبه أن يتمموا ناموسه (غل6: 2)، وكالإنسان ولد تحت الناموس (غل4:4)
• في لاهوته قال: “أنا والآب واحد” (يو10: 3)، وفي ناسوته قال: “أبي أعظم مني” (يو14: 28).
• كاله أشبع الجياع، وكانسان يذكر الكتاب أنه جاع (مت21: 18)
• كاله كان يعطي ماء الحياة وكل من يشرب منه لا يعطش إلى الأبد، بل يصير منه ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية (يو4: 14)، أما كانسان صرح بوضوح وقال: أنا عطشان (يو19: 28).
• في لاهوته ينادي التعابى ليريحهم (مت11: 28)، وفي ناسوته يسجل الوحي أنه تعب وجلس عند البئر ليستريح (يو4: 6)0
• هو المكتوب عنه كاله أنه يعزي الحزانى (اش61: 2و3)، وكانسان سطر الوحي أنه حزن وبكى (مت26: 38، يو11: 35).
• هو الله الذي يقدر أن يعين المجربين ويرثي لضعفاتهم (عب2: 8)، في الوقت الذي فيه ترسم ريشة الوحي الآلام التي تفوق حد التصور التي اجتاز فيها وهو في الجسد (عب4: 15، مت26: 37، مر14: 34).
• مات بحسب الجسد ولكن بقوته الإلهية أحيا الأموات، وليس الأموات بالجسد فقط، بل أحيا ولا يزال يحيي الأموات بالذنوب والخطايا روحيا، وكانسان أقامه الله من الأموات في اليوم الثالث (اع2: 4، 10: 40).
• بالرغم أن الوحي يسجل وهو كاله أنه أقام نفسه أي أقام ناسوته بذاته (يو2: 9)، ومزمع أن يقيم الأموات في مجيئه الثاني (يو5: 28و 39 ،6: 39-40)
هل رأيتم بعد هذا التحليل الكتابي مجد أعظم من هذا المجد، وفي نفس الوقت تنازل عن المجد أكثر من هذا التنازل عندما الله ظهر في الجسد0
ثالثاً: مجد المحبة التي بلا قيد
كانت عقيدة حلول مجد الله أو “الشكينا” بين البشر، عقيدة عزيزة في العهد القديم، وكلمة (الشكينا) معناها الحرفي “ذاك الذي يحل”، أنها الكلمة المستخدمة للإشارة إلى حلول الله المرئي بين البشر، وتتكرر حقيقة ظهور مجد الله بصورة مرئية مراراً بين أحداث العهد القديم:
وهكذا يعني مجد الرب حضور الله وسط شعبه، ويوحنا يأخذ هذه الصورة من واقع الحياة ويرى مجده في مجيء يسوع إلى أرضنا وشاهد فيه البشر بهاء مجد الله، وكان هذا المجد مجد المحبة، وهكذا رأى الناس أن مجد الله يقترن بمحبته التي ليس لها مثيل، فمجد الله ليس كجبروت ملك أرضي، ولكنه مجد المحبة في حلاوتها وعذوبتها، محبة المسيح الفائقة المعرفة، يقف أمامها الجميع في خشوع مرددين ترنيمات الشكر، هاتفين: الحب صار جسداً، “هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية” (يو3: 16).
نعم! ليس لأحد حب أعظم من هذا أن يضع أحد نفسه لأجل أحبائه (يو15: 13) فهو حب أعظم من أعظم حب … فإذا ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا (رو5: 8) … عطاء بدون حدود ومن غير شروط أو قيود … أحبنا فضلا … أحبنا إلى المنتهى … أحبنا بحب ليس له مثيل أو نظير … بحب فوق حد التصور… أحبنا حتى الموت موت الصليب.
رابعاً : مجد العطاء بدون حد
هذا ما تعلنه كلمة الله “شكراً لله على عطيته التي لا يعبر عنها” (2كو9: 15) لقد أعطانا ذاته وهذا هو السر الذي يجعلنا أن نترنم “ومعك لا أريد شيئاً (مز73: 25)، “فالذي لم يشفق على ابنه بل بذله لأجلناأجمعين كيف لا يهبنا معه كل شيء”
نعم في الميلاد نرى مجد العطاء بدون حد، هذا ما أكده الرسول بولس عندما قال: “ما لم تر عين ولم تسمع به أذن، ولم يخطر على بال إنسان ما أعده الله للذين يحبونه” (1كو2: 9) ، لقد ظن البعض أن هذه الآية تصف ما أعده الله للمؤمنين في السماء0
نعم وصف السماء يسمو فوق خيالنا، ويفوق إدراكنا، إلا أن المقصود بهذه الآية من خلال القرينة الكتابية أن ما أعده الله للمؤمنين عبر رحلة الحياة على الأرض في شخص الرب يسوع من خلاص عظيم رأيناه في قصة الحب العجيب التي تجلت في الصليب.
حقاً لقد رأينا مجده في اتضاعه وعطائه، فلقد صار الإنسان في هذه الأيام يفكر في الأخذ قبل العطاء، يطالب بالحقوق التي له قبل التفكير في الالتزام بالواجبات التي عليه، وهكذا سادت روح الأنانية والمادية في أشنع وأبشع صورها وأساليبها
ونحن نرى في قصة الميلاد مجد العطاء في قمته وذروته، فلقد تمثلت في ميلاد المسيح التضحية في أسمى مظاهرها وصورها، فلقد ضحى في يوم ميلاده بالمجد الرفيع ليولد في مهد وضيع، وضحى بمعشر الأغنياء ليعيش مع الفقراء، فولد وعاش ومات فقيراً، كما يسجل الوحي “فمن أجلنا افتقر وهو غني لكي نستغني نحن بفقره, لأن الله جعل المسيح الذي لم يعرف خطية خطية لأجلنا لكي نصير نحن بر الله فيه ” (2كو5: 21)
ضحى في حياته بوشاح الزعامة عدة مرات وتسربل بثوب الخدمة، عرض عليه التاج مراراً فأعرض عنه مفضلاً إكليلاً من الشوك، ارتضى عن طيب خاطر أن يكون ملكاً على صليب عن أن يكون ملكاً على عرش
• يا من رأيت واختبرت مجده، هل أدركت ما عليك من رسالة؟ لقد قال الرسول يوحنا “الذي رأيناه وسمعناه نخبركم به لكي يكون لكم أيضاً شركة معنا” (1يو1: 3).
• يا من رأيت مجد ميلاده طفلاً، وحياته سلوكاً وتعليماً، وعطيته نعمةً وحقاً، هل يمكنك أن تتغنى مع بولس قائلاً: “ونحن جميعاً ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف كما في مرآة نتغير إلى تلك الصورة عينها من مجد إلى مجد كما من الرب الروح” (2كو3: 18)
ويبقى السؤال: هل في مقدورنا أن نعترف بأن السبب الجوهري لوجودنا ليس فيما سنحصل عليه من الحياة، بل فيما نعطيه نحن للحياة؟فمغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ