قسوة المشهد أكبرُ من رصدها.. حيرةٌ فى العيون، خوفٌ وترقب، غربةٌ تبدأ ولا أحد يعلم إلى أين سوف تنتهي، حزن ووجوم كبير.. كانت هذه الصورةُ ببساطةِ الوصف وعمق المعنى، الصورة الحاضرة كشاشة عرضٍ خلال العودة من الإسماعيلية إلى القاهرة، والتى لا تزيد على الساعتين،بعد زيارة الأسر المسيحية المهجرة والمتواجدة ببيت الشباب بالإسماعيلية حيث فر أكثر من ٣٥٥ أسرة استقر منهم ٧٢ أسرة بالاسماعيلية، والبقية انتقلوا لمحافظات اخري، ليكون بيت الشباب ملاذا مؤقتا في وجود سيارة إسعاف وحراسة أمنية كبيرة لم تكن بالمكان من قبل .
نظرات الترقب والخوف من المستقبل تملأ المكان، وهناك البعض فى انتظار تسكينهم بالوحدات السكنية التى خُصصت من قبل الحكومة لهم بصفة مؤقتة كما حدث مع غيرهم، والأسوار الحديدية للمكان مع الحراسة الأمنية تمنحهم شعورًا ولو بقليل بالأمان، وهو ما افتقدوه خلال تواجدهم بالعريش، وتساؤلات عديدة تطرح نفسها فى ضوء الظروف الراهنة، هل يعود هؤلاء من جديد لمنازلهم أم يستقرون فى الإسماعيلية، أم عليهم الرحيل لمكان آخر؟!
بينما كانت تتردد كلمات الأطفال المسيحيين الذين التقيت والفارين مع أسرهم فى مسامعى، حيث قالوا فى براءة وبساطة “نفسنا نرجع لمدارسنا وكنيستنا وأصحابنا لكننا خايفين”، فى ضوء تهديدات عناصر إرهابية أعلنت ولاءها لتنظيم داعش الإرهابى، وقتل أقباط واستهداف منازل المسيحيين ومتاجرهم.
الخوف يسيطر على قلوب الملائكة.. كيف يحدث ذلك فى مصر بلد الأمن والأمان؟! ألم تختبئ العائلة المقدسة من بطش هيرودس الملك إلى مصر، فى رحلتها من فلسطين إلى مصر عبر العريش، بينما الآن أصبحت مرتعا للإرهابيين والمتطرفين!
التصريحات الحكومية كالعادة تأتى وردية، وترى أنه لم يكن هناك داع، لأن تغادر الأسر المسيحية منازلهم بالعريش وانتقلوا بإرادتهم إلى الإسماعيلية، وهناك من فر إلى محافظات أخرى، ولكن.. من يحمى هؤلاء من بطش الإرهابيين؟
الأغرب أن توصي اللجان البرلمانية التي زات الأسر المهجرة من العريش إلي الاسماعيلية بعودتهم إلي منازلهم فور انتفاء الأسباب، فى الوقت الذى تشكو فيه الأسر حاليًا من سرقة منازلهم ومتاجرهم، وعدم قدرة جيرانهم على حمايتها!
يبدو أن المسئولين فى بلادنا لم يطِّلعوا على نص المادة 59 من الدستور الجديد، التى تنص على “الحياة الآمنة حق لكل إنسان، وتلتزم الدولة بتوفير الأمن والطمأنينة لمواطنيها، ولكل مقيم على أراضيها”.
لن اقتبس نصوصًا من المواثيق الدولية لحقوق الإنسان للحق فى الحياة، والتى وقعت عليها مصر، حتى لا أصنف ضمن نشطاء حقوق الإنسان، الذين يتعرضون لهجمة شرسة حاليا.
ما الخطأ إذًا؟
هؤلاء لا يبحثون عن تحسين أحوالهم المعيشية مثل آخرين، وإنما يريدون الأمن والطمأنينة الغائبة، والغريب أن يحدث ذلك فى أرض مصر، التى جاء عنها فى الكتاب المقدس “مبارك شعبى مصر”، وجاء أيضا بالقرآن الكريم “ادخلوا مصر إن شاء الله آمنيين”.
فما ذنب هؤلاء؟ من قتل أحلامهم وبراءتهم وتركهم يعَاملون معاملة اللاجئين فى بلادهم؟!
خلال ثلاث سنوات مضت، كنت أتفقد أحوال اللاجئين السوريين والعراقيين عبر التنقل إلى لبنان وتركيا وسويسرا والولايات المتحدة فى زيارات خاصة، وسجلت أكثر من مرة فى مقالات سابقة معاناة اللاجئين السوريين والعراقيين، ولكن لم يدر بخاطرى أنه ستأتى ساعة أسجل فيها أحوال المصريين النازحين من جحيم الحرب على الإرهاب فى سيناء.
فى ديسمبر 2014 سجلت ما عانه اللاجئون السوريون عبر الحدود التركية، والتحذير من برودة الشتاء القارس وقلة المساعدات الإنسانية، وفى ديسمبر 2015 نقلت شهادات من العراقيين الفارين من جحيم جرائم الحرب فى الموصل التى ترتكب بحق الأقليات الدينية والعرقية من قبل داعش، وفى مارس 2016 رصدت معاناة أطفال سوريا وجحيم المعاناة التى وصلوا إليها فى ظل استمرار الحرب السورية، وسط عدم قدرة المجتمع الدولى على وقف نزيف الدماء، وفى مارس 2017 أسجل فرار المسيحيين من العريش بعد استهداف مواطنين على هويتهم الدينية وقتلهم وحرقهم ونهب منازلهم ومتاجرهم، فى ظل اشتداد الضربات الأمنية التى تطال معاقل الإرهابيين.
يا إلهى كن رحيمًا بنا…
لم تختلف معاناة الطفل جورج فى الإسماعيلية عن الطفل أحمد الذى التقيت به فى بيروت، الأول مصرى الجنسية والثانى سوري، والاثنان فرا بحثا عن الآمان المفقود، إلا أن جورج فتحت له الكنيسة فى مصر
أبوابها قبل أن تقدم الحكومة مساعدات تحت ضغوط من الإعلام الأجنبي الذى اهتم بالمعاناة قبل المحلى، في الوقت الذي كانت فيه “وطني” تتابع تفاصيل المأساة منذ لحظة اندلاعها وحتي الساعة، بينما أحمد اضطر للعمل فى تلميع الأحذية بشوارع بيروت لتوفير
قليل من المال له ولأسرته للتغلب علي صعوبات الحياة، وهو أفضل من
آخرين من أبناء وطنه، حيث يضطرون للتسول من أجل سد جوعهم.
جورج وافقت وزارة التربية والتعليم علي الحاقه بمدرسة أخري بالاسماعيلية بدلا من مدرسته بالعريش لاستكمال تعليمه في المرحلة الابتدائية، بينما أحمد خرج من التعليم في نفس المرحلة بسوريا، ولم تتوفر له فرصة الالتحاق بمدرسة بديلة ببيروت، جورج عليه البحث عن أصحاب جدد عوضا عن أصحابه بالعريش، ولكن لا يعرف هل يمكن أن يتأقلم معهم أم يشعر بالغربه في وطنه؟ بينما أحمد في الوطن البديل تعرف علي أخرين يتم استغلالهم في العمل بالمحلات بشكل غير قانوني.
أسرة جورج لا تعرف إلي متي يستمر العيش خارج العريش، ولا يعلمون ماذا يحمل لهم المستقبل المجهول من تحديات، حيث يعتمدون علي معونات حكومية مؤقتة ومساعدات كنسية شاملة، في الوقت الذي تتنصل الحكومة ومجلس النواب من دورهم في البحث عن حلول جذرية لمواجهة التطرف والتعصب ومعالجة الأسباب التي دفعت الأسر المسيحية للفرار، ومحاولة التهوين من الواقع الأليم بطمأنة المسيحيين بأن الأمن والأمان عاد للعريش علي غير الواقع، بينما أسرة أحمد تكافح من أجل الحياة ولو علي حد الكفاف في وطن جديد يقدم لهم الأمان المفقود ولكنه يفرض مزيدا من التحديات الاقتصادية لظروف فرضتها التغيرات الداخية والخارجية علي لبنان.
مستقبل مجهول
لا أعرف من عليه الدور فى الفترة القادمة، فإذا كان الأطفال السوريون هم العبء الأكبر فى منطقة الشرق الأوسط خلال ست سنوات مضت، واعتبرت منظمة الأمم المتحدة للطفولة “اليونيسيف” أن 2016 هو الأسوأ لأطفال سوريا، حيث يعيش أكثر من 2.8 مليون طفل سورى فى مناطق يصعب الوصول إليها بسبب الحصار والحرب، كذلك حذرت “اليونيسيف” من المجاعة فى اليمن نتيجة الحرب هناك، وأن المجاعة تمس 2.55 مليون شخص، وأن طفلًا واحدًا على الأقل يموت كل عشر دقائق بسبب سوء التغذية والأمراض، أضف لهم معاناة أطفال العراق بعد وقوع الموصل فى قبضة داعش، وسجلت منظمة “أنقذوا الطفولة” حوالى 600 ألف طفل يعانون من الحصار فى الموصل، حتى معركة تحريرها من قبضة داعش، وأخيرا.. وليس آخرا.. أطفال العريش وشمال سيناء بمصر، هناك حوالى أكثر من 600 طفل نزحوا مع أسرهم هربًا من خطر الإرهابيين.
ومع اختلاف الأسباب والدوافع، يظل الهاجس الأكبر هو الأمن المفقود وانتهاك الحق فى الحياة..
الحق فى الحياة.. أتذكر أننى سمعت هذه الجملة من قبل وقبل ثورات الربيع العربي، إبان تعديلات دستورية أجريت عام 2007 ومنها النص على مبدأ المواطنة لأول مرة، رفضت وزارة الداخلية فى مصر الاعتراف بالبهائية كديانة أو معتقد، وقصر الاعتراف على الأديان السماوية الثلاثة، اليهودية والمسيحية والإسلام، وقال لى الدكتور فؤاد عبدالمنعم رياض أستاذ القانون الدولى، وهو سبق أن كان قاضيًا فى المحكمة الجنائية الدولية لجرائم الحرب فى يوغسلافيا، “امتناع الدولة عن الاعتراف بالبهائية تصنف جريمة ضد الإنسانية، لأن المنع سيترتب عليه كثير من الخطوات تنتهى بإبادة فصيل من المجتمع”، حيث يترتب على منع الاعتراف بالديانة البهائية رفض استخراج أوراق ثبوتية، وبدون شهادات الميلاد يصبح الأطفال بلا حقوق، وبالتالى يظلون محرومين من الحصول على الدواء والأمصال المهمة، ومنها المضاد لمرض شلل الأطفال، وغيرها من الخدمات المكفولة للمواطنين المصريين، ومع ذلك لم يهتم أحد.
يا لها من كوابيس مزعجة فى ظلام الليل الدامس!
ولكن، بقلوب مؤمنة ورجاء كامل، ننتظر نورًا آتيًا من غياهب الظلام، وعبق حرية نستنشقه يومًا من الأيام لنشعر بقيمة الحياة، ونؤمن بحق كل إنسان وأن يعيش كإنسان بعيدًا عن البراميل المتفجرة فى سوريا، أو حصار الإرهابيين للموصل، أو ملاحقة نقص الغذاء فى اليمن، أو شبح الإرهاب الأسود فى سيناء.. ليولد فجر الأمل من جديد.