وهكذا فإن عبارة اغفر لهم, لا تعني المغفرة ليهود اليوم.. لأنهم لايزالون باقين علي يهوديتهم في إنكارهم للمسيح وفي إنكارهم لبتولية العذراء, وفي اعتقادهم أن يسوع الناصري الذي ولد منذ 2016 سنة استحق أن يصلبه آباؤهم وبهذا يشتركون في خطية آبائهم بموافقتهم لهم علي ما فعلوه, ويستحقون الدينونة.
أما إن تابوا وآمنوا وصاروا مسيحيين فإن الرب يغفر لهم وعندئذ لا يدعون يهودا بعد.
إن السيد المسيح قد قدم خلاصا للعالم كله ولكن لا يتمتع بهذا الخلاص سوي المؤمنين التائبين السائرين في طرقه المتمتعين بعمل الروح القدس في أسراره.
هؤلاء المؤمنون التائبون اغفر لهم يا أبتاه.. أما الباقون الذين أصروا علي عنادهم فهؤلاء قال لهم المسيح: حيث أكون أنا, لا تقدرون أنتم أن تأتوا (يو 7: 24) وقال لهم أيضا: ستطلبونني وتموتون في خطيتكم.. إن لم تؤمنوا إني أنا هو تموتون في خطاياكم.. ثلاث مرات في الأصحاح الثامن من الإنجيل لمعلمنا يوحنا الرسول يقول لهم: إن لم تؤمنوا بي, تموتون في خطاياكم (يوم 8: 21 – 24).
أما الذين فيهم بارقة أمل, ولو من بعيد, فهؤلاء مهما أخطأوا إليه ومهما اضطهدوه ومهما طردوه فإنه يظل يردد في سمع الآب تلك العبارة الجميلة يا أبتاه اغفر لهم, لأنهم لا يدرون ماذا يفعلون.
من بين هؤلاء الذين طردوه ورفضوا أن يدخل تخومهم, أهل السامرة وتحمس تلميذاه يعقوب ويوحنا, وطلبا إليه أن يأمر فتنزل نار من السماء فتفني هؤلاء الذين طردوه, أما هو فأجاب تلميذيه قائلا: لستما تعلمان من أي روح أنتما, لأن ابن الإنسان لم يأت ليهلك أنفس الناس بل ليخلص (لو 9: 52 – 56), هذا ما قاله لتلميذيه, أما للآب فلا شك أنه قال العبارة نفسها يا أبتاه اغفر لهم لأهم لا يدرون ماذا يفعلون.. وهكذا صبر عليهم حتي عرفوه, فأحبوه, وآمنوه به (يو 4: 42).
إن عبارة: يا أبتاه اغفر لهم تحمل عمق الحب, وعمق المغفرة, ولكي تسبر أعماقها, تصورها بالنسبة إلي نفسك.
قد تستطيع أن تغفر لإنسان أتعبك.. أما أن يلفق إنسان حولك تهما, ويحكم عليك ظلما, ويثير عليك الشعب والحكام, ويهزأ بك, ويجلدك, ويعلقك علي الصليب, ويدق المسامير في يديك وقدميك.. ثم بعد ذلك – وأنت في عمق الألم – تستطيع أن تغفر له, وتصلي لأجله, وتدافع عنه.. فهذا يحتاج إلي حب فوق الطاقة, وفوق العادة.
كثيرون آمنوا بالمسيحية من أجل هذه العبارة وحدها.. يا أبتاه اغفر لهم. لأني من أجل هذا جئت.. هذا هو العزاء الذي يفرح قلبي وسط كل آلام الصليب, وسط كل آلام الهزء, وكل آلام التخلي.
إنهم مغلوبون من خطاياهم, مغلوبون من عمل إبليس فيهم, ومغلوبون أيضا من ضعف إرادتهم ومن جهلهم شعوري نحوهم هو شعور إشفاق.. لست أذكر ما يعلمونه فالمحبة لا تطلب ما لنفسها, إنما أذكر أمامك حاجتهم إلي المغفرة.
اغفر لهم, لأنك بهذا تفرحني, إذ أكون قد أتممت رسالتي وحققت هدفي.
حقا, لماذا تجسد المسيح؟ أليس من أجل أن الآب يغفر لهؤلاء؟ لماذا أخذ شكل العبد, وصار في الهيئة كإنسان (في 2: 7)؟ أليس لكي يغفر لهم؟ لماذا حمل خطايانا؟ لماذا علق علي خشبة؟ كل هذا بلاشك لكي يغفر لهم.
إن هذه العبارة هي بداية عهد الغفران, ليس الغفران الموعود به, وإنما الغفران المدفوع ثمنه.. إنها إعلان بأن العدل الإلهي قد استوفي حقه علي الصليب.. إنها صك.. وثيقة المشتري الذي دفع الثمن ويريد أن يستلم.. إنه اشترانا بدمه, وبقي أنا يأخذنا معه, لكي ندخل الفردوس معه, ونتمتع بالملكوت معه, وحيث يكون هو نكون نحن أيضا.. وكأنه بهذه العبارة يقول للآب: ماذا تريد من هؤلاء؟ ما هو دينك عليهم؟ أليس هو الموت, أجرة الخطية؟ هوذا أنا أموت عنهم هو ذا أنا أوفي دينك عليهم أطلقهم إذن من حكم الموت, إنك تأخذ الآن حقك بالتمام.. وبعد قليل سأقول لك قد أكمل فاغفر لهم.
إن السيد المسيح بهذه العبارة يعلن انتصاره علي الشيطان.. كل جهاد الشيطان كان في إبعاد الناس عن الله, وفي إبعادهم عن المغفرة, وفي عرقلة طريق الخلاص ولكن هوذا طريق الخلاص قد فتح للناس, واستطاع الرب المجروح لأجل معاصينا أن يرش دمه علي الخيمة فيقدسها.
لقد انتصرت محبته علي كراهية الناس وانتصر تواضعه علي كبرياء الشيطان..
كانوا يقولون له إن كنت ابن الله انزل من علي الصليب أما هو فأعلن أنه الابن بقوله: يا أبتاه ولكنه وهو الابن سيبقي علي الصليب, لكي يغفر لهم, ولو نزل من علي الصليب ما استطاع أن يقول اغفر لهم.. الآن استطاعت ذبيحة الحب أن تؤدي عملها في المغفرة.
عبارة يا أبتاه اغفر لهم, هي العبارة التي كان يشتاق لسماعها كل الراقدين علي رجاء من بدء الخليقة كلها, إن كان هكذا قد أحب الرب صالبيه ومقاوميه وغفر لهم, فكم تكون بالحري محبته لأحبائه ومريديه, وكم يكون عمق غفرانه وسمو مكافأته.
إنها عبارة أذهلت كل الجنود المحيطين بالصليب وأذهلت أيضا اللص اليمين الذي توجه إلي الرب بكلمته الثانية اليوم تكون معي في الفردوس.