ذكريات أول يوم أخذت فيه الأولاد إلى المدرسة، من أمتع ما أحب أن أعود إليه في ألبوم الصور الفوتوغرافية، وقد مرت السنوات سريعًا وكبر الأولاد، وفي نفس الألبوم وضعت صور حفل تخرجهم من الجامعة! مَنْ منا لا يفرح عندما يأتي اليوم الذي يخرج فيه أبناؤه للحياة العملية. لكن المسافة الزمنية والمعنوية بين اليومين كبيرة جدًا، وعلينا كوالدين إدراك أن مسؤوليتنا تجاههم الآن قد تغيرت في طبيعتها.
في البداية، أخذتني الدهشة عندما شعرت أن أولادي يعبرون بشكل مباشر أو ضمني عن رغبتهم في الاستقلال عن الأسرة فيما يتخذونه من قرارات تخص مستقبلهم. الكثير من الأمور التي كان يحلو لنا الحديث عنها بالضحك أو بالحوارات الجادة، أصبح الاقتراب منها تلميحًا أو تصريحًا غير مسموح به.. وأية أسئلة أو توجيهات حول اختيارات المستقبل كانت تعني تدخلاً غير مبرر منا كوالدين! لكن مظاهر الاستقلالية هذه التي دخلت إلى حياتنا الأسرية بدون سابق إنذار، لم تعن أبدًا بالنسبة لنا أن ابنينا ليسا بحاجة للدعم الذي يمكن أن نقدمه لهما في هذه المرحلة.. أو أنه لا يمكنهما الاستفادة من نصيحة أب مُحب اعترك الحياة، وأم يتوفر لديها فيض من خبرات اكتسبتها بالتجارب والتحديات التي واجهتها مع الأيام.
عن ظاهرة ميل الأبناء للاستقلال عن والديهم في المراحل الانتقالية المختلفة من حياتهم، كتب الدكتور جيمس دوبسون −السيكولوجي المعروف− ما يمكن أن يشجعنا ويطمئنا. ففي رأيه أن هذا الانفصال مؤقت، ولابد أن يعود بعده أبناؤنا، الذين قضينا عمرنا كله مشغولين بتنشئتهم، إلى دفء العلاقة معنا. ويشبّه دوبسون ما يحدث في هذه المرحلة بالمحاولات المبكرة لغزو الفضاء، وكيف كانت تحيطها المخاطر، خاصة عند اختراق مركبة الفضاء للغلاف الجوي للأرض من وإلى الفضاء الخارجي، حيث يولد الاحتكاك درجة حرارة مرتفعة جدًا تكفي لأن تحول الرواد مع مركبتهم إلى رماد في الحال، إذا حدث خطأ بسيط في زاوية الاختراق.. ولإن الاتصال بالمركبة ينقطع طوال فترة عبورها للغلاف الجوي، لمدة تصل إلى سبع دقائق تقريبًا، يشعر المسؤولون عن متابعة المهمة بوكالة الفضاء أنها تمر كسبع سنوات.. وبينما ينتظر الجميع بلهفة أن يعود الاتصال مع الرواد يكسر صمت قاعة المتابعة صوت قائد المركبة يقول: “لقد عبرنا، وكل الأمور على ما يرام!” هذا ما يحدث مع أبنائنا عندما تأخذهم مركبة الاستقلالية بعيدًا عنا فينقطع التواصل معهم ربما لفترة قد تطول أو تقصر.. لكنهم بالتأكيد سيعاودون الاتصال، وستهبط مركبة حياتهم مرة أخرى على سطح العلاقة مع والديهم، وعندئذ ينتقل الآباء مع الأبناء إلى مرحلة جديدة ورائعة من الحياة والتفاهم المتبادل.
كيف يمكننا التعامل مع الأبناء خلال فترة الصمت أو الانفصال المؤقت هذه؟ لقد راودني هذا السؤال مرارًا، ولأني حريص ألا أخسر ابنيَّ أو أزعجهما؛ فإني أعتمد على رصيد علاقة الصداقة التي تجمعني بهما في كل مرة أبادر فيها بتقديم النصح، وقد وجدت أن ما يساعدهما على رؤية وجهة النظر الأخرى لما يفكران فيه، أن أشارك بآرائي على سبيل الاقتراح، وبدون ممارسة ضغوط من أي نوع. بهذا أتيح الفرصة لهما أن يوازنا بين نصيحتي، وتقديرهما الشخصي لواقع ما يعايشانه قبل أن يقررا ما يختاران.
قبولنا لحقيقة أن طبيعة مسؤوليتنا الأبوية قد تغيرت بنضوج أبنائنا، تجعلنا نفكر قبل أن يصدر منا أي رد فعل تلقائي تجاه ما يختارونه لحياتهم.. فنرفض الحوار، أو نُلقي على مسامعهم محاضرة بما نراه الأفضل من وجهة نظرنا. ولعل أحد أكثر العوامل التي تُبقي على قنوات التواصل مفتوحة معهم هو أن نستمع جيدًا لما يقولونه؛ فقد تكون لديهم تفاصيل عن ظروف وأسباب اختياراتهم تخفى علينا. الإصغاء لهم يؤكد استمرار محبتنا، واحترامنا لما أصبحوا عليه الآن من شخصيات، ويعفينا من سلبية ونتائج إصدار الأحكام المسبقة. لنضع نصب أعيننا دائمًا أن الهدف من الحوار معهم ليس إثبات خطأ تفكيرهم أو سوء اختيارهم، بل مساعدتهم على التفكير في الأمور من منظور أوسع.
نبرة كلماتنا في أي نقاش مع الأبناء تحدد مسار ودرجة حرارة بقية الحوار.. واستعدادنا الصادق لتفهم وجهة نظرهم، ولو اختلفنا معها، يتيح الفرصة لحوار هادئ يجعلهم يقدرون قيمة ما ننصحهم به. لا أحد يحب لهجة التحذير من العواقب، أو كلمات التهديد التي تنذر برد الفعل المحتمل، لكن ما يشجع ابنك أو ابنتك على التفكير في رأيك، والرجوع للحوار معك مرة ثانية هو إحساسهم بأن القرار الأخير للاختيار متروك لهم.
في الحوار مع الأبناء قد تكسب المناقشة وتخسر الشخص، وهذا أسوأ انتصار في أحد أقدس معارك الحياة! في كلمة الله نقرأ عن أهمية التوازن بين وجوب طاعة الأبناء لنا، والحرص على ألا نُثير غضبهم أو نستخف بهم: «أيها الأبناء أطيعوا والديكم في الرب؛ فهذا عين الصواب… وأنتم أيها الآباء، لا تثيروا غضب أبنائكم بل ربوهم (انصحوهم) حسب (أي بأسلوب) وصايا الرب وتأديبه (طريقته في التقويم)» (أفسس ٦: ١ و٤). هذه الكلمات تجعلني أشجع كل أب وأم ألا يتخليا عن مسؤوليتهما في تقديم النصح لأبنائهم؛ لكن المهم الطريقة التي نفعل بها هذا. في النهاية، أيًا كان مقدار ذكاء وقوة شخصية أبنائنا، ومهما حققوا من إنجاز علمي أو مهني.. فإن الأسرة هي ملاذهم الأخير لطلب المشورة، وتحديد اتجاهات الحياة والمستقبل.