يعتبر علماء علم المصريات أنّ قصة (سنوحي) المواطن المصري الذى قرّر أنْ يخوض تجربة (الغربة) وذلك عندما هاجر من مصر دون أنْ يكون قد حدّد لنفسه الهدف من الهجرة أو البلد الذى يقصده ، وبذلك كانت قصته الواردة في أكثر من بردية ، والمحفوظة في معظم متاحف العالم ، هي أول تجربة إنسانية عن (الغربة والاغتراب) ليس ذلك فقط ، وإنما هي ((أول تجربة في كتابة السيرة الذاتية)) عن مغادرته مصر ثم إصراره على العودة إلى وطنه الأصلي (مصر) ليدفن فيه.
بدأتْ قصة سنوحي في أعقاب موت الملك (أمنمحات الأول) في الأسرة 12، الذى ورد اسمه في البرديات على أنه (ابن الإنسان) (برستد – فجر الضمير- ترجمة سليم حسن –أكثر من طبعة- ص 218) ونظرًا لأهمية تلك التجربة التى قام بها سنوحي، فقد انتقلت إلى معظم الأدب العالمي ، ضمن العديد من الأدب المصري القديم وكتب برستد ((ويُلاحظ أنّ مصر هي البلد الوحيد الذى حافظ على أقدم الأدبيات ، ومما يدل على ذلك شدة عناية المصريين بهذا الأدب ، اهتمامهم بقصة سنوحي الذى فرّ إلى سوريا بعد وفاة إمنمحات الأول ، ورجع كهلا إلى مصر، بعد أنْ عاش في آسيا. وقد تأثر المصريون كثيرًا بهذه القصة فتجاذبوها في أحاديثهم وكتبوها على قطع الأحجار وعلى شواهد القبور الحجرية تسلية للميت في الحياة الآخرة)) (برستد – تاريخ مصر منذ أقدم العصور إلى العصر الفارسي – ترجمة حسن كمال – مكتبة الأسرة – عام 99- ص 199)
حط سنوحي رحاله في مدينة (رتنو) التى يعتبرها البعض ضمن حدود فلسطين والبعض الآخر ضمن حدود سوريا ، قابله الملك بكل الود والاحترام ، وعينه قائدًا للجيش ، وزوجه من ابنته. وعاش عيشة هنية.
دافع سنوحي عن (رتنو) وقاتل الأعداء المتربصين بها من القبائل المجاورة ، مما أكسبه ثقة الملك وعطفه. ونظرًا لأنّ الملك لم يُنجب أولادًا من الذكور، فقد انتقل الحكم إلى سنوحي بعد وفاة الملك. رغم كل ذلك فإنّ سنوحي ، كانت تلح عليه مشاعر الحنين للعودة إلى وطنه الأصلي مصر، لذلك أرسل عدة خطابات إلى ملك مصر في ذاك الوقت (سنوسرت) طلب فيها السماح له بالعودة إلى مصر. استجاب الملك سنوسرت لطلب سنوحى ورحّب بعودته إلى مصر. وأكثر من ذلك أنه أرسل إليه سفينة لتحمله إلى مصر. كما كافأه على إخلاصه مدة طويلة أثناء خدمته لأبيه (أمنمحات الأول) ووعده الملك أنه (فى حالة وفاته) سوف يتم تنظيم جنازة فخمة تليق بمكانته. وتقلد سنوحي منصب المشرف على بلاط الملك. وقبل وفاته كتب سيرته الذاتية وتجربة الغربة عن مصر ثم العودة إليها من جديد.
ونظرًا لأهمية تلك التجربة ، فقد تقرّر تدريسها لطلاب المدارس لمدة 800 سنة على الأقل، وبصفة خاصة في طيبه. وكان التلاميذ ينقلون فقرات كاملة منها للتدريب على الكتابة.وكتب العالم كيبلنج عن قصة سنوحي أنها ((تـُعد بحق من روائع الأدب العالمي.. إنها تاريخ حياة أحد رجال حاشية أمنمحات الأول ، وعندما غادر مصر اتجه ناحية السويس ، ثم وجد نفسه في الصحراء وكاد أنْ يموت من العطش والجوع . وبعد أنْ استقرّ به المقام في البلد الغريب وتزوج وعاش عيشة رضية ، تملكه الحنين للعودة إلى وطنه الأصلي مصر)) وأكد عالم المصريات الكبير (جاردنر) الذى ترجم هذه القصة من الهيروغليفي على أهميتها وعلى أنها من روائع الأدب العالمي. وشاركه في ذلك عالم المصريات الألماني الكبير (أدولف إرمان) في كتابه (الأدب المصري القديم)
ومن المقاطع المهمة – كما وردتْ على لسان سنوحي – أنه قال ((أيها الإله – أيًا كنتَ –يا من أمرتَ بهذا الهروب ، كنْ رحيمًا وأعدني إلى وطني ، لربما أذنتَ لي أنْ أشاهد من جديد المكان الذى ما زال عقلي وقلبي يمضيان فيه أيامهما . أيوجد شيء أهم من أن يُسجى جسدي في أرض البلد الذى وُلدتُ فيه. فليمنحني الإله رحمته ويعمل بالأسلوب المناسب ويضع نهاية طيبة لمن أثقلته بالأسى ، ويعتصر الألم قلبه كل من فارق وطنه. لقد بلغتُ من العمر عتيًا ويلاحقني الوهن ، عيناي متثاقلتان ، وساعداي بلا قوة ، وساقاي ترفضان السير، وعقلي متعب. إني أقترب من لحظة الرحيل ، لحظة أنْ يصطحبني فيه القوم إلى المساكن الأبدية (مقابر الموتى ولقاء الإله أوزير) ولقاء حورس ((الذى تؤمن ولادته الجديدة الحياة)) ابن (رع – آمن – إم – حات) ليحيا في الزمن اللانهائي.. الزمن الأبدي.
وجاء في المرسوم الملكي الموجه إلى سنوحي ((انظر : لقد تمّ إبلاغك بمرسوم الملك ، لكي تحاط علمًا بما يلي : لقد تنقلتَ هنا وهناك في البلاد الأجنبية ، وسلمك بلد لبلد آخر، بدافع من قلبك وعقلك فحسب ، ترى ماذا فعلت إذن لتخشى أي إجراء ضدك ؟ لم تكن قد جدفت لتستوجب كلماتك عقابًا ، هذه السماء هي سماؤك. عُدْ إلى مصر، فتشهد المقر الملكي من جديد الذى نشأتَ فيه. فاليوم بدأ بالنسبة لك زمن الشيخوخة. فكر في يوم الدفن.. يوم الانتقال إلى الوضع المبجل، عندئذ يكون الظلام من نصيبك ، والزيوت اللازمة للتحنيط . وسوف يُنظم من أجلك موكب جنائزي ويُعد لك تابوت من الذهب ورأسه من اللازورد وتوضع سماء من فوقك في التابوت ، وتسحبك العجول (المقدسة) ويتقدمك الموسيقيون . ومن أجلك أيضًا سوف تؤدى رقصة الــ (موو) عند مدخل المقبرة (رقصة الموو، رقصة جنائزية تقليدية) عليك ألاّ تقضى نحبك في بلد أجنبي . لن يدفنك الآسيويون. لقد فات زمن الترحال ، فكر في المرض وعُدْ إلى مصر.
وعندما وصلته تلك الرسالة كتب سنوحي ((وصلني هذا المرسوم الملكي.. وبعد قراءته انبطحتُ أرضًا على بطني ولامستُ تراب الأرض ونثرته على شعري ، وصحتُ : كيف ساقني قلبي على هذا النحو إلى البلاد الأجنبية والهمجية؟)) ثم كتب سنوحي خطابًا موجهًا لملك مصر قال فيه ((السلام لك.. وإلى الإله الكامل الذى يحبه (رع) ويثنى عليه الإله (مونتو) سيد طيبة. ليتَ آمون و(سوبك رع ) وحورس وحتحور و(آتوم) وتاسوعه الإلهي و(حورس الشرق) وسيدة (بوتو) التى تضم رأسك . وجميع آلهة البلد المحبوب والجزر شديدة الاخضرار، تهب أنفك الحياة والقوة ، ولتتحد بك ومعها مواهبها ، لتمنحك الأمن الأبدي بلا نهاية والزمن اللانهائي بلا حدود )) وعندما عاد سنوحي إلى مصر استقبله الملك وقال لرجال القصر ((سنوحي لن يُفزع أبدًا.. لن يخاف أبدًا.. وهو من الآن (صديق) وسط رجال البلاط .. اذهبوا إذن إلى (بيت الصباح – قاعة التطهر والاغتسال) ثم كتب سنوحي ((أزالوا من جسدي آثار السنين.. ومُـنحتُ مسكنـًا وحديقة. وصُنع لي تمثال من الذهب ، وكان الملك هو الذى أمر بذلك ، وهكذا نلتُ رعايته إلى أنْ جاء يوم الرُسو)) أي يوم الذهاب إلى العالم الآخر.
وكتبتْ عالمة المصريات (كلير لالويت) التى ترجمتْ قصة سنوحي ((إنّ قصة سنوحي هي قصة مغامرات طويلة وعلى قدر كبير من الغرابة. ولا ندرى بوضوح الأسباب التى دفعته إلى تلك المغامرات. وبوسعنا أنْ نطرح عددًا من الأسئلة : من هو سنوحي؟ في بداية النص يُعلن أنه يعمل مع الملكة والأميرات ، ونشأ في القصر الملكي.. ولذلك نفهم مدى السعادة التى أظهرها الملك ومن معه بعودته)) ثم تتساءل (كلير لالويت) هل سنوحي شخصية حقيقية أم شخصية روائية من وحى الخيال؟ وتساءلتْ أيضًا حول أسباب الهروب من مصر والإقامة الطويلة في البلاد الأجنبية ، أهو خوف مفاجئ؟ الخوف من سماع معلومات عن مؤامرة ، فقد يُعرضه إفشاء هذا السر إلى العقاب؟ ولكن بعد أنْ تسلم الأمير سنوسرت الحكم اختفتْ أسباب هذا الخوف ، ومع ذلك يتكرر الشعور بالخوف عبر النص، فيبدو الأمر على قدر من الغرابة ، حتى أننا نميل إلى الاعتقاد أنه كان مجرد مُبرّر للتأكيد على عصر ازدهرت فيه العلاقات الدولية. في تلك الفترة كانت مصر قد تلقتْ تحذيرًا من الغزوات الأجنبية بدءًا من الأسرة السادسة حتى نهاية الأسرة العاشرة ، فهل كان سنوحي مبعوثــًا سريًا ، وتمّ تكليفه بتدعيم الروابط مع شيوخ الصحراء والمدن الفينيقية والتعرف على مواقفهم السياسية؟ إنّ وضعه كهارب أو كلاجئ سياسي (بالمفهوم العصري) كان يسمح له أنْ يفهم بمزيد من السهولة حقيقة موقفهم السياسي. وبالفعل فإنه يًوضح للملك في خطابه أنّ منهم الأمراء المخلصون الذين يمكن الاعتماد عليهم . لذلك ربما كانت القصة مجرد أحداث حيكتْ حول إطار سياسي ظلّ سريًا. ومن المُرجّح أنّ المصريين أحبوا تلك القصة على نحو خاص ، إذْ نسخوها مرارًا وتكرارًا ، لأنهم كانوا يفهمون على ما يُظن مغزاها الحقيقي، وأنها كانت تعود بذاكرتهم إلى وقائع كانت حقيقية ، وإنْ كنا نحن نجهلها ، ومع ذلك فهي رواية مقنعة.
كما أنّ نص قصة سنوحي يُقدم معلومات مفيدة حول موقف المصريين إزاء الملك ، بعد أنْ تأسّس النظام الملكي الجديد : إنها إرهاصات لأيديولوجية التحامسة والرعامسة التى تمّ الإعداد لها منذ وقت بعيد . إنّ التصور الذى كان قد تكوّن عن الملك ، أخذ يتنوع ويصطبغ بصيغة إنسانية. إنّ الملك المصري يُجسّد السيادة والقوة ، ولكنه أيضًا الملك الخيّر للحكمة والمعرفة ، ويعرف كيف يًظهر الرقة والرحمة. وأضافتْ العالمة (كلير لالويت) أنّ نص قصة سنوحي مكتوب ((بلغة كلاسيكية آية في الجمال ، كما أنه انعكاس لمختلف التقاليد الأدبية ، سواء القديم منها أو الجديدة . إنّ التضاد الإيقاعي بين الفاقة التى كان يعيش فيها سنوحي في السابق ، ثم حالة الثراء بعد ذلك ، تـُذكرنا بمرثيات الحكيم المصري (إيبور) كما تظهر الأناشيد إلى الملك في قوالب شعرية ، وهو النوع الأدبي الذى نشأ آنذاك ثم تطور في وقت لاحق . كما نتعرف في هذه القصة على مواضيع أكثر عمومية ، مثل تفوق الإنسان الفطن الماهر، ولا يغتر بقوته ، وهو موضوع ظلّ يًراود وعى الإنسان منذ أقدم العصور، ولذلك ((تـُعتبر قصة سنوحي فصلا مهمًا من تاريخ الأدب المصري)) (نصوص مقدسة ونصوص دنيوية من مصر القديمة- ترجمة ماهر جويجاتى- دار فكر للدراسات – المجلد الثاني – عام 96- من ص 313- 327)
وكتب د. ميرفت عبد الناصر أنّ قصة سنوحي عبارة عن ((قصيدة كتبتْ بلغة الحلم ، بل إنها خليط من بقايا الحلم وأنصاف حقائق : أحداثها مشكوك فيها ولا يمكن التحقق منها أو محاولة استعادتها وسطورها تجرفنا معها في سيل من التساؤلات : لماذا هرب سنوحي من مصر؟ وما علاقة موت الملك به؟ وإذا كان قد وجد الأمان والعيش الكريم في مكان آخر، فلماذا يحيا بحلم العودة؟ وما معنى العودة؟ وما تلك العلاقة الغريبة بين الإنسان والمكان؟ وما الخصوصية التى تربط بين مكانية الميلاد ومكانية الوفاة؟ كل تلك التساؤلات تعرّضتْ لها كتب التاريخ وكثرتْ التساؤلات حول أسباب هروب سنوحي : هل لسنوحي حقيقة علاقة بموت الملك؟ هل هو مجرد متهم هارب من جريمة ارتكبها وشارك فيها؟ وكيف يكون مجرمًا طريدًا وهو الذى يؤكد في شعره أنّ خروجه من مصر كان فعلا اختياريا من منطق إرادته؟ أم أنّ هذا الخوف هو خوف من نوع آخر؟ خوف الطفل المتمرد على أمه الذى يعيش صراع الرغبة في أمان وحضن الأم ، والرغبة في اكتشاف الغامض الذى يكمن وراء حدود هذا الحضن؟ أي أنّ سنوحي بهروبه من وطنه قد هرب من جغرافية ذاته من أجل أنْ يكتشفها بالفعل ، ومن هنا تبدو رحلة سنوحي ((رحلة حياة ومشوار وجود)) أي أنها رحلة الذات في بحثها الدائم من أجل تحقيق الذات.. وبهذا التفسير يُصبح مأزق سنوحي مأزقــًا وجوديًا يشبه الحالة الإنسانية عند ((غياب أو موت الرب)) مما يجعل المنفى هنا هو هذا المكان الآخر الذي حاول سنوحي (الإنسان) أنْ يُحقق من خلاله نوعًا من الهارمونية التى يفرضها العقل على الفوضوية الأرضية الناشئة عن غياب سلطة عليا أملا في أنْ يُعيد الإنسان أو يستعيد بنفسه نظامية الوجود مرة أخرى . خاصة وأنّ القصيدة تبدأ من القبر وسنوحي في حالة (موت متخيل) يؤكد بها علاقة الموت بالبداية ، فالموت مدفون في البداية أو بمعنى آخر الموت هنا هو ((شهادة الميلاد)) وقد تأكد ذلك من أنّ سنوحي يتحدث كما لو كانت روحه في حالة انتظار ميلاد أفضل ، وكأنّ القبر هو رحم العفو والصفح ، فلقد أدخل روحه – عمدًا – عالم القبور من أجل أنْ يجد المعنى الحقيقي لحياته السابقة. فالهبوط إلى القبر هو تجوال في دنيا الأخروية ، وكأنّ سنوحي يأخذنا في رحلة تشبه رحلة دانتي في الكوميديا الإلهية ، حين تتألم الروح في البداية وتحترق برغباتها وطموحاتها وصراعاتها الدنيوية وهو ما يحدث في طبقة النيران السفلية (الأنفيرنو- المحرق) ثم تمر بطبقة أكثر سموًا تحاول الروح فيها التطهر.. لتصل في النهاية إلى مرحلة الاكتمال في (فردوس) الأرواح النقية (الباراديسو- الجنة) ومن الطريف أنّ اسم سنوحي يعنى (ابن الجميز) فيقول ((يا شجرة الجميز الغالية.. أناديكِ.. لتعطيني الماء والهواء.. هذا الذى يسبح في جسدك القدسى))
وفى تلك القصيدة تتكرر كلمة (الآسيوية) كثيرًا لتكون كناية عن الخطر وعن الغربة بكل ما يعشش فيها من مشاعر لا سيما الشعور بالعدوانية واضطهاد (الآخر) لذلك فإن صراع سنوحي هنا (صراع هوية) يحاول فيه بكل الطرق تأكيد (مصريته) من خلال اعتزازه بمصر وبكل ما فيها. يستخدم سنوحي تعبير (أرض الفرح) كناية عن مصر. ويحاول تمصير الغربة في خياله وأحلامه. ويرى نفسه ثورًا طريدًا ، هذا الصراع الذى عبّر عنه سنوحي ، صراع بين الخضرة والصحراء ، بين استيطان المدينة والقبيلة.. استيطان الوطن (الثابت المستقر والمُحدّد بجغرافية واضحة) والصحراء الشاسعة ذات الرمال المتحركة. لذلك كتب ((هل أنا ثور هائم؟ بين قطيع خراف؟ هل يمكن أنْ يحبوني ؟ وأنا رجل من الدلتا ؟ هل سيسمحون لي ، أنْ أكبر.. أنْ أسمو؟ وأنا الغريب المحكوم عليه أنْ يكون دائمًا الأقل شأنـًا)) ورغم أنه شغل منصبًا رفيعًا في بلد الغربة فإنه كتب في موضع آخر من القصيدة ((طريد أنا.. هارب من الألفة.. يعطى الخبز لجيرانه.. وهو الجوعان.. عاريًا.. بعد أنْ ترك أرض الكتان الأبيض.. يسكن قصرًا عظيمًا.. تسكنه أيضًا ذكريات أعظم.. يزداد حنينه إلى تلك السيدة النبيلة.. يريد أنْ يعرف حال أطفالها.. ويسمع صيحاتهم من جديد.. لتعود – مرة أخرى – إليه الحياة.. إلى عوالم أخروية.. هو ذاهب. خطواته تتبع سيدة العالم.. علــّـها ترضى عنه يومًا ما.. وتخلع عليه قليلا من أبديتها)).
وتنتهي القصيدة بميلاد جديد ، ميلاد رمزي سنوحي أطلق عليه اسمًا جديدًا هو (ابن رياح الشمال) دلالة على غربته ، مع تأكيد في نفس الوقت لمصريته ولاسمه القديم ، فحتحور سيدة الجميز وهى نفسها سيدة رياح الشمال. وكتبت د. ميرفت عبد الناصر أنّ موضوع (المنفى) في قصة سنوحي ما زال حتى يومنا هذا مثار جدل : هل كان المنفى حقيقيًا أم استعاريًا؟ وهل الخروج من الوطن كان خرجًا حقيقيًا أم أنها فقط هجرة نفسية وعقلية؟ ومن منطلق هذا الجدل جاءتْ معالجات أدبية كثيرة لنص سنوحي من الأوستراكا المحفوظة في متحف (الأشموليان) في بريطانيا ، ومن هذه المعالجات الأدبية (عودة سنوحي) لنجيب محفوظ ، ولكن أكثر هذه المعالجات شهرة هي قصة (المصري) للأديب الفنلندي (ميكا والتارى) الذى كتبها عام 1945 عن حياة سنوحي وتم ترجمتها (تقريبًا) إلى كل لغات العالم ، وصنعتْ هوليود من تلك القصة فيلمًا فاشلا ، لأنه لم يكن في مستوى الرواية (د. ميرفت عبد الناصر- لماذا فقد حورس عينه؟ قراءة جديدة في الفكر المصري – دار شرقيات – عام 2005- من ص 47 – 58)