الآن وبعد مرور عقود من الزمان على ظاهرة “الإرهاب”، هل اكتملت الصورة أم مازالت مشوشة؟ سؤال يطرح ذاته وخاصة مع ظهور ما يسمى بتنظيم الدولة الإسلامية “داعش” والذى على مايبدو جعل الصورة أكثر تشويشا وأقل شفافية عن السابق، فتنظيم القاعدة كان أكثر شفافية من حيث من يمثله ويتحدث باسمه، أما “داعش” فليس له من يمثله ويمكن أن يظهر فى أى وقت وفى أى مكان.
والغريب فى الأمر، أن الظاهرة تتفاقم، مع أنه لم يحدث فى التاريخ إجماعا، على المستوى السياسى على الأقل، على مواجهة ظاهرة مثلما حدث مع ظاهرة الإرهاب، فمنذ أن أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية حربها على الإرهاب وقد أصبحت الحرب على الإرهاب إلى ظاهرة كونية بالمعنى الأمنى والقانونى، وبالتبعية أصبح الإرهاب ذاته ظاهرة كونية،مع الإقرار بأن البلدان العربية والإسلامية هى ساحة المواجهة والعمليات العسكرية.
والآن وبعد مرور سنوات عديدة، فمازال الغموض يكتنف تلك الظاهرة التى استنفرت كل أجهزة الأمن، وسُنت من أجلها قوانين، وأُقيمت تحالفات، وشُنت فى مواجهتها الحروب. ورغم كل هذه الجهود فلازالت المشكلة قائمة، بل على العكس باتت أكثر تعقيدا. وهذا يجعلنا نفترض إما أن كل هذه الجهود تفتقر إلى الفعالية، وإما أن الجماعات التى تمارس الإرهاب لديها قدرة فائقة على تطوير ذاتها، وإما أن هناك أسبابا تجعل من الإرهاب أحد أدوات إدارة الصراعات على المستويات المحلية وفى إطار العلاقات الدولية.
لنفترض أن المجتمع الدولى عاجز، بكل ما يملك من إمكانيات، عن اتخاذ تدابير فعالة لمواجهة الإرهاب، وهذا قد يحمل قدر من الصحة، ولكنه لا جيب عن السؤال، بل يأخذنا نحو سؤال آخر، وهو لماذا المجتمع الدولي عاجز رغم أنه يمتلك الكثير من الإمكانيات؟ ولو كان عجزه شبيه بعجزه عن مواجهة النزاعات المسلحة فى مناطق متعددة، ففى هذه الحالة ستكون الإجابة واضحة، وهى بسبب عدم توافر الإرادة السياسية اللازمة للحد من الإرهاب، مثلما لا تتوافر الإرادة السياسية للحد من النزاعات أو حلها. وإذا افترضنا أن الجماعات الإرهابية قادرة على تطوير ذاتها بوتيرة أسرع من إجراءات وتدابير مواجهة الإرهاب، فهذه الفرضية ليس لها معنى إلا من خلال وضعها فى سياق يتعلق بدور الدول والمجتمع الدولى فى خلق مناخ داعم للإرهاب، بمعنى خلق مناطق نزاع تسمح بظهور وانتعاش هذه الجماعات، وتسهيل طرق الحصول على الموارد والأسلحة والعتاد والقوة البشرية..الخ. ونظرا لغياب ما يكفى من المعلومات، فإن الصورة لا تزال مشوهة، ولكن أيضا يمكن التكهن بالمصالح والروابط بين هذه التنظيمات وعدد من الدول، وخاصة فى مناطق النزاع كالعراق وسوريا وليبيا واليمن.
وتبقى الفرضية الثالثة وهى أن الإرهاب، وإن استقل على المستوى التنظيمى، إلا أنه جزء من منظومة سياسية أكبر. ربما يكون من السهل التدليل على الفرضية، فقد كانت بدأ بن لادنمسيرته مدعوما من قبل المخابرات الأمريكية، ولا يجب أن ننسى دور السادات فى دعم التيارات الجهادية فى البداية، وهذه مجرد نماذج يمكن القياس عليها، وخاصة فيما يتعلق بتنظيم الدولة الإسلامية. فالتنظيمات الإرهابية لها دور وظيفى فى الصراعات الدولية، وبمجرد نظرة على التنظيمات النشيطة فى البلدان العربية لنستشعر ارتباطها بدول وأجهزة تنشط فى فى مناطق النزاع. ولا يمكن التعويل على الخطابات السياسية للدول لفهم ما يحدث، لأن الحرب على الإرهاب جعلت اليد العليا للأجهزة الأمنية وليس السياسية. إن الهيمنة الكبرى للأجهزة الأمنية فى إطار الحرب العالمية على الإرهاب، خلقت حقائق جديدة، وهى أن الإرهاب يمكن توظيفه لتحقيق مصالح، تبدأ من الضغط على الخصوم وحتى الاستفادة من تجارة السلاح والنفط والآثار، أما الحقيقة الثانية المعاكسة فهى أن كل إنسان بات إرهابى محتمل، وهو ما يجعلنا نعيش فى خوف مطلق، وتجعل حاجتنا للاجراءات والتدابير الأمنية حتمية ومتواصلة. وإذا سلمنا بصحة هذه الفرضية، فقد نتفهم لماذا يجرى تشويش صورة الإرهاب بعد كل هذه السنوات من محاربته، فعلى الصورة أن تبقى مشوشة ومشوهة فلا نرى الحقيقة، حقيقة السياسة وهى يشكل الإرهاب أحد عناصرها.