بداية هذا الموضوع ما جاء في سفر القديس يوحنا وبالتحديد الإصحاح الرابع عندما اكتشفت المرأة السامرية أن يسوع المسيح حدثها عن أسرار حياتها الخاصة – هذا مع العلم أنها لم تلتق به من قبل مما دعاها أن تشهد عنه لأهلها من السامريين قائلة : ” هلموا أنظروا ذاك الرجل الذي قال لي كل شيء فعلته . أيكون هذا هو المسيح ؟ !! معتقدة في البدء أنه نبي وقالت له : ” يا سيد أري أنك نبي ” ( يو 4 : 19 ) .
أرادت السامرية من السيد المسيح بعد ما اعتقدت فيه أنه نبي أن تسأله عن مشكلة عقائدية جري فيها خلاف طويل بين السامريين واليهود علي مدى بضعة قرون ، ولم يظهر نبي بعد ليحسم هذا الخلاف حيث أنها قالت في وضوح وهي تشير إلي الجبل الذي أمامها وهو ( جبل جرزيم ) : ” لقد كان آباؤنا يسجدون في هذا الجبل ، وأنتم تقولون أن في أورشليم الموضع الذي ينبغي فيه السجود
وإذا بحثنا عن جذور الخلاف بين اليهود والسامريين ، فأن التاريخ قد علمنا جذور العداء المستحكم الذي اقتضى القطيعة بين الشعبين بعد أن كانوا شعب واحد – هو شعب بني إسرائيل .
المعروف أن السامرة هي إحدى مقاطعات الدولة الثلاثة : مقاطعة الجليل في الشمال ، ومقاطعة السامره في الوسط ، ومقاطعة اليهودية في الجنوب … وجميع السكان في هذه المقاطعات الثلاث كانوا من شعب بني إسرائيل ، وكانت لهم مملكة واحدة عاصمتها أورشليم ، القدس وذلك إلي عهد سليمان بن داود .
1 – مملكة إسرائيل ، والتي تضم عشرة اسباط من الأثني عشر سبطاً من أسباط بني إسرائيل – قد انفضوا عن رحبعام بن سليمان وأسسوا لأنفسهم مملكة قائمة بذاتها –هي مملكة السامرة – وأسموها مملكة ( إسرائيل ) – وجعلوا عاصمتها ” شكيم ” وهي الآن نابلس ، ثم أقام ” يار بعام ” ابن نباط ملكاً عليهم .
2 – مملكة يهوذا ، لم يبق بعد انفصال الأسباط العشرة عن رحبعام بن سليمان –سوي سبطين هما سبط يهوذا ، وسبط لاوي ( سبط الكهنوت ) – وهؤلاء احتفظوا باسم (أورشليم) عاصمة لمملكتهم – وقصة هذا الانقسام الخطير تجدها تفصيلياً في سفر الملوك الأول أصحاح 12 .
ولكي يضمن يربعام – ولاء مملكة إسرائيل المكونة من عشرة أسباط له ، واستمرار انفصالها عن مملكة يهوذا – أي أن يمنع ذهاب شعب إسرائيل إلي أورشليم للحج أو للسجود هناك حيث الهيكل – استشار الملك وعمل عجلين من الذهب – وقال لهم لا حاجة بعد للصعود إلي أورشليم – هذه آلهتكم يا إسرائيل التي أخرجتكم من مصر ، وجعل أحداها في بيت أيل ، والآخر وضعه في دان – وأقام كهنة من لفيف الشعب ، لم يكونوا من بني لاوى ، وأقام عيداً في الشهر الثامن ، وفي اليوم الخامس عشر من الشهر كالعيد الذي في يهوذا – وأصعد علي المذبح في كل من بيت أيل وفي دان ( 1 ملوك 12 : 25 –33 ) – وبعد ذلك بنيت السامرة ، أو جددت من أيام عٌمري أبي أخاب ملك إسرائيل ( 876 – 842 ق.م ) .
وصارت السامرة هي عاصمة مملكة إسرائيل إلي زمن السبي أو الجلاء يقيمون فيها الملوك ويدفنون بها عند موتهم ( 1 ملوك 16 : 23 – 28 ) ، ومن بعد ( عٌمري ) جاء ابنه ( أخاب ) وأقام فيها مذبحاً للبعل في هيكل البعل ( الذي بناه السامرة ) – فصارت السامرة منذ البدء مدينه وثنية – وعلي الرغم مما قام به ( ياهو ) ملك إسرائيل من ثورة قتل فيها جميع عبده البعل ليحارب الوثنية ( 2 ملوك 10 : 18 – 28 ) إلا أن الوثنية عادت فاستفحلت في السامرة ( هوشع 8 : 4 – 6 ) ، ( عاموس 8 : 14 ) .
وبالإضافة إلي كل ما سبق وأن حدث – فأن ( شلمناصر ) الملك – ملك أشور هاجم مدينة السامرة في سنة 724 ق.م واستعبد ( ياهو ) ملكها . وحاصرها لمدة 3 سنوات – ثم حدث أنه في عام 722 ق.م قام خليفة ( شلمناصر ) – ويدعي ( سربون ) وغزا السامرة –وسبي من أهلها 27280 شخصاً إلي أشور وأسكنهم في دان ونهر جوزان – وترك الباقين الضعفاء من سكانها ، ولكي يضمن خضوع أهل السامرة له أيضاً ، نقل إليها شعباً من الأجانب ، من قوم بابل وغيرها – وأسكنهم في مدن السامرة مكان بني إسرائيل ، فامتلكوا السامرة واستوطنوا مدنها – وكانوا في بداية إقامتهم هناك لم يتقوا الرب . ولما اشتكي أهل السامرة الأصلين من أن الأفراد الذين تم استيطانهم لا يعرفوا حكم إله الأرض – أمر ملك أشور قائلاً : أبعثوا إليهم واحداً من الكهنة الذين تم إجلائهم من السامرة فيذهب ويقيم معهم ويعلمهم حكم اله الأرض .
فكان أهل السامرة يعبدون آلهتهم كعادة الأمم الذين جلوهم بينهم ، ولا يتقون الرب ولا يعملون بحسب سننهم وعوائدهم ولا بحسب الشريعة والوصية التي أمر بها الرب نبي يعقوب الذي سماه إسرائيل إلي هذا اليوم .
قطع الرب معهم عهـداً وأمرهم قائلاً : لا تتقوا آلهة أخري ولا تسجدوا لها ، ولا تعبدوها ، ولا تذبحوا لها ، بل الرب الذي أخرجكم من أرض مصر بقوة عظيمة وذراع مبسوطة ، إياه فاتقوا – فهو ينقذكم من أيدي جميع أعدائكم – فلم يسمعوا – بل بحسب عاداتهم الأولي كانوا يعملون – فكان هؤلاء الأمم يتقون الرب ويعبدون تماثيلهم . وكذلك بنوهم وبنو بنيهم –إلي هذا اليوم ( 2 ملوك 17 : 24 – 41 ) .
كذلك فعل الاسكندر المقدوني ( 356 – 324 ق.م ) عندما استولي علي السامرة في عام 332 ق.م – ونقل سكانها إلي شكيم وأتي بمقدونيين وسوريين وأسكنهم فيها . ومما زاد القطيعة حدة وشدة بين اليهود من سبط يهوذا وبين السامريين – حتى أنه قد حدث الآتي :-
1 – رفض ( زربابل الملك ) – أن يشارك السامريين اليهود في بناء الهيكل في أورشليم – حيث أنه يزعمون أنهم يعبدون الرب مثلهم تماماً – فحنق السامريين علي اليهود وجعلوا يحاربونهم ويقاومونهم وانضموا إلي أعداء اليهود في تعطيل بناء الهيكل ، وتعطيل بناء سور أورشليم .
2 – وقد جاء في سفر نحميا – أنه عندما سمع ( سنبلط ) – أن اليهود آخذين في بناء سور أورشليم – سخر منهم – وتآمر مع كل من العرب والعمونيون وغضبوا جداً وتحالفوا كلهم يداً واحده علي أنيأتوا ويحاربوا أورشليم وينزلوا بها شراً ( نحميا 4 : 1 – 21 ) .
3 – اشتد العداء أكثر – عندما طرد ( نحميا ) ، ( منسي ) من الكهنوت حسب ما روي المؤرخ – يوسيفورس- المؤرخ اليهودي – ولما كان ذلك بسبب زواج ( منسي ) الكاهن – من ابنه ( سنبلط ) الحوراني – فوعده ( حميه ) ببناء هيكل علي جبل ( جرزيم ) – إذا احتفظ بابنته ولم يطلقهـا – كما طلب شيوخ إسرائيل مـن ( منسي الكاهـن ) – وقد وفي ( سنبلط ) بوعده في بناء الهيكل – في عهد ( الاسكندر المقدوني ) ويعتبر هذا الهيكل – ضد هيكل أورشليم – وكان ذلك نحو سنة 432 ق.م . وسمي بالهيكل السامري – وقد صار جبل ( جرزيم ) جبلاً مقدساً عند السامريين – نظراً لبناء الهيكل فوقه – حتى قام ( يوحنا هركانوس ) بهدم هذا الهيكل ( السامري ) سنة 128 ق.م ومع ذلك ظل السامرين يقدمون قرابينهم علي جبل ( جرزيم ) حيث كان الهيكل .
4 – ومما زاد الطين بله – أنه عندما قام ( أنطيوخوس ) اليوناني ( توفي 163 ق.م ) بأن نجس الهيكل ( في أورشليم ) بأن قدم علي مذبحه ( خنزيرة ) – وأعلن السامريون أنهم لا ينتمون إلي اليهود أصلاً .
5 – وأيضاً – تكرر ما حدث – بعد أن تم تقديم الخنزيرة بقصد ( أن يتنجس ) الهيكل – قام بعض السامرين بإلقاء بعض العظام النجسة علي هيكل أورشليم – وذلك في السنة السادسة قبل الميلاد مما جعل اليهود تشتد كرههم للسامريين – حتى صار اليهودي يعتبر طعام السامري نجساً بمثابة لحم الخنازير – بل لقد غالي اليهود في احتقارهم للسامريين حتى صار اسم السامري ذاته نجساً عند اليهودي , وأنه كان يستنكف من أن ينطق به لئلا تتنجس بذكر اسمه شفتاه , وانقطعت بينهما كل صله ولم يعد بينهم أيه علاقات دينيه أو اجتماعيه .
لقد عبرت المرأة السامرية عن مدي القطيعة بين الشعبين حيث أذهلها أن يطلب السيد المسيح منها أن تعطيه ليشرب , فقالت له علي الفور : ” كيف تطلب مني لتشرب وأنت يهودي وأنا سامريه . واليهود لا يخالطون السامريين . ؟ ” ( يو 4 : 9 ) .
وكان جواب السيد المسيح الحقيقي والقاطع , أن العبادة الحقيقية في العهد المسيحي لا ترتبط بالمكان , فهي تقوم علي الروحانية فلا يهم أين يكون السجود ؟ وأين تكون العبادة ؟ وإنما نمارس ( بالروح والحق ) – من أعماق القلب والروح والنفس , وليست عباده مظهريه وشكليه وقال في ذلك له المجد : ” الساجدون الحقيقيون يسجدون للأب بالروح والحق لأن الأب ينبغي مثل هؤلاء الساجدين له , فأن الله روح الذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا ” ( يو 4: 23 – 24 ) .
لقد صارت الكنيسة في العهد الجديد – كنيسة جامعه مسكونة تضم المؤمنين بالمسيح من كل شعب وأمه ولسان من كل مكان . ” ولا فرق بين يهودي غير يهودي , بين عبد وحر , بين رجل وامرأة , فأنتم كلكم واحد في المسيح يسوع ” ( غلاطيه 3 : 28 ) .
المراجع : مقالات في الكتاب المقدس – الجزء الثاني بقلم الأنبا غريغريوس أسقف عام الدراسات العليا واللاهوتية و البحث العلمي .