لا شك أن لمصر مكانة خاصة فى نفوس من يقطنون البلدان العربية ولا أتحدث هنا عن مصر السياحية، ولكن عن مصر التاريخ والثقافة والفن.. والكل يعرف أن شخصيات مثل أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب عبد الحليم وفاتن حمامة والقائمة تطول، هى جزء من تراث المنطقة العربية، فحيثما ذهبت يمكن ان تسمع أصوات أو نغمات مصرية بوصفها جزء أصيل من الثقافة المحلية بغض النظر عن جغرافية المكان وموقعه داخل الخريطة. وهذا هو الوجه المشرق لمصر الذى نحبه ويحبه الآخرون. فإذا أردنا أن نتحدث عن مشتركات قومية، فربما كانت الثقافة والفن هى إنكسار الحدود والحواجز السياسية وتجاوزها. وهكذا فإن الحب والمودة والتقدير أمور نستشعرها ونسمعها ونلاحظها فى كل مكان وفى كل الأوساط النخبوية منها والشعبية، وخاصة الأجيال الأكبر ممن عاشوا وعشن فترات كان لمصر وفنها وثقافتها قيمة معترف بها.
ولكن مصر لم تكن دائما موضع حب ومودة وتقدير، فثمة جوانب أخرى باتت تثير الاشمئزاز بسببممارسات تنتهك كل القيم والأعراف المستقرة. وقد زادت معدلات الاشمئزاز فى السنوات الأخيرة، بعدما فقدت مصر قيمتها الثقافية والفنية، وهيمن على الساحة خطابات سياسية وإعلامية أقل ما يقال عنها أنها سطحية وتافهة وعدائية. وإذا أخذنا الخطاب الإعلامى المصرى، لأنه الأكثر انتشارا بفعل القنوات الفضائية، فإن صورة مصر التاريخ والثقافة تم استبدالها بصور تشع قبحا ترسمها كلمات أباطرة الإعلام الجدد. ولا نبالغ إذا قلنا أننا أصبحنا نشعر بالحرج بسبب هذه السطحية والتفاهة. ولا شك أن الإعلام فى كل مكان بات يتسم بسمات سلبية، ولكن تفاهة الخطاب الإعلامى المصرى فاقت كل تفاهة، فهو خطاب مثير للغضب والاشمئزاز.
وإلى جانب الحب والاشمئزاز نستشعر الآن مشاعر الشفقة فى ملامح وتعبيرات من نلتقيهم من المنطقة العربية، وهى على ما يبدو حالة مستجدة بسبب التردى الذى تشهده البلاد على كل المستويات، سياسيا، وقانونيا، وثقافيا، واقتصاديا. وهى، على ما أعتقد، مشاعر تختلف عن المشاعر إزاء أهل سورريا واليمن وليبيا، فلهذه البلاد الحزن، ولمصر الشفقة. وهنا تحديدا تأتى المقارنة مع تونس، والتى فتحت الأبواب أمام الكثير من الحقوق والحريات، على عكس مصر التى تسعى لإغلاق كل باب يمكن أن يأتى بضوء أو أمل نحو العدالة والديمقراطية. ولا يعنى ذلك أن تونس لا تعانى من مشكلات أو تهديدات، فهذا غير صحيح، فهذا البلد يواجه تهديدات اقتصادية وإختلالات سياسية.ولكن بالمقارنة مع مصر فثمة اختلاف لا يمكن إنكاره أو تجاهله. فإذا استعرنا عنوان كتاب الراحل الدكتور فوزى منصور “خروج العرب من التاريخ”، فبكل أسف يمكن القول أن مصر تسعى بدأب للخروج من التاريخ، فى حين أن تونس تجاهد وتجتهد للحاق بركب التاريخ. والتاريخ لا يرحم.
إن التساؤلات تتعدد وعدم اليقين يزداد إزاء كل ما يحدث فى مصر بداية من سؤال كيف يمكن للمواطن المصرى أن يعيش فى ظل الظروف الاقتصادية التى تتردى يوميا بعد يوم، والسؤال حول كرامة المواطن المصرى وحقوقه فى ظل أوضاع سياسية تنزع عن المجتمع ما تبقى له من حقوق وحريات. وبقدر ما كانت تعبيرات الحب والمودة والتقدير تبعث في كل مصرى الإحساس بالقيمة والكرامة، فإن مشاعر الاشمئزاز بسبب السطحية والتفاهة السياسية والإعلامية تجعلنا نشعر بالحرج، أما نظرات شفقة فلا تثير لدينا إلا الإحساس بالمرارة لما آلت إليه الأوضاع. وفى النهاية يبقى الحلم بأن تستعيد مصر مكانتها وقيمتها التى تتراجع لأسباب لا تتعلق بتحديات كبرى، بقدر ما تتراجع بسبب ضيق الأفق والانتهازية والمصالح الضيقة.