منذ 59 عام كانت ملحمة تأميم قناة السويس التى صنعها رجال بواسل صمموا أن تكون القناة تحت السيادة الوطنية وأن المصريين قادرين على تشغيل القناة بنفس القدرة والكفاءة التى كانت عليها ، ملحمة تأصلت واكتملت بملحمة وطنية جديدة هى حفر قناة السويس الجديدة التى بدأ العد التنازلى لافتتاحها، و كلا الملحمتين أكدت للعالم كله إن الشعب المصرى يملك إرادة قوية تهبه الصمود والتحدى .
منذ البداية وضعت الثورة أمام عينيها أهدافا وسعت لتحقيقها ، ودارت جميعها في فلك التغيير ، وكان من أهمها التنمية التي دخل تحتها التحرر الاقتصادي من الهيمنة الأجنية التي طال أمدها ، ونتج عنها احتكار موارد مصر واستغلالها ، ومثلت قناة السويس دعامة أساسية في هذا المجال ، حيث استحوذت الشركة المسيطرة عليها علي معظم الأرباح ، فرغم أن مصر قد أسهمت بنحو97 % من تكاليف القناة ، فإنها لم تحصل إلا علي نحوثلاثة ملايين دولار عام 1955 من صافي ارباح الشركة التي وصل الي مائة مليون دولار ، كما انه لم تكن شركة قناة السويس شركة عالمية ، وانما اطلقت عليها تلك الصفة نظراً الي تعدد الجنسيات المساهمين فيها ، وهذه التسمية ما هي الا علامة تجارية لا علاقة للقانون الدولي بها ، ومن ثم فهي شركة مصرية مساهمة .
ويذكر ان اول من نادي بتأميم القناة هو الزعيم محمد فريد الذي نادي بذلك في اثناء نظر مد فترة امتيازات القناة في الجمعية العمومية عام 1910 وكتب عدة مقالات فند فيها أضرار المد المالية والسياسية ، وطالب فيها باسترداد الشركة في مقابل تعويض مالي يدفع للشركة ، كما نشر مقال في جريدة اللواء في 30 يناير بعنوان ” مسألة قناة السويس – اعتبارات سياسية ” ونشر مقال أخر بعنوان ” حول قناة السويس ”
ملحمة التأميم تبدأ عندما كلف الرئيس الراحل جمال عبد الناصر كلف المهندس محمود يونس رئيس هيئة البترول ، والمهندس محمد عزت عادل والمهندس مشهور أحمد مشهور والمهندس عبدالحميد أبو بكر، بإعداد خطة التأميم فى غضون 48 ساعة فقط ، وكانت عملية التأميم تتم فى سرية تامة، ولم يكن عدد كبير من الوزراء يعلم بهذا ، وفى اللحظة التى أعلن فيها عبد الناصر نبأ التأميم فى 26 يوليو 1956 الساعة العاشرة تماما فى ميدان المنشية ، كان المهندسون المنوط بهم عملية التأميم يتولون الإشراف على المهام التي أسندت إليهم، والسيطرة على مكاتب شركة قناة السويس فى بورسعيد والسويس والإسماعلية ومكتبها الإدارى فى جاردن سيتى .
وحتى لا تفوتنا الاحداث، أنه قبل الاحتفال بالذكري الرابعة للثورة قد ألقي عبد الناصر خطاباً في 24 يوليو بمناسبة افتتاح خط جديد لأنابيب البترول بين السويس ومسطرد ، وتحدث عن البيان الأمريكي الخاص بسحب تمويل مشروع السد العالي ورد علي ذلك بقوله ” إننا لن نسمح بهيمنة القوة والدولار ، وسوف أقول لكم يوم 26 يوليو إن شاء الله كيف عملت مصر علي أن تكون كل مشاريعها مثل هذا المشروع ، مشاريع سيادة وكرامة وبصوت متهدج قال ” عندما تنتهك واشنطن كل المبادئ القويمة التي تقوم عليها العلاقات الدولية ، وتروج الاكاذيب والتضليل وتقول إن اقتصاد مصر ضعيف ، فإنني أقول لهم في وجههم : موتوا بغيظكم ، فلن تتمكنوا من فرض إرادتكم علي مصر ” .
بعدها أعلن عبد الناصر قرار التأميم فى خطابه بمناسبة العيد الرابع للثورة وقد احتشد الآلاف فى ميدان المنشية بمدينة الإسكندرية لسماع الخطاب ، وقبل الخطاب بساعتين استدعى عبدالناصر مجلس الوزراء وأعضاء مجلس قيادة الثورة للاجتماع، وأبلغهم بالقرار فانقسم المجتمعون حوله، وانتهى الاجتماع بقول عبدالناصر لهم: «أريد أن أكون منصفًا لكم جميعًا، فأسجل هنا أننى أتحمل مسؤولية قرار التأميم، وللشعب المصرى والتاريخ أن يحاسبنى عليه، فلست أريد لأحد منكم أن يتحمل مسؤولية قرار خطير لم يعرف به إلا قبل إعلانه بوقت قصير».
بدأ عبدالناصر خطابه التاريخى الذى استغرق ثلاث ساعات، وأنصت إليه العالم، وشمل شرحا وافيا لقصة مصر مع القناة منذ حفرها بسواعد المصريين ، وسيطرة فرنسا وبريطانيا عليها، وكانت كلمة «ديلسبس» فى الخطاب هى كلمة السر المتفق عليها لبدء تنفيذ عملية التأميم فور نطق عبدالناصر بها، وأخذ يكرر كلمة “ديلسبس” أكثر من مرة ، وبمجرد تلقى الإشارة من أول مرة نطق فيها الرئيس عبد الناصر كلمة السر بدأت عملية التأميم فى العاشرة مساءا.
ونذكر هنا عندما دخل المهندس محمود يونس قائد عملية التأميم ومجموعته مبنى هيئة القناة فى الإسماعيلية، جلس يونس على مكتب مسيو بيير مينيسه المدير المالى والإدارى وأكبر موظف فرنسى فى الشركة، ثم أحضر صورة لجمال عبدالناصر وحاول أن يثبتها على جدار المكتب، ولم يجد ما يدق به المسمار سوى تمثال فرعونى حديدى، فلم يتردد فى استخدامه وخلال ربع ساعة كانت عملية الاستيلاء قد تمت وبدأت مرحلة الجرد، وما جرى فى الإسماعيلية حدث أيضا فى بورسعيد والسويس.
وعقب إعلان قرار التأميم تم عقد مؤتمر صحفى بوزراة التجارة أذاع فيه محمد أبونصير وزير التجارة بيانا شرح فيه قانون التأميم وموقف شركة القناة، وفى نفس الوقت كان المديرون للإدارات الثلاثة يجلسون أمام محمود يونس ومعهم ضابط الاتصال المصرى المكلف بالترجمة كمال بدر ، وطلب من كمال بدر أن يبلغ المديرين الثلاثة قرار التأميم، وأن الشركة أصبحت مصرية تتلقى تعليماتها من مصر وليس من أى جهة خارجية كما كان، وفى البداية لم يستوعبوا ما قيل لهم فطلبوا من ضابط الاتصال المصرى إعادته مرة أخرى، فتلا محمود يونس القرار بالنص، وترجمه كمال بدر فقرة فقرة، ، ولم يجد المديرون الثلاثة غير الصمت و سألوا عن مصيرهم ومصير زوجاتهم وأولادهم فرد يونس بأن الحكومة المصرية تضمن سلامتهم وتؤكدها، وكل ما تطلبه الحكومة أن يستمر كل شخص فى أداء عمله المعتاد والحكومة مسئؤلة على المحافظة على حقوقهم كافة.
لقد عمت الفرحة قلوب الجميع وبالطبع كان أشد الناس ابتهاجا بقرار التأميم موظفو شركة القناة المصريون وعماله وسارت حركة الملاحة وانتظم العمل في القناة في اليوم الأول للتأميم وفي الأيام التالية بدقة متناهية، ولم تتعطل أية سفينة، وظلت قناة السويس تؤدي رسالتها ، كما ان صبيحة إعلان تأميم القناة خرجت الصحف المصرية لتنقل ردود الأفعال العالمية تجاه التأميم ، فرصدت اجتماع إيدن بكبار القادة العسكريين البريطانيين والاتفاق علي اجتماع وزيري خارجية بريطانية وفرنسا إضافة إليا المناقشة العاصفة التي حدثت بين سفير مصر في باريس ووزير خارجية فرنسا .
لقد جاء قرار تأميم شركة قناة السويس ، بعد أن سحبت الولايات المتحدة عرض تمويل السد العالى و تبعتها بريطانيا والبنك الدولى ، وقامت هيئة المنتفعين بالقناة بسحب المرشدين الأجانب بالقناة لإثبات أن مصر غير قادرة على إدارة القناة بمفردها ، وكان أول رد على قرار تأميم القناة قيام فرنسا وانجلترا بتجميد الأموال المصرية فى بلادهما ، كما قررت الولايات المتحدة وقف تقديم أى مساعدة مالية أو فنية لمصر فى محاولة تعبئة الرأىالعام الدولى ضد مصر ، وإقناعه بأن تأميم شركة قناة السويس ، قد خالف المواثيق الدولية ، وأن قرار التأميم يهدد حرية الملاحة فى القناة ويهدد الأمن فيها .
وعندما فشلت السياسة الاستعمارية فى تحقيق مآربها عن طريق الضغط الدبلوماسى دبرت لاستعمال القوة العسكرية وكان العدوان الثلاثى على مصر حيث قامت كل من بريطانيا وفرنسا وإسرائيل بتدبير مؤامرة ثلاثية على مصر على إثرها بدأ هجوم إسرائيلى مفاجىء يوم 29 اكتوبر 1956 وجاء الإنذار البريطانى الفرنسى لمصر بأن تحتل بريطانيا وفرنسا اقليم القناة الذى يضم بورسعيد والاسماعلية وبورسعيد من أجل حماية الملاحة فى القناة ، لكن مصر رفضت ، فما كان على بريطانيا وفرنسا سوى شن غارتها الجوية على القاهرة وعلى منطقتى القناة والإسكندرية ، وأصبحت مصر تحارب على جبهتين جبهة إسرائيل على الحدود ، وجبهة الاستعمار البريطانى الفرنسى فى الداخل ، فأصدر جمال عبد الناصر الأوامر بسحب جميع القوات المصرية من صحراء سيناء الى غرب القناة .
وتتوالى الأحداث حيث وجه الاتحاد السوفيتى إنذار الى بريطانيا وفرنسا إذا لم تتراجع الدولتان عن موقفهما سيلجأ الى استخدام القوة بعدها تم وقف إطلاق النار وانسحاب القوات الفرنسية والبريطانية فى 22 ديسمبر 1956 ، وبدأت عملية تطهير القناة التى انتهت فى 11ابريل 1957 وتكلفت 8.5 مليون دولار .
أما ملحمة التوسيع تعود فكرة مشروع المحور لنهاية السبعينات عندما طرح المهندس حسب الله الكفراوى وزير الإسكان حينها على الرئيس أنور السادات لكن المشروع لم يخرج للنور ، ثم أعيد طرح المشروع على الرئيس حسنى مبارك لكن ايضا لم يخرج للنور ، فى عام 2012 قدمت الاخوان المسلمين مشروع تنمية قناة السويس ضمن مشروعهم المسمى النهضة اثناء انتخابات الرئاسة 2012 .
فى 5 اغسطس 2014 أعلن الرئيس عبد الفتاح السيسى عن البدء فعليا فى إنشاء مجرى ملاحى جديد لقناة السويس وتعميق المجرى الملاحى الحالى وتنمية محور قناة السويس بالكامل بهدف تعظيم دور اقليم قناة السويس كمركز لوجيستى وصناعى عالمى متكامل اقتصاديا وعمرانيا ويتوافر به إمكانيات جذب فى مجالات النقل واللوجستيات والطاقة والسياحة والاتصالات وتكنولوجيا المعلومات والزراعة وفى 15 أغسطس 2014 أعلن رئيس الوزراء ابراهيم محلب طرح شهادات استثمار قناة السويس بهدف جمع 60 مليار جنيه مصرى لتمويل مشروع محور قناة السويس من خلال المصريين فقط ، وبلغت حصيلة بيع الشهادات وفقا ما اعلنه البنك المركزى المصرى الى 61 مليار جنيه مصرى وهو المبلغ المطلوب لحفر القناة الجديدة ، كان القرار بحفر قناة السويس الجديدة لتكون جاهزة لاستيعاب السفن المستقبلية، ومستعدة للتعامل مع النمو في حجم التجارة العالمية، ففي العام 2023 ستمر 97 سفينة يوميا بدلا من الانتظار بالأيام فى المجرى الملاحى .
ونختتم بما صرح به الفريق مهاب مميش إن “قرار التأميم بنى مستقبل مصر وأيضا قرار بناء السد العالي بنى مستقبلها، إنها قرارات عملاقة أثرت في التاريخ المصري وفي العالم أجمع، فالرئيس الراحل جمال عبد الناصر أخذ أشجع قرار بتأميم قناة السويس ولولا هذا القرار كنا مازلنا تابعين للشركة العالمية لقناة السويس البحرية ولها حق امتياز ويجب التعلم من الماضي لبناء حاضرنا ومستقبلنا، وأن يكون قدرنا وممتلكاتنا في أيدينا وتكون لنا اليد العليا دائما وعلى مر الزمان”.