غالباً ما نلجأ إلى صيغة التشاؤم والتفاؤل لتبرير الطابع الشخصى لوجهات نظرنا، وخاصة عندما تكون القضية التى نتناولها محل خلاف وتتعلق بتوقعات مستقبلية.
وعندما نتحدث عن حقوق الإنسان، فإن فكرة التشاؤم والتفاؤل تتطلب بداية أن يكون لدينا قناعة وإيمان بالحقوق ذاتها، وبدون ذلك فلا معنى لتشاؤمنا أو تفاؤلنا. ولنفترض إذا، أننا نتطلع لمجتمع (أو عالم) تُحترم فيه الحقوق والحريات، وبالتالى ننطلق لنرى إذا ما كان هذا ممكنا فى ظل التحولات التى يشهدها العالم الآن. ولأن حقوق الإنسان مسألة إنسانية عامة، فإن تقييم أوضاع ومستقبل حقوق الإنسان يتطلب النظر فى الأمر على أكثر من مستوى، وأعنى بذلك المستويات الدولية والإقليمية والمحلية، فعلى ما يبدو أن ثمة تحولات درامية على المستويات الثلاثة لها بالغ الأثر على وضعية ومستقبل حقوق الإنسان.
فعلى المستوى الدولى كانت النظرة إلى فكرة حقوق الإنسان دائما مثالية، فتبدو الحقوق، فى هذا المجال، وكأنها ترتدى أبهى ثيابها، فهو المجال الذى أُعتبر الحصن السياسى والأخلاقى لخطاب حقوق الإنسان منذ عقود طويلة. وعليه فإن ثنائية الدولى مقابل المحلى كانت توحى دائما بأن عقلانية حقوق الإنسان تحلق هناك فى المجال الدولى، ولكنها سرعان ما تسقط فى مستنقع الانتهاكات بمجرد أن تهبط فى الواقع المحلى. وهذا من الناحية النظرية، أما من الناحية السياسية، فكنا نعلم كذلك أن حقوق الإنسان لم تكن تختال فى المجال الدولى بحرية وبدون قيود، بل كانت دائما تنزلق فى أنفاق ومستنقعات السياسة المنتشرة فى أرجاء المجال الدولى وفى أقوى مواقعه، فهو االمجال الذى يحتكر أكثر من غيره حق شن الحروب وإدارتها، كما أنه الحيز الذى يثير الزعر والتوتر فى المجالات الإقليمية والمحلية.
فالحروب التى شنت باسم الإرادة الدولية، كانت أكبر تلويث لحقوق الإنسان، كما أن الاستراتيجية الكونية للحرب على الإرهاب كانت ومازالت أكبر استراتيجية للتلاعب بحقوق االإنسان، وكانت مصدر إلهام كبير للسلطات المحلية لتبرير إنتهاكات حقوق الإنسان. ومادام ما يسمى “المجتمع الدولى” يسير فى هذا الاتجاه، فلا يسعنا إلا ان نقول أن فرص التشاؤم أكبر بكثير من فرص التفاؤل على الأقل فى المستقبل المنظور.
وعلى المستوى الإقليمى، وهنا أتحدث عن المنطقة العربية، فلسوء الحظ أن هذه المنطقة كانت دون غيرها الساحة التى تُمارس عليها الاستراتيجية الكونية للحرب ضد الإرهاب.
وهى أيضا المنطقة التى شهدت “ربيعا” بلا طائل، فجمعت بين كونها ساحة حرب وبين كونها صاحبة أكبر فشل جماعى فيما يتعلق بالانتقال الديمقراطى. وعلى الرغم من التردى الدرامى الذى تشهده معظم البلدان العربية، إلا أن التوازنات الإقليمية باتت أكثر تأثيرا على الأوضاع المحلية مقارنة بالتوازنات الدولية والتى كانت أكبر تأثيرا فى الماضى القريب. ولأن المجال الإقليمى هو فى مجمله غير متصالح مع فكرة حقوق الإنسان، فإن تزايد الضغط الإقليمى بعشوائيته السياسية وأمراضه الثقافية، لا يؤثر فقط على أوضاع حقوق الإنسان محليا، بل يقلل من فرص التفاوض مع المجتمع الددولى، ولو نظريا، حول قضايا حقوق الإنسان.
وأخيرا يأتى المستوى المحلى، وهو الحقل التطبيقى لحقوق الإنسان، والذى يشهد تشوهات سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية غير مسبوقة. ففى السابق كانت معادلة حقوق الإنسان والسياسة واضحة بحيث يمكن قياس التقدم والتراجع وتحديد المسئوليات، أما الآن فنحن إزاء وضع ضبابى غير مستقر، بداية من مجالات باتت بلا دولة، إلى مجالات تسعى فيها الدولة لأن تثبت وجودها بكل ما تملك من قوة.
فمحليا لا يمكن التنبوء بأى شئ، ليس فقط على صعيد القدرة على تعزيز واحترام حقوق الإنسان، ولكن أيضا من منظور المدى الذى يمكن أن تصل إليه إنتهاكات حقوق الإنسان فى بعض المواقع على المدى الطويل فى ظل غياب الدولة وضياعها. وفى سياق هذه الضبابية فإن معادلة التشاؤم والتفاؤل لن تخلو من تناقض وارتباك لأن حقوق الإنسان لا يمكن فصلها عن عن الكيان الأكثر إرباكا فى المنطقة، أى الدولة التى تُغيَب حقوق الإنسان فى حضورها، وتغيب بغيابها.