كثيرا ما نستخدم كلمة “بدون” والتى تعنى نفى شئ عن شئ آخر كأن نقول أن طعام بدون ملح، أو عصير بدون سكر أو بيرة بدون كحول، وهو ما يعنى خلو شئ ما من شئ آخر مرتبط به بدرجة أو بأخرى. والافتراض القائم هو أن الأصل فى الأشياء أن تكون مكتملة وفق تصوراتنا عنها، ولذا فعندما نستخدم كلمة “بدون” فهذا يعنى أننا نفك الارتباط بين أشياء من المفترض أن تكون مرتبطة. وقد يكون مقبولا وبديهيا أن نفترض أن المذاق الجيد للطعام مرتبط بوجود قدر من الملح وأن الحلوى لا يمكن أن تسمى كذلك بدون سكر، أو أن الإنسان يفقد خاصيات أساسية إذا فقد عقله أو إحساسه. ولكن لأسباب متعددة صحية أو دينية أو مزاجية نضطر للفصل بين الشئ وخصائصه، فمرضى الضغط يتجنبون الملح، ومرضى السكرى يتجنبون السكر، وهكذا. ومع ذلك فإن كلمة “بدون” لا تقتصر فقط على منتجات مادية كالأطعمة والمشروبات، فهى أيضا لها أبعادها الإنسانية والاجتماعية والسياسية.
فى كثير من الأحيان يتم وصف شخصا أو جماعة أو فئة ما بأنه أو أنها “بدون” عقل أو بدون إحساس وهنا تصبح “البدون” تعبيرا عن دونية”، وقد يتصور البعض أن هذا مجرد مبالغة، ولكن فى الحقيقة، أن هذا الوصف قائم ويصل إلى حد الاعتقاد، ولعل المثل الأبرز على ذلك وصف النساء بأنهن “ناقصات عقل ودين”، وهو كما نعلم وصف يصل إلى حد الاعتقاد لدى قطاعات واسعة. إن حالة “النقص” فى هذا السياق والتى تعنى درجة من “الدونية” لها مغزى اجتماعى وسياسى واقتصادى، أى السيطرة على هذه الجماعة أو الفئة، أو تهميشها لصالح فئات أخرى. وعمليا، فإن عدم الاعترافالسلطوى بأعضاء فئة أو جماعة يرتبط باتخاذ ما يكفى من التدابير الكفيلة بجعلهم كذلك فى التصور العام، بمعنى استخدام كافة الوسائل الثقافية والتربوية والقمعية للحد من القدرة على إعمال العقل والتفكير، باعتبار أن العطالة الفكرية مطلب سياسى للإبقاء على القناعات السلطوية، ومن ثم علاقات السيطرة.
وبالمعنى الاقتصادى، هناك بشر بدون عمل، وعمال بدون حقوق. وإلى جانب ذلك أسواق تحول فيها البشر إلى مجرد أدوات لجنى الأرباح، أسواق تتطلب عمالة تمتلك مهارات معينة فى مجال التسويق، وهى أن يكونوا “بدون” إحساس، أشخاص عليهم أن يتنازلوا عن احترامهم لذواتهم مقابل الحفاظ على موقعهم فى سوق العمل أو حتى من أجل الترقى فيه. وفى المجال السياسى، تمر علينا مقولات مثل ديمقراطية “بدون” ديمقراطيين، لوصف حالة أنظمة تستهلك شعارات ديمقراطية “بدون” أنتدعمها ممارسات من فاعليين ديمقراطيين بالفعل. فقد أصبحت الديمقراطية خطابا أكثر من كونها حالة واقعية، فهى عند الكثير من مدعى الديمقراطية ليست إلا رطانة تخفى الرغبة فى الوصول للسلطة.
باختصار فإن كلمة “بدون” التى نستخدمها بشكل عفوى، هى مدخل لقراءة العديد من الظواهر والوقائع الحياتية والصحية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية. ولكن من منظور الحقوق، فإن كلمة “بدون” تحمل الكثير من المآسى: فكم من البشر يعانون من التمييز والعنصرية لأنهم واقعيا أو افتراضيا “بدون”؟ بدون هوية أو جنسية أو عمل أو حقوق أو حتى مجبرين من أجل الحفاظ على وجوهم الاجتماعى أو المهنى أن يكونوا بدون إحساس! والأخطر من ذلك أن ترتبط كلمة “البدون” بتصورات عن “الدونية” أى المرتبة الأدنى إجتماعيا وثقافيا وإنسانيا، وأن تكون “دونية” فئة ما وكأنها من طبائع الأمور. إن “البدون” لا تعنى مجرد عدم الاعتراف، ولكنها، للأسف، تعنى الدونية.