شرفتنى الدكتورة عزة شرارة بيضون بإهدائى نسخة من كتابها الجديد “العنف الأسرى: رجال يتكلمون”، الذى يتضمن نتائج بحث ميدانى حول عينة من الرجال المتهمين من قبل زوجاتهم بممارسة العنف الأسرى. والجديد والمختلف فى هذا العمل أن الرجال هم من يتحدثون عن أنفسهم، لأن معظم الدراسات المعنية بالعنف الأسرى تركز على الضحايا، أى النساء. والميزة الأخرى أن الرجال اختاروا طوعا التحدث عن تجربتهم فى ضوء إجراءات منهجية اتبعتها الباحثة. وبهذا المعنى فإن هذا العمل يشكل إضافة حقيقية فى مجال دراسات النوع الاجتماعى فى المنطقة العربية. ولاشك أنه من الصعب تقديم عرض للكتاب فى هذا الحيز الضيق، فما يمكن تقديمه هو إشارات وإنطباعات سريعة حول مواقف الرجال كما وردت فى الكتاب، وتحديدا فيما يتعلق بالحجج الدفاعية التى يستخدمها الرجال، وكذلك تصوراتهم عن ذاتهم وعن الآخر (الزوجات).
نلاحظ، سواء من شهادات الرجال أو فى ضوء التحليل الذى قدمته د. عزة، أن خطاب المتهمين بالعنف يتناول وقائع العنف من زوايا مختلفة ومع ذلك فثمة ما هو مشترك بين الجميع، سواء فيما يتعلق بالإحجام عن ذكر تفاصيل هذه الوقائع، على عكس الروايات المعتادة للنساء عندما يحكين تفاصيل العنف الذى تعرضن له، أو فيما يتعلق بتقديم الحجج لتسويغ العنف الذى مارسوه. وبشكل عام، فإن القارئ يكتشف أن حكايات الرجال المتهمين بالعنف تتضمن خليطا من المواقف والتصريحات لتبرئة أنفسهم من الاتهامات المنسوبة إليهم، ففيها جانب دفاعى عندما يتنكر الرجال للعنف أو عندما يعتبرونه من طبائع الأمور، أو أن ما فعلوه لا يستحق أن يسمى عنفا، فمنهم من يرى أن صفعه لزوجته لا يعد عنفا! وإذا ما تم الاعتراف بالعنف فإن اللوم يقع على الزوجة باعتبارها المسئولة، بأفعالها عن إشعال فتيل العنف. فالمرأة مسئولة عن إثارة نوازع العنف عند الرجل، كما أنها مسئولة عن الفضيحة عندما تعترض وتكشف وقائع العنف خارج الحيز الخاص أما أسرتها أو الجهات المعنية.
ونكتشف من روايات الرجال وتحليل الباحثة أن هذه المواقف تعكس ثقافة مجتمعية، وليست مواقف ذاتية بالمعنى الحصرى، وهو ما يتضح أكثر عندما يتم الحديث عن التصورات والصور عن الآخر (الزوجة) وعن الذات (الزوج المتهم بممارسة العنف). فقد يكون من دوافع العنف أو نتائجه، أن يعبر الرجال عن خيبة أملهم، حيث يرى فى زوجته إمرأة أخرى غير التى تزوجها أو توقع أن تكونها فى سياق الزواج، وكما تقول د. عزة فإن معظم من تم مقابلتهم من الرجال وبدون استثناء “يحملون فى دواخلهم خيبة عميقة تجاه زوجاتهم، كلٌ منهم تزوج إمرأة ما لبثت أن انقلبت إلى “أخرى”، أو قل إن كلا منهم تزوج “تصورا” لإمرأة لم تتشبه الزوجة الواقعية بها. وقد يرى البعض منهم أن زوجته ليست “إمرأة” على خلفية تصوراتهم للأدوار التى يفترض أن تؤديها والسمات الأنثوية التى يتعين عليها التحلى بها. أما صورة الذات فتبدوا أكثر تعقيدا، حيث يرى الزوج ذاته كضحية مثيرات العنف التى تتحمل الزوجة مسئوليتها، أو ضحية مكر الزوجة التى تدعى عليه كذبا، أو ضحية نظرة الزوجة له بعدم تقدير كان يتوقعه. وفى هذا السياق، كما يرد فى الدراسة، “يرى معظم الرجال ذواتهم فى الصورة التى تعكسها زيجاتهم لهم، وذلك مدعاة للأسى دائما، لكنها باعثة على الحيرة حين تكون هذه الصورة مختلفة عن الصورة التى رسموها لذواتهم، أو عكسها لهم محيطهم العائلى أو المهنى”. والصورة لا تقف عند حدود الأسرة فإعتراف الزوجة بالعنف ورفضها له، والشكوى فى الحيز العام، يعنى بالنسبة للرجل تدميرا لصورته فى المجتمع، وهكذا فإن لعبة التوقعات والصور عن الذات والآخر عامل أساسى على مسرح العنف الأسرى.
وفى الحقيقة أن الكتاب يتضمن جوانب أوسع بكثير مما تم الإشارة إليه فى هذا المقال القصير، وبالتالى فإن له قيمة نظرية للمهتمين والمهتمات بقضايا العنف الأسرى والنوع الاجتماعى بشكل عام. وإلى جانب ذلك، أتصور أن قيمته وأهميته العملية توازى أهميته النظرية، فهو يصلح مادة للحوار بين الشباب والشابات للتعرف على آليات ومبررات وسياقات العنف الأسرى، كما أنه يقدم مادة ثرية لأنشطة التوعية والتدريب فى مجال النوع الاجتماعى ومناهضة العنف والتمييز.