“الوشم الأبيض” هو الاسم الذى اختاره الصديق الروائى أسامة علام ليكون عنونا لروايته الأخيرة الصادرة عن دار الشروق. وأسامة علام روائى مصرى درس فى مصر، ومن بعد فى فرنسا قبل أن يهاجر ويتسقر فى كندا، وهذه الرحلة عبر الأمكنة والثقافات شكلت ملامح أعماله الأدبية، وهى رحلة تكشف عن وعى لا يخلو من حيرة وقلق، حيرة السؤال، وقلق الهوية. وهو الأمر الذى أراد الكاتب لقارئه أن يعيشه بعمق فى أعماله، وخاصة روايته الأخيرة “الوشم الأبيض”، والتى هى رحلة فى فى عالم يقع على حافة العقل والجنون، الماضى والحاضر، التعايش والاختلاف، الوعى واللاوعى. باختصار إنها رواية تكشف عن آلام تشظى الهوية ومجازافات البحث عن ذات ربما لم تُوجد وقد لا تكون، لأنها ذات الترحال والرحيل. والوشم الأبيض ربما يكون رمزا لهوية كبرى ثعبانية تريد أن تلتهم كل الهويات، هوية عنصرية قاتلة تقلق راحة الهويات الأخرى: “لأن الوشم الأبيض يقتل إذا انسحب على أكثر من نصف الجسد”. وهذه هى المعضلة التى يواجهها المهاجر، فإما أن يحتمى بهويته ويقيها من غزو الوشم أبيض، وإما أن يستسلم فيلقى حتفه الثقافى.
وفى الحقيقة أن هذا هو الانطباع الذى سيطر على ذهنى على مدار الرواية، فهى رواية عن مأزق الذات والهوية. وربما لهذا السبب اختار الكاتب أن يكون مجال الرؤية فى الرواية هو الحد الأقصىللهوية: مصحة نفسية، قرية المثليين فى مونتريال، قرية جبلية على تخوم المدينة، واحة سيوة فى مصر، قبيلة فى أفريقيا وصالة رقص الاسترتيز. إنها رواية عن الهوامش التى يجعلها الروائى ساحات للانتحار الطوعى، أو التحول الجنسى، أو الذكريات الحالمة، أو الهروب نحو الأصول، وأخيرا سطوة الوشم الأبيض على جسد فتاة هى حلقة الوصل بين كل تناقضات الهوية. وفى الهوامش لا يبقى سوى ما ليس له وجود، الذكريات: ” لنكتشف بمرور الوقت أن الماضى وذكرياته هما ظلنا الخالد فى وحدتنا. الجميع فى لحظة مريرة سيرحلون ويتركونك تجتر ذكرياتك معهم. ليرحلوا هم أيضا فى طريق وحدتهم وذكرياتهم. البشر تعساء جدا لأنهم لا يملكون سوى الذاكرة والوحدة وجنون الدوران الدائم فى متاهة البحث عن المؤانسة..”.
وماذا بعد الترحال فى متاهات الهوية؟ هل تستقر الذات فى هويتها المستعصية على الوجود؟ فى الحقيقة أن الاجابة التى تقدمها لنا الرواية جاءت تقليدية إلى حد كبير، فالحل فى المؤانسة، والمؤانسة عودة إلى ذكريات آتية من زمن غير الزمن، زمن الأب والأصول، وإلى إمرأة كانت تعيش على هامش حياته، ليصبح هامشها مآل وسكنى للذات الضائعة فى متاهات الهوية، فهى: “الوحيدة التى بقيت لى بعد كل هذا الجنون الذى مر بى. سامحتنى ببراءة وكأنها أمى التى لم تغضب منى أبدا. رغم كل محاولاتى لطردها من حياتى بعنف لم أعهده فى نفسى. تقابلنى على باب شقتنا وتخلع عنى معطفى. تأخذنى لتضعنى فى الحمام كطفل مشاغب. تغنى لى بالساعات ربما تزيح عنى همومى فى البحث عن وهم لا أعرفه…”. وهكذا فإن ذكريات الأب، ستكون الأنشودة الأولى، وأن المرأة، التى هى ابنة بلاده، ستكون رحم هويته الضاعة، والحافظ لجينانها، فهى: “المصرية الرائعة التى تحمل كل جينات المصريات الطيبات”، و” الوحيدة أيضا التى استطاعت حل كل تفصيلات اللغز وأعادتنى إلى المكان الذى وجدت فيه الشفاء الذى لم أكن أبدا أهتدى له بدونها.. واحة سيوة..”. وقد توحى الرواية بنهاية سعيدة وآمنة، ولكن فى حقيقة الأمر، فإن المسألة قد لا تكون إلا إستبدال الوشم الأبيض، بوشم الحنين والذكريات والسكينة، والعودة إلى أصل الهوامش: هامش الرحم الأنثوى الآمن.
إن رواية الوشم الأبيض ليست سردية تقليدية عن العلاقة بين الشرق والغرب، ولا عن المركز والهامش، فلم تعد هناك ثنائيات، وإنما اختراقات ثقافية، وهويات تتعايش بقدر ما تعصف ببعضها. فقد استمعت بقراءة هذا العمل، بكل ما فيه من بساطة وصعوبة. وإذا كان لى ملاحظات عليه، فهى تتعلق بطريقة السرد، فقد إعتمد الكاتب لغة فيها قدر من المبالغة الغير ضرورة لإضفاء مزيد من الغرائبية على العمل، إنها لغة الحد الأقصى، والتى قد تسلب الحد الأقصى قوته الحدية.. وفى الحقيقة أن العمل لم يكن بحاجة إلى هذه المبالغة، وكأن الكاتب يريد إضاءة المضاء.. ولكن يبقى أن رواية “الوشم الأبيض” عمل مميز ومختلف يستحق القراءة.