إن إطلاق الاستراتيجية الوطنية لمناهضة العنف ضد النساء في مايو 2015 خطوة هامة، طالبت بها لسنوات المجموعات النسوية ومنظمات المجتمع المدني، جاءت هذه الاستراتيجية بعد تاريخ طويل من تفشي ظاهرة العنف ضد النساء في مصر في المجالين الخاص والعام، وفي سياق قيام الدولة ببعض الإجراءات لمناهضة العنف ضد النساء مثل إنشاء إدارة لمتابعة جرائم العنف في وزارة الداخلية في 2013 وتعديل المادة 306 من قانون العقوبات ليجرم التحرش الجنسي عام 2014.
تتطرق الاستراتيجية إلى حماية النساء من العنف من خلال أربعة محاور وهم الوقاية والحماية والتدخلات والملاحقة القانونية وينقسم كل محور إلى عدد من الأهداف الفرعية التي تخص عمل 12 وزارة وهيئة مختلفة. من المفترض تنفيذ هذه الاستراتيجية على مدى خمس أعوام من 2015 وحتى عام 2020. وبالرغم من ملاحظات العديد من المجموعات النسوية على محتوى الاستراتيجية وما بها من إشكاليات مثل القصور في تعريف أشكال العنف المبني على أساس النوع وعدم الإشارة إلى عنف فاعلي الدولة وغيرها من الإشكاليات، إلا أن إقرار الاستراتيجية في حد ذاته وسيلة نحو تحمل الدولة مسؤوليتها في التصدي للعنف ضد النساء وتطوير منظومة شاملة للحد من الظاهرة والاستجابة لاحتياجات الناجيات.
بعد مرور عامين على إطلاق الاستراتيجية، يتضح أن الإشكالية الأكبر ليست فقط الخاصة بمضمون الاستراتيجية وأوجه القصور في محتواها، ولكن بالأساس تلك المتعلقة بآليات المتابعة والتقييم. مع الإعلان عن الاستراتيجية الوطنية في 2015، حاولت بعض منظمات المجتمع المدني مراقبة تطبيق محاورها المختلفة وباءت أغلب هذه الجهود بالفشل، وذلك لغياب آليات واضحة للمراقبة والتقييم من قبل أجهزة الدولة والمجلس القومي للمرأة. فمن ناحية لا يقوم المجلس القومي للمرأة بنشر تقارير دورية حول تطبيق الاستراتيجية ولا تعلن أي من الوزارات والجهات المعنية بتنفيذ الاستراتيجية بشكل منظم عن تنفيذ مهامها الخاصة بالاستراتيجية. بالتالي، لا توجد طريقة لمعرفة ما يتم تطبيقه من محاور الاستراتيجية وهو ما يؤدي بالتبعية إلى صعوبة تقييمها وتطويرها.
وفي إطار اهتمام المنظمات والمجموعات النسوية بتفعيل الاستراتيجية، قامت بعض المنظمات خلال العام الماضي بنشر توصيات مشتركة حول وجود آلية لمتابعة الاستراتيجية الوطنية وتم مخاطبة المجلس القومي رسميا للتشاور حول هذه التوصيات دون تلقي رد من قبل المجلس.
اليوم، مع تزايد وقائع العنف ضد النساء في المجالين الخاص والعام في الآونة الأخيرة، تظهر أهمية متابعة الاستراتيجية باعتبارها وثيقة جامعة لجميع الإجراءات الخاصة بمواجهة هذه الجرائم بدءً من الوقاية وحتى التدخلات والملاحقة القانونية بعد وقوع الجرائم. تطرح هذه الجرائم المتفشية تساؤلات حول أوجه القصور في محتوى الاستراتيجية أو معوقات تنفيذها، إلا أنه من الصعب الرد على هذه التساؤلات أو مراجعة السياسات التي تم تبنيها من قبل الدولة لتقييم الإخفاقات أو المعوقات التي أدت إلى استمرار تفشي ظاهرة العنف الجنسي في ظل وجود الاستراتيجية الوطنية إذا انعدمت آليات متابعة الاستراتيجية. قد تكون آليات المتابعة موجودة بالفعل وقد تتمكن الجهات المعنية بتنفيذ الاستراتيجية من تقييم عملها، إلا أن ذلك يتم بشكل غير شفاف ويقصي العديد من الفاعلين المجتمعيين، فمراقبة الاستراتيجية الوطنية وتقييمها ليس حكرا على الجهات المنفذة بل هو في الواقع في صلب عمل المجتمع المدني وحق مجتمعي للجميع.
بالرغم من تلك الصعوبات السالف ذكرها ، إلا أن إحدى الضمانات لتطبيق وتطوير الاستراتيجية من الأساس هو السعي لمتابعتها حتى لا تصبح حبرا على ورق، ومع تزايد جرائم العنف في الشهور الماضية يصبح هذا الواجب أمرا أكثر أهمية.
من هذا المنطلق وإيمانا بالدور الرقابي والتشاركي للمجتمع المدني، تحاول “نظرة للدراسات النسوية” من خلال هذه الورقة متابعة إنجازات وإشكاليات تطبيق الاستراتيجية خلال العام المنقضي من عمرها (مايو 2016 – مايو 2017).
وتسعى الورقة إلى هدفين رئيسيين: أولا متابعة ما تم إنجازه وفقا لخطة الاستراتيجية خلال هذا العام بالرغم من نقص المعلومات والتقارير الخاصة بتطبيق الاستراتيجية، وثانيا إعادة اقتراح توصيات لمتابعة ومراجعة الاستراتيجية خاصة في ضوء الأحداث الأخيرة.
المنهجية والأدوات
اعتمدت الورقة على متابعة الأخبار المتعلقة بالاستراتيجية الوطنية في الجرائد والوسائل الإعلامية وكذلك الأخبار المتعلقة بالعنف ضد النساء، حتى إن لم تكن في إطار الاستراتيجية مباشرة. كما تم الاعتماد أيضا على التعامل المباشر مع بعض الناجيات من جرائم العنف الجنسي في الخدمات والمرافق الحكومية من خلال خبرة نظرة للدراسات النسوية في تقديم خدمات الدعم النفسي والقانوني والطبي.
تستعرض الورقة أولا متابعة الاستراتيجية في سياق بعض جرائم العنف ضد النساء خلال العام الماضي، ثم استعراض خطة 2017، يليها متابعة منجزات وإشكاليات تطبيق الاستراتيجية، وأخيرا عرض توصيات المراجعة والمتابعة خاصة في ضوء الأحداث الأخيرة.
1- عام جديد من جرائم العنف ضد النساء: الاعتداءات الجنسية والاغتصابات مثالا
تعد محاولات تحليل الاستراتيجية في سياق وقائع العنف ضد النساء في المجالين الخاص والعام خلال العام الماضي أمر ضروري لعدة أسباب. أولا، إن تفشي ظاهرة العنف ضد النساء ليس أمرا طبيعيا بل هو نتيجة لقبول مجتمعي يساعد عليه غياب سياسات وطنية فعالة للتصدي لتلك الظاهرة، أو عدم وجود إرادة سياسية لاعتبار هذه القضية أولوية على أجندة الدولة والمجتمع. فالكثير من أشكال العنف ضد النساء يمكن الحد منها أو من توابعها النفسية والجسدية إن وجدت بعض السياسات والقوانين المفعلة، ومن ثم تأتي أهمية تطبيق الاستراتيجية في سياق الاستراتيجية جرائم العنف التي تقع بالفعل وتحليل الظواهر والإشكاليات التي ينبغي على الاستراتيجية التعامل معها أو التي لم تنجح الاستراتيجية في معالجتها أو الحد منها وبالتالي يجب مراجعة السياسات الخاصة بها.
لم تتوقف جرائم العنف الجنسي في المجالين الخاص والعام وفي أماكن العمل، وبالرغم من عدم وجود إحصائيات دقيقة عن عدد جرائم العنف الجنسي، إلا أن هناك بعض الوقائع التي برزت في الآونة الأخيرة وتدل على قصور في مواجهة أنماط متكررة من العنف الجنسي وإشكالية فيما يلي واقعة العنف. بالرغم من تكرار أكثر من حادث خلال العام الماضي، إلا أنه سيتم التركيز على وقائع محددة لاعتداءات جنسية واغتصابات كأمثلة وأولهم واقعة الإعتداء الجنسي الجماعي على فتاة بمدينة الزقازيق في محافظة الشرقية يوم 31 مارس 2017، حيث اعتدى عشرات الشباب جنسيا على فتاة وهي عائدة من إحدى المناسبات وتدخلت الشرطة بعد مدة لفض التجمع.
أعادت هذه الجريمة إلى الأذهان مشاهد الاعتداءات الجنسية الجماعية التي تقع في الأعياد والتجمعات الكبيرة مثل الاحتفالات ومباريات كرة القدم والتظاهرات، والتي كان تكرارها في التحرير بأعداد كبيرة إحدى أسباب إعادة إحياء العمل على ظاهرة العنف الجنسي بشكل مكثف وتبني الدولة بعض السياسات التي تناهضه. مع تكرار جرائم مشابهة كالتي وقعت في الزقازيق، يبدو أن هناك قصور في السياسات والتدابير المتخذة للحد من هذه الجرائم. لم يكن المقلق فقط هو وقوع تلك الجريمة، بل إن التعامل معها كان دليلا على فشل واضح للسياسات التي تم تبنيها. أولا، انتقص التعامل مع القضية وسير التحقيقات إلى الشفافية بشكل واضح بالرغم من الإعلان عن القبض والتعرف على بعض الجناة. ثانيا، كان رد فعل بعض ممثلي الدولة ونواب البرلمان مخزيا حيث تم تفسير التحرش إلى أسباب متعلقة بانحدار الأخلاق والتدين بدلا من الرجوع إلى الثقافة الأبوية والنظرة الدونية للنساء التي تستبيح أجسادهن، فأشار النائب أحمد العوضي لضرورة “إنقاذ الأجيال الجديدة من تدني الأخلاق وانحدارها”، بينما أكدت النائبة آمال طرابية على ضرورة تقديم طلب إحاطة إلى وزارتي الاتصالات والداخلية لمنع انتشار المواقع الإباحية التي تساعد على تفشي تلك الجرائم بالإضافة إلى “عقد ندوات لاستعادة الأخلاق والتديّن فى المجتمع، بعيداً عن التبرج والملابس القصيرة، لأنها أمور تشد الشباب وتلفت النظر، وتتسبّب فى المعاكسات”.أما مدير أمن الزقازيق فصرح أن الناجية كانت ترتدي ” ملابس قصيرة جدًا أمام أحد الكافيهات، فتجمع عليها الشباب محاولين التحرش بها”. كما تكررت التجاوزات الخاصة بوسائل الإعلام التي تلوم الناجية وتنتهك خصوصيتها، سواء عبر الإشارة إلى ملابسها أو نشر تفاصيل قد تكشف عن هويتها. تتنافى ردود الأفعال التي تلوم الناجية سواء من قبل فاعلي الدولة أو الإعلام مع أهداف الاستراتيجية لخلق بيئة آمنة من العنف، وتوفير الدعم للناجية بدلا من لومها. وربما يؤكد رد الفعل تلك إحدى الإشكاليات الرئيسية في الاستراتيجية وهي غياب الرؤية النسوية لقضية العنف وتجاهل الأبوية تماما كبنية تؤدي إلى هذا العنف في فلسفة ومضمون الاستراتيجية، وهي إشكالية دالة على تعاطي الدولة مع قضية العنف عامة والعنف الجنسي خاصة .
وقامت “نظرة للدراسات النسوية” بتقديم خدمات لعدد من الناجيات من العنف الجنسي ورافقتهن في النيابة وأقسام الشرطة والطب الشرعي، وكانت العديد من الممارسات داخل هذه المؤسسات دالة على الفجوات في تنفيذ الإستراتيجية والتعامل مع الناجيات من العنف. يمكننا أن نأخذ مثالا توضيحيا نسرد من خلاله ما تتعرض له الناجية بعد نجاتها من واقعة العنف. خلال عام 2017 تعرضت مواطنة غير مصرية “ن” إلى حادث اغتصاب في القاهرة. بدأت معاناة جديدة ل ن. بعد واقعة الاغتصاب خلال رحلة تنقلها من مؤسسة إلى أخرى. وصلت ن. النيابة يوم وقوع الجريمة الساعة 7 مساءا آملة أن تتم إحالتها إلى الطب الشرعي في نفس اليوم، إلا أن وكيل النيابة الموجود أصر الانفراد بها 5 ساعات كاملة في غياب محاميها اضطرت خلالها أن تروي تفاصيل واقعة الاغتصاب عدة مرات وبعد الأسئلة المفصلة التي طرحها وكيل النيابة وتكرار تفاصيل الحادث أكثر من مرة لم يتم تحرير محضر بالنيابة لتعذر وجود مترجم. بالتالي، اضطرت ن. حوالي الساعة الثانية عشر في منتصف الليل إلى الذهاب إلى قسم الشرطة لتحرير المحضر. في قسم الشرطة اضطرت ن. أن تروي الواقعة مجددا لثلاث رجال شرطة مختلفين قبل أن يتم تحرير المحضر أخيرا حوالي الساعة الثانية فجرا، وهو ما أثر بالتأكيد على سلامتها النفسية. أما بعد تحرير المحضر اضطرت ن. أن تذهب بسيارة صديقتها مع الشرطة إلى عنوان الجاني ليتم القبض عليه وهو ما حدث بالفعل. نظرا لتأخر الوقت لم تتمكن ن. من العودة إلى النيابة في نفس اليوم او الذهاب للطب الشرعي، وهو ما يعني أنها اضطرت أن تظل بنفس الملابس ليوم آخر للاحتفاظ بالأدلة. في اليوم الثاني، ذهبت ن. إلى النيابة الساعة 11 صباحا ولم يبدأ التحقيق حتى الخامسة عصرا لعدم وجود مترجم وضغط وكلاء النيابة على صديقة ن. لتقوم هي بالترجمة إلا أنها رفضت واضطرت النيابة إلى التواصل مع مترجم ليبدأ التحقيق أخيرا. قامت ن. برواية الواقعة مجددا كما تم إجراء مناظرة بينها وبين الجاني مرتين . كانت العديد من الأسئلة الموجهة إليها تحمل طابعا أبويا مثل السؤال حول عذرية الناجية. ورغم أن بعض هذه الأسئلة قد تكون ضرورية في المحضر، إلا أن طريقة طرح الأسئلة كان بها بعض اللوم أو التهكم. ولم يكن هناك احترام لخصوصية الناجية حيث تواجدت قبل بدء التحقيق خارج غرفة التحقيق في مكان شديد الازدحام وتمت مقاطعة التحقيق أكثر من مرة ودخول وخروج متهمين مختلفين. وفي نهاية اليوم الثاني أحالت النيابة الناجية إلى الطب الشرعي، وتم الكشف عليها من قبل طبيبة في عيادة العنف.
يجمع هذه الأحداث من اعتداءات جنسية واغتصابات في مجالات مختلفة القصور الواضح في السياسات التي تتعامل مع جريمة العنف الجنسي وتحاول الحد منها وهو ما صممت الاستراتيجية خصيصا من أجله، وتحتوي محاورها على العديد من الأنشطة والأهداف التي من المفترض أن تغير من الإشكاليات السابقة كالتعامل الإعلامي والخدمات العامة الخاصة بالناجيات من العنف. ثانيا، في ظل عدم وجود أي آلية للمتابعة أو شفافية في الإعلان عن ما تم من عدمه لا يمكن التنبؤ بأصل المشكلة أو ما ينبغي مراجعته في الاستراتيجية نفسها أو طرق تفعيلها لتفادي الإشكاليات السابقة.