أظهرت الحضارات الانسانية منذ فجر التاريخ اهتماما بالجسد كموضوع للصحة والجمال، والطقوس، والزهد والرغبة، والموت والخلود. ومع ذلك، فإن الجسد فى عالمنا المعاصىر أصبح موضوعالاهتمامات غير مسبوقة من قبل أطراف عديدة، ففى حين تزايدت فيه قدرة الأفراد على امتلاك أجسادهم، إلا أنها باتت أجسادا سابحة فى تيارات قوية تحركها مؤسسات وشركات مهمتها الاستثمار فى الأجساد باسم الصحة والجمال. فثمة آلة ضخمة لإنتاج وتشكيل أجسادا مرغوبة. وهذه الصناعة لا تلبى تطلعات الزبائن إلى منتجات الصحة والجمال بالمعنى التقليدى والذى كان موجودا على الدوام، بقدر ما تصنع هذه الرغبات وتجعلها رغبات محمومة، بداية من إغراءات النحافة ونضرة البشرة ونعومة الشعر وكثافته، وحتى تعديل الملامح وإعادة تشكيل الأجساد. وقد توحى هذه التطورات فى مجال تقنيات الجسد وكأنها تمنح البشر فرصا أكبر لاختيار الأشكال الجمالية والجسدية التى يرغبون فيها، ولكن ربما يمكن القول أن هذه التطورات لم تحرر الجسد بقدر ما استعبدته وجعلته موضوعا لتدخلات مرئية وغير مرئية. إن السلطة على الجسد باتت أوسع نطاقا وانتشارا.
لاشك ان الجسد كان موضوع التدخلات عديدة ومتنوعة على مدار التاريخ، وخاصة فى العصور الحديثة. فمن الشائع والمعروف خضوع الجسد للمؤسسة الطبية عندما يستسلم الجسد للفحص أو الجراحة، أو للمؤسسة الدينية وفق طقوس ترسم حدود الجسد فى علاقته بمحيطه وفى علاقة الفرد بجسده وبأجساد الآخرين من منظور الطهارة والنجاسة والحلال والحرام. وفى كل المجتمعات مارستالسلطات الأمنية وتمارس سطوة منهجية على الجسد من خلال تقنيات التعذيب التقليدية والمستحدثة. وفى كل الأحوال فإن خضوع الجسد لهذه المؤسسات يتم بطريقة واضحة وصريحة، اختيارية أو قهرية.
ولكن، وعلى ما يبدو، فإن خضوع الجسد لسلطة مؤسسات وشركات الصحة والجمال يبدو مختلفا. فمن ناحية أولى، ثمة إعادة إكتشاف للجسد كموضوع للربح والاستثمار، بداية من الموضة، والرياضة وصولا إلى إقناع الأفراد بضرورة بأن إمتلاك راسمال جسدى هو السبيل إلى تحقيق النجاح الاجتماعى والمهنى، ومن ناحية أخرى، فإن الأمر لم يعد يرتبط بالجسد بقدر ما يرتبط بصورته، فالطلب على تقنيات الجسد الجديدة هو طلب على صورة نريد أن نكونها. إن سلطة الصورة هى التى تمارس سطوتها من خلال خلق فجوة بين ما نحن عليه (صورتنا) والصورة المتخيلة (التى تتطلب جهدا ومالا من أجل الحصول عليها). إن لعبة السلطة بهذا المعنى تعنى خلق شروط ثقافية واجتماعية منظمة بهدف زيادة الطلب على ما هو مأمول أو متخيل. وهذه الشروط تخلق مجالا لا يخلو من عمليات قهر وابتزاز وعنصرية من أجل تشويش وعى الفرد وعلاقته/ا بجسده/ا. وتعتبر الدعاية والاعلان هى أداة سلطة الصحة والجمال والتى تعتمد دائما على معادلة القبح مقابل الجمال، فالواقع هو القبح والصورة هى الجمال. ولنأخذ مثال واحد على ذلك، وهو إعلان فير أند لافلى والذى يعد النساء السمراوات ببشرة بيضاء وناعمة، باعتبارها الصورة المأمولة لكى فتاة أو إمرأة تصبو إلى الجمال.
إن المسألة لم تعد تتعلق بالصحة والجمال بالمعنى التقليدى والمتعارف عليه، لأن هذه الرغباتوالتطلعات كانت دائما موجودة، ولكن بهوس الصحة والجمال، وهو هوس مصطنع فى أغلب الأحيان وكلفته المادية وربما النفسية عالية. فهناك أموال طائلة تربحها الشركات والخبراء ووسائل الدعاية، وهناك لهاث غير مسبوق لاستهلاك سلع الصحة والجمال للتخلص من ملامح وأجساد فقد أصحابهاالقدرة والرغبة فى التعايش معها بفعل الضغط الثقافى والذى يتحول إلى ضغط اجتماعى، إنها ثقافة الاستهلاك التى باتت تمتلك من السطوة والإغراء ما يجعل الأفراد يعيشون غرباء عن أجسادهموأنفسهم وربما مجتمعاتهم.