وفق موسوعة النظرية الثقافية، فإن المجتمع الأبوب يعني حرفيا: “نظام سلطة الأب. وقد استعمله أغلب مفكري الحركة النسوية للإشارة إلى إسلوب تنظيم المجتمعات من خلال هيمنة الذكور على النساء وقهرهن لهن. وعلى ذلك يشير نظام سلطة الأب إلى الطرق المتبعة فى التوزيع غير العادل لمصادر الثروة المادية والرمزية (بما فى ذلك الدخل المادي، والثروة، والقوة السياسية) بين الرجال والنساء، وذلك من خلال النظم الاجتماعية المختلفة كالأسرة، والحياة الجنسية، والدولة، والاقتصاد، والثقافة، واللغة”[i].
ويمكن النظر إلى سلطة الأب هنا من زاويتين، بالمعنى المادي (الذكر) وبالمعنى الرمزي (الهيمنة أو السيطرة). وطالما أننا نتحدث عن نظام فإن سلطة الأب لا يتم ممارستها فى فراغ ولكن من خلال منظومة علاقات تقوم على السيطرة/الخضوع. و”بالنسبة للسلطة أنها- فى اللغة العملية والإدارية والقانونية- الصلاحيات التى يمتلكها من يحتل موقعا اجتماعيا معينا. فأنا كأب، يجيز لى قانون الأحوال الشخصية والقانون الاجتماعى أن أتصرف بأبنائى وأسرتي بشكل أو بآخر. ثمة قانون يضبط العملية إذن، عملية السلطة”[ii].
وبالطبع، ففي المقاربات النسوية غالبا ما يجري استخدام كل من مصطلح المجتمع “الأبوي” والمجتمع “الذكوري” بنفس المعنى. وقد يكون هذا صحيحا ولكن المجتمع الأبوى أخذ من الدلالات ما يجعله متمايزا عن المجتمع الذكوري فى بعض جوانبه، فالسيطرة الذكورية هى إشارة إلى نظام سيطرة الرجل/الذكر، أما المجتمع الأبوي فيشير إلى نظام سلطة الأب والتى تعني بنية سلطة هيراركية إقصائية ليست فقط ضد النساء ولكن لكل ما هو خاضع لسلطة الأب/الحاكم والمتحكم. وإذا كان المفهوم يرتبط بالمجتمعات التقليدية ذات الطبيعة القبلية والعشائرية، إلا أن أنماطه الحديثة ذات طبيعة مختلفة حيث يعد الطابع الذكورى والنمط الجماعي التقليدي أحد أهم مكوناته ولكن ليس كلها. وما نعيشه الآن هو أنماط تاريخية جديدة من السلطات الأبوية يتنوع فيها الاستبداد وتشهد أنماط متنوعة من الذكوريات، بعضها مهيمن “الذكورة المهيمنة” وبعضها خاضع. “ومن الجلى أن الذكورة المهيمنة تنتعش فى ظل النظام ألأبوى الذى يمارس بنية هرمية ويمارس الميز، ويوزع الأدوار على أساس الجنس والسن ويبرز تسلط الرجل على المرأة والكبير على الصغير. وتربض آليات الهيمنة فى مؤسسات إجتماعية وسياسية وفكرية ودينية. كما أن الثقافة السائدة مازالت تدعم علاقات القوة والسيطرة العمودية. فنجد أن العلاقات الاجتماعية بين الزوج والزوجة، والأب والأبناء، علاقات تراتبية هرمية لا تختلف عن نمط العلاقات السائدة بين السائس والمسوس، سيد العمل والعامل، المعلم والمتعلم، الشيخ والمريد”[iii]. وترتكز الذكورة المهيمنة على فكرة الصراع والاقصاء من أجل إثبات هويتها. وعمليات الصراع والاقتصاء لا تستهدف فقط النساء، بل تأكيد صورة جنسية وطبقية وثقافية مهيمنة فى مواجهة ما دونها: النساء بالطبع ولكن أيضا الفقراء وذوي الإعاقة، والمثليين، وفى بعض السياقات الرجال من أعراق وأجناس وأقليات مختلفة[iv].
وقد تحدث هشام شرابي مبكرا عن “الأبوية المستحدثة”، وإن كان “شرابي” قد حمل الأبوية المستحدثة كل أمراض الحاضر فبات تعريفه لها فضفاضا إلا أنه استطاع الامساك ببعض ملامح هذا المفهوم. يقول “شرابي”: “إن النظام ألأبوي المستحدث ليس عصريا أو تقليديا، لا من الوجهة الحداثية ولا من الوجهة الاتباعية، إنه، وعلى سبيل المثال تشكل اجتماعي يفتقر إلى الخصائص المشتركة التي تتحلى بها الجماعة، وتعوزه مظاهر الحداثة التى ينعم بها المجتمع. والأبوية المستحدثة إذن تشكل اجتماعي مهدورة طاقته، ومتميز بطبيعته الانتقالية وضروب شتى من التخلف والتبعية- وهذا كله متجسد فى اقتصاده وبنية طبقاته وكذلك تنظيمه السياسي والاجتماعي والثقافي. وعلاوة على ذلك فهو تشكل غير مستقر بالمرة، تفسخه التناقضات والنزاعات الداخلية…”[v].
وهكذا يمكن التعرف على أبعاد مفهوم النظام الأبوي من خلال تقاطع ثنائيتين هما: الذكورة والأنوثة من ناحية، والحداثة والتقليد من ناحية أخرى، وفيه نلاحظ هيمنة الذكورة وخضوعها وإخفاقات الحداثة وتحدياتها. وهذا بدوره يرتبط بمجموعة من الثنائيات التى تبرز تناقضات المجتمع الأبوى على مستوى الداخل والخارج، مثل سيطرة/خضوع، إستعلاء/دونية، قوة/ضعف، إلى غير ذلك من ثنائيات ترتكز فى نهاية الأمر على علاقات قوى لا متكافئة ومضطربة فى كثير من الأحيان. وإذا كانت هذه الثنائيات تعمل، فى أغلب الأحوال، لصالح الرجل فى نطاق العلاقات الداخلية أو المحلية، فإنها، فى كثير من الأحيان، تعمل لصالح الخارج من منظور التقليد والحداثة، فالقوى الخارجية (الغرب) هى صاحبة السيطرة والاستعلاء على دول ومجتمعات تبدو ضعيفة ومستضعفة بأنظمتها الأبوية التى تعارض الحداثة وتندمج فيها كطرف تابع وضعيف.
وإذا كان النظام الأبوي يؤثر فى مقتضيات الحداثة ويضعفها، فإن الحداثة أيضا أثرت فى النظم الأبوية بالإضعاف وأفقدتها تجانسها وأعادت صياغتها كنظم أبوية مستحدثة. ولعل أهم ملامح هذا الإضعاف هى “أزمة الذكورية”، وتشظى سلطة الأب فى بعض المواقع الاجتماعية.
وبشكل عام يمكن القول أن عمليات الهيمنة والاقصاء والاستبعاد نتاج لتفاعلات متعددة فيها الأبعاد الطبقية والعرقية والدينية والجندرية. وكل من الأبوية والذكورية تتمثل هذه المكونات بدرجات مختلفة فى سياقات متعددة. إن التحديث فى مجتمعاتنا لم يقض على الأبوية والذكورية، بقدر ما أعاد تركيبها لتكون أبوية مستحدثة، تجاهد من اجل الحفاظ على ذاتها، فتصبح عدائية ومأزومة.
[i] أندرو إدجار وبيتر سيدجويك: موسوعة النظرية الثقافية، المفاهيم والمصطلحات الأساسية، ترجمة هناء الجوهرى، المركز القومى للترجمة، العدد 1357، مصر، الطبعة الأولى 2009
[ii] عباس مكى: التحليل النفسى وبنية المجتمع العربى، مجلة مواقف العدد 70-71، دار الساقى 1993، ص 38-44
[iii] آمال قرامى: تصدع الذكورة المهيمنة ومحاولات انقاذها، باحثات، تجمع الباحثات اللبنانيات، المركز الثقافى العربى، الكتاب الثانى عشر، بيروت 2006-2007، ص 100-125
[iv] حول مفهوم “الذكورة المهيمنة” راجع كذلك النقاش التفصيلى حول هذا الموضوع فى الفصل الثانى من كتاب عزة بيضون شرارة، الرجولة وتغير أحوال النساء، المركز الثقافى العربى، بيروت، الطبعة الأولى 2007.
[v] هشام شرابى: النظام الأبوى وإشكالية تخلف المجتمع العربى، ترجمة محمد شريح، دار نلسن، الطبعة الرابعة، بيروت 2000