{ هذه الأرض وطن لشعبين . من الواضح أنه ليس لديهما وطن آخر ولاخيارآخر} .. (عاموس عوز)
إذا كان الأدب الرفيع هوالذى يُعيد صياغة الواقع من خلال رؤى جمالية ، تُخرج الكامن من أعماق الشخصيات، وإذا كان هذا هوأبسط تعريف للأدب رفيع المستوى ، فإنّ قراءة رواية (حنة وميخائيل) للكاتب الإسرائيلى عاموس عوز(الدارالعربية للطباعة والنشرعام 1994 ترجمة رفعت فودة) ينطبق عليها هذا التعريف لأنه من خلال الشخصيات قدّم صورة لكل تناقضات المجتمع الإسرائيلى ، وأنّ هذه التناقضات هى التجسيد الحى للصراع داخل هذا المجتمع .
المحورالأول : هوأنّ المجتمع الإسرائيلى متعدد الأعراق وبالتالى فهومتعدد الثقافات واللغات، لدرجة أنّ أكثرمن شخصية تتحدث العبرية بصعوبة وركاكة. ورغم أنّ هذا التعدد العرقى كان سببًا لافتقاد التجانس المجتمعى ، فإنّ هذا الافتقاد للتجانس لم يُخلخل انتماء الإسرائيليين لدولتهم . والسبب أنّ الإسرائيليين (غربيين وشرقيين ، علمانيين وأصوليين) يؤمنون أنّ دولة إسرائيل هى حقيقة لايجب التشكيك فيها ، وبالتالى فإنّ أى تشكيك وأى تهديد لهذه الدولة ، يجعل الإسرائيليين يقفون ضد هذا التهديد. أى أنّ مفهوم (الوطن) هوالذى وحّد كل الإسرائيليين. ويكون الاختلاف داخل هذا المجتمع حول الحق الفلسطينى. فالأصوليون ينكرون أى حق للفلسطينيين ويُشجّعون على استخدام العنف ضدهم. وكان الكاتب موفقــًـا وهويجعل عين البطلة (حـِـنة) تقرأ على جدران مدينة القدس كتابة حمراء غيرواضحة من أيام منظمات العمل السرى هذه العبارة ((بالدم والنارسقطت يهودا. وبالدم والنارستنهض يهودا)) فعلــّـقتْ ((لم أحب الفكرة التى وراء هذا الشعار. بل أحب ترتيبها الداخلى. نوع من التوازن الخطرلاأستطيع أنْ أشرحه)) وفى المقابل نجد ميخائيل يقول لابنه عن حرب48 ((هنا كان العرب. ونحن هنا)) ووالد ميخائيل يحكى عن ((عرب أشرار وعرب أخيار)) وحـِـنة تتكلم فى مونولوج عن ((فلسطين البعيدة)) أى أنّالرواية تعكس صورة للتيارين الرئيسيين : تيارالأصوليين الرافضين لأى حق للفلسطينيين تأسيسًا على مرجعيتهم الدينية. والتيارالعلمانى واليسارالإسرائيلى المدافعين عن حق الفلسطينيين فى إقامة دولتهم .
هذا الموقف الذى جسّده الكاتب فى الرواية تعبيرصادق عن قناعاته الشخصية ، إذْ قال فى حديث صحفى ((إنّ النزاع العربى الإسرائيلى على الأرض هونزاع ليس بين حق وباطل وإنما بين حق وحق)) وفى كتابه (هنا وهناك فى أرض الميعاد) قال ((إنّ هذه الأرض وطن لشعبين . ومن الواضح أنه ليس لديهما وطن آخر ولا خيارآخر. لذا فإنّ عليهما أن يتقاسماها بشكل ما))
المحورالثانى : تقديم صورة للأصوليين. فتتذكرحـِـنة أنها وهى طفلة ((كنا نتجول فى شوارع بعيدة. نركض لاهثين نُعذب الأطفال المتدينين)) ووالد ميخائيل عندما سأل عن عنوان بيت ابنه ، ضلله الأطفال المتدينون)) وعمات ميخائيل الأربع تتعجبن : ((لماذا يعيش ميخائيل بين المتدينين بدلا من العيش فى مناخ ثقافى متحضر)) صورة المتدينين المعادين للتحضر، أكد عليها الكاتب كثيرًا. إذْ بينما تسيرحـِـنة وميخائيل فى مدينة القدس ، ينقض على ميخائيل يهودى أمسك بزر معطفه وقال ((ويلٌ لك يا معكرصفوإسرائيل. إنْ شاء الله تموت)) ميخائيل لايعرف الرجل الذى أضاف ((فليكن الموت من نصيب كل أعداء الرب. آمين يارب العالمين)) والمتدينون يرون أنّ ((البنات كلهنّ من عمل الشيطان)) والسيدة (هاداساه) تنتقد الجامعة العبرية لأنهم يديرونها بأكثرالطرق أصولية)) والأصوليون اليهود يحاولون إثبات أنّ كتابهم المقدس سبق العلم فى الاكتشافات العلمية ، فيتكلم والد ميخائيل عن شك الخبراء فى الآية التى تقول ((أرض حجارتها من حديد. ومن جبالها يـُـقطع النحاس)) الموجودة فى سفرالتثنية. وميخائيل بعد حرب 48 يرفض الذهاب الى أى مستوطنة (كيبوتز) فى النقب . وترى عمته جينيه أنه بذلك أحسن صنعًا ، لأنه توجه للدراسة فى الجامعة ليخدم الشعب والدولة بعقله ومواهبه وليس بعضلاته))
على الجانب الآخريُبرزالكاتب الوجه المضاد للأصوليين . فرغم وجود ظاهرة التعصب الدينى ، فإنّ العلمانيين لهم حق الدفاع عن أنفسهم وإعلان معتقداتهم . وأكثرمن ذلك فإنّوالد ميخائيل تعوّد ((أنْ يصف نفسه بأنه يُمارس الإلحاد)) وميخائيل مثل والده . تقول حـِـنة ((نحن لانُشعل شموع السبت لأنّ ميخائيل يرى فى ذلك نفاقــًـا من جانب الذين يتمسكون بالمبادىء الدينية)) ويقول ميخائيل ((أبى لم يعرف ما هوالصدق فى المبادىء الدينية . وحين انضم أخى عمانويل لحركة يسارية ، حينذاك فقط توقفتْ العادات الدينية فى بيتنا يوم السبت)) والتعصب الدينى يصل لدرجة أنْ يقول أحدهم ((جميع أبناء إسرائيل متساوون أمام الرب إلاّ أولئك الذين حلــّـتْ عليهم اللعنة منه سبحانه)) أى إقصاء كل مختلف مع الإيمان العبرى . وإذا كان هذا الإقصاء يشمل الفلسطينيين ، فهويشمل أيضًا الإسرائيليين الرافضين للمرجعية الدينية العبرية. وهذا أحد أهم بؤرالصراع داخل إسرائيل. وهوما إهتمتْ الرواية بإبرازه. وتكتمل الصورة عندما يرفض ميخائيل أنْ يلتحق ابنه بأية مدرسة دينية . وقد شاركته زوجته حـِـنة فى ذلك وقالت ((ميخائيل مُـصمم على أنْيكون ابنه تقدميًا فى آرائه)) وحين تكتشف أنّ ابن جيرانها يكتب شعرًا مستمدًا من التوراة تقول ((أنوى أنْ أشجعه على أنْ يكون شاعرًا وليس مدرسًا للتوراة)) وتصف تلاميذ مدرسة دينية بأنهم ((بدوا لى أكثرهمجية. أكثرعنفــًـا من السنين السابقة)) وإحدى السيدات تجد أساسًا مضحكــًـا للتزامن ((بين التراتيل الدينية والمطر. ولهذا انفجرتْ فى ضحك أجش))
المحورالثالث هوالموقف من مصراستنادًا إلى ماجاء فى التراث العبرى المعادى لجدودنا المصريين القدماء. تدورالرواية فى أجواء حرب 56 فقال د. أورباخ الذى يُعالج حـِـنة ((هذه أيام صعبة ومن الصعب جدًا فيها الابتعاد عن الأفكارالتوراتية. حسنًا بالأمس إحتل الجيش الإسرائيلى جبل سيناء. تقريبًا كما توقع سفرالرؤيا)) وقال آخر((فى هذا الوقت قواتنا تطارد جيش فرعون الهارب. والبحرلم ينغلق لمجرمى مصر)) وقال ميخائيل ((سنخيف الأردن والعراق حتى الموت. ثم نستديرلنضرب مصر)) وعلقت حنة ((حملقتُ فى زوجى كأنه يتحدث باللغة السانسكريتيه)) وقالت حنة إنّ التلاميذ يتعلمون ((قصة الخروج من مصروالضربات العشر. أبدى معظم الأولاد فزعًا شديدًا. ربما مشوشًا من قسوة المصريين ومعاناة العبريين. أما جونين (ابنها) فقد سأل أسئلة تتعلق بإنشقاق البحر. كان لديه إعتراض منمق على أقوال التوراة)) وأذاع الجيش الإسرائيلى البيان التالى ((صحراء سيناء هى المهد التاريخى للأمة الإسرائيلية))
المحورالرابع يتناول علاقة الإسرائيليين بالفلسطينيين. وتجسده حنة التى تدور أحداث الرواية على لسانها. حنة شخصية مركبة شديدة التعقيد ، تهاجمها الأحلام الكابوسية. تشعردائمًا أنها على حافة الخطر. طوال الرواية يختلط الذاتى بالعام. فى طفولتها كانت تلعب مع طفليْن عربييْن توأم . قالت عنهما ((كنتُ أميرة وهما حارسىْ. كنتُ قائدة مغوارة وهما الضابطان. كنتُ القبطان وهما الملاحان)) وقالت لميخائيل ((وأنا فى الثانية عشرة من عمرى وقعتُ فى حبهما. كانا ولديْن جميليْن)) وفجأة تراهما ((ذئبان. همجيان)) وعندما قرّرتْ الانفصال عن زوجها (رغم أنه زوج مثالى) فإنها ترى التوأم العربى فى أحلامها ومعهما صندوق متفجرات. ولكنها ترى أيضًا فى أحلامها الكابوسية سائق التاكسى الإسرائيلى وهويُطوّق خاصرتها كإنسان همجى متوحش . أى أنّ إحساسها بالخطرنابع من إحساس عام بتركيبة المجتمع الإسرائيلى ، فترى أنّ مدينة القدس ((أوهام. مدينة تبعث على الحزن. القدس قلعة أشباح. يسكنها أصحاب الأرواح الشريرة. من الذى بإمكانه أنْيستوطن القدس ؟ إنها مدينة الأفنية المغلقة. مخنوقة خلف جداران كئيبة. إننى من مواليد القدس . أما أنّ القدس مدينتى فهذه لا أستطيع أنْ أكتبها)) وبرع الكاتب فى تضفيرهمومها الخاصة بالهم العام . فهى مشغولة بفلسفة الوجود وتسأل زوجها ((قل يا ميخائيل من أجل ماذا تعيش ؟)) وتعترض على زوجها حيث لاحظتْ أنه يُردد كلمات محفوظة عن أبيه فقالت ((إنّ أباك هوالذى يتحدث الآن)) فرد عليها ((لم أفكر فى ذلك . لكن الأمرطبيعى . فأنا ابن أبى)) فرفضت منطقه وقالت ((الفظيع ليس فى أنك ابن أبيك . الفظيع أنّ أباك يبدأ الحديث فجأة من حلقك. جدك وجدى وأبى وأمى وبعدها يكون مائير(ابنها) كلنا كأننا نتعاقب شخصًا إثرشخص. كلنا مسودات . نسخة جديدة تظهربعد الأخرى . وبعد أنْ تتلف تُلقى فى سلة المهملات. وتظهر مسودة أخرى بتغييربسيط . ياله من إنعدام الجدوى)) إنها ترفض أنْ يكون مجتمعها نسخ كربونية. لذلك تكون هواجسها طبيعية عن الذين يُهددون حياتها. تخشى من التوأم العربى ومع ذلك تحن لطفولتها معهما. وتتمنى أنْ ينضما إلى العرب المناصرين للسلام. وتعشق الحياة بطريقتها الخاصة. وكان الكاتب موفقــًـا عندما قدّمها فى السطورالأولى وهى تقول ((أكتب لأنّ أناسًا أحبهم قد ماتوا. أكتب لأننى حين كنتُ صبية كانت لدى القدرة على الحب . أما الآن فإنّ قدرتى على الحب تموت . أنا لا أريد أنْ أموت))
الدفاع عن دولة إسرائيل رغم اختلاف التيارات السياسية والثقافية ، الدعوة الى السلام. إدانة الإصوليين اليهود. الصراع بين الأصوليين والعلمانيين ، هذه المحاورالتى تناولتها الرواية هى أيضًا مواقف الكاتب الذى قال للناقد الأمريكى ديفيد سباتر((على السطح فى إسرائيل هناك ثقة فى النفس هائلة. رصيد ضخم من اللامبالاة. ومن إجابات سخيفة تدورفى أى ذهنى وتتمثل فى : لا تنزعج . نحن نستطيع أنْ نحل كل شىء. ونتغلب على كل صعوبة. ولكن هذه الثقة تطفح على السطح فقط ، بينما فى العمق ، وفى ذات طيات الضميروالعقلية الإسرائيلية ، هناك شعورقديم بالفزع اليهودى التقليدى . فزع بالشعوربالذنب تجاه العرب . ويُؤدى فى حالة بطلة الرواية إلى نزوات إنتقامية)) وفى حديث آخرسأله أحد النقاد : هل لازال يأمل أنّ دولة علمانية ديموقراطية تستطيع البقاء فى إسرائيل ؟ فقال ((التطرف الدينى والتعصب حققا إرتفاعًا هائلا. ليس فقط فى القدس. ولكن فى أماكن كثيرة أخرى من العالم تحت سيطرة الإسلام والمسيحية واليهودية. يؤدى ذلك إلى سيطرة الأصوليين على القدس . إننى لن أعتبرأنّ موجة التطرف الدينى فى إسرائيل ظاهرة عابرة . إنها ثابتة وقائمة)) وعاموس مؤلف الرواية عضوفى حركة السلام الآن . ومع إقامة الدولة الفلسطينية. وخلال الاعتداء على لبنان عام 82 قاد مظاهرة ضد مناحم بيجين مذكرًا إياه أنّ هتلرقد مات . ونشرقصة قصيرة فى مجلة اليوم السابع تدورحول أم تشعرأنّ إحتلال القدس فى حرب67 لايساوى إصبعًا واحدًا من أصابع ابنها الذى فقدته فى تلك الحرب .
تبقى ملحوظة خاصة بالمترجم . فإذا كان ابن ميخائيل عندما سمع قصة خروج اليهود من مصر((كان لديه إعتراض على أقوال التوراة)) وإذا كان من حق أى مترجم التعليق على أية أخطاء تتعارض مع لغة العلم ، وهوما فعله كثيرون من المترجمين ، لذلك كنتُ أتوقع من أ. رفعت فودة أنْ يستشهد بأقوال العلماء الذين فنّدوا افتراءات بنى إسرائيل ضد جدودنا المصريين أمثال جيمس فريزرالذى نفى أنْ يكون قد صدرأمرمن الفراعنة بطرح كل أطفال العبريين فى الماء (الفولكلورفى العهد القديم- ترجمة د. نبيلة إبراهيم- هيئة الكتاب المصرية- عام 74 ج 2 ص 12) أو فرويد الذى كتب أنّ القصة التى ترويها التوراة عن موسى والخروج ليست أكثرمن أسطورة دينية)) ((موسى والتوحيد- ترجمة د. عبدالمنعم الحفنى ص 84 ، 109 ، 135) أو أ. شفيق مقارالذى كتب أنّ اليهود كانوا رعاة رحل جياع تسللوا عبرحدود مصرليأكلوا وينهبوا (قراءة سياسية للتوراة- رياض الريس ص 92) وكتب جورج هربرت ويلز(( إنّ قصة استيطان بنى إسرائيل مصرواستعبادهم فيها وخروجهم منها قصة صعبة للغاية . ففى تاريخ مصر ذكر لأقوام من الرعاة الساميين سُمح لهم بالإقامة فى أرض جاسان (محافظة الشرقية حاليًا) بإذن من الفرعون رمسيس الثانى . وفى هذا السياق قال التاريخ إنّ جعل أولئك الناس يلجأون إلى مصر كان الجوع ،إلاّ أنه لاذكرهناك إطلاقًا فى أى شىء مما سجله تاريخ مصرلشخص اسمه موسى أو أى ذكرلسيرته. كما أنه لاذكرلأية ضربات أوكوارث طبيعية حلــّـتْ بمصرأو لأى فرعون غرق فى البحرالأحمر)) (نقلا عن شفيق مقار- مصدرسابق ص 311) لم يُقدّم مترجم الرواية هذه الخدمة لقارئه واكتفى فى الهامش رقم 41 بأنْ لخص قصة الخروج كما وردتْ فى سفرالخروج . ولازال الألم يعتصرنى وأنا أقرأ فى الرواية على لسان أصولى يهودى ((فى هذا الوقت قواتنا تطارد جيش فرعون الهارب . والبحرلم ينغلق لمجرمى مصر)) (ص155) واستدعيتُ كل قراءاتى فى علم النفس لأعرف الحالة الشعورية للمترجم وهويترجم افتراءات بنى إسرائيل ضد جدودنا المصريين . فشلتْ محاولتى واستبعدتُ أن يكون المترجم من المؤمنين بالتراث العبرى المعادى للحضارة المصرية. ولكن آلمنى أكثر أنّ المترجم الذى قرأ العهد القديم ، لم يكتشف أن المجرمين الحقيقيين من واقع معظم أسفارالعهد القديم هم اليهود ، وبالتالى كانت أمامه فرصة للرد على أكاذيب الأصوليين اليهود من واقع كتابهم الذى يقدسونه. وكمثال واحد فإنّ إله العبريين يُحرّض بنى إسرائيل على سرقة المصريين (الخروج 3 : 18- 22) وأكثرمن ذلك فإنّ هذا الإله العبرى ينزل بنفسه فى منتصف الليل ليقتل كل بكر فى أرض مصر (الخروج 11 : 4- 7)